Alef Logo
المرصد الصحفي
              

بعدما أتعبه حب النساء ورثاء البلاد: علي الجندي عاش مع الجميع ورحل وحيدا / أنور بدر

2009-08-14

الراحل في سنواته الأخيرة


دمشق ـ 'القدس العربي' شكل علي الجندي ظاهرة في الحياة الثقافية لمدينة دمشق في ستينات القرن الماضي، بعد أن سكن لأربع سنوات في بيروت التي كان يعتبرها عاصمة الدنيا، عاد إلى دمشق يحمل ثقله الشعري الذي باركته مجلة 'شعر' إذ نشرت أغلب قصائده في النصف الأول من الستينات، لكنه يُصر 'لم أشعر بالانتماء لهم' مضيفاً في إحدى اللقاءات الأخيرة معه 'كانوا غير ديمقراطيين في نقاشاتهم السياسية والثقافية رغم ادعائهم غير ذلك'.
ورغم تسلمه الإدارة العامة للدعاية والأنباء التي تعادل وزارة الإعلام حالياً، إلا أنه اعتبر نفسه شاعراً أولاً وأخيراً، مارس الصحافة وقدم بصوته برنامجاً إذاعياً عن الشعر، لكنه وكما يقول في حوار متأخر معه سنة 2000 'كان يخطر ببالي أن أكون صحافياً أو ممثلاً، لكنني فشلت إلا أن أكون شاعراً'.
وفي شعره كان الجندي مخلصاً لنفسه وقناعاته، لم تستطع أن تأخذه الوظيفة أو الصحافة، بل ركن إلى زملاء القصيدة ممدوح عدوان وعلي كنعان، وفي تلك الفترة كان محمد عمران والماغوط وظهر إبراهيم الجرادي وآخرون، فقط أدونيس كان بعيداً في بيروت، أو في فرنسا لاحقاً، وفد غلبت على هذه المجموعة نزوعات قومية يسارية شكلت المناخ العام لمدينة دمشق.
في عام 1969 اجتمعت شلة موسعة من الأدباء في مكتب علي الجندي وبرعاية قريبه عبد الكريم الجندي حيث تم إعلان تشكيل اتحاد الكتاب العرب، وشغل الجندي فيه منصب نائب الرئيس، وتسلم الرئاسة وقتها د. سليمان الخش، وكان وزيراً للتربية، مما يعني نهوض الجندي بأعباء الاتحاد لتلك الفترة.
لكن الدور الأهم لعلي الجندي كان في ترسيخ الحداثة الشعرية لجيل الستينات، لم يذهبوا مع الماغوط أو أدونيس باتجاه قصيدة النثر، لكنهم أكدوا سيادة التفعيلة في القصيدة الحديثة والتي منحت نتاجهم غنائية متفاوتة، كما اشتغلوا على اللغة التي مالت باتجاه ما هو يومي ومعاصر مع الابتعاد عن الخطابية والإنشائية السابقة، وقد استفاد الجندي من دراسة الفلسفة في الذهاب مع قصيدته إلى أقصى بواطن الشاعر الذي صنعت المرحلة تراجيديا جيله بأكمله، جيل عاش الهزيمة حتى أعماقه، مع أن بعض دارسي شعر الجندي يؤكدون تنبؤيته في حدس واستشراف الهزيمة منذ ديوانه الأول 'الراية المنكسة' سنة 1962، فالهزيمة صنعت مأساة شعوبنا العربية كما صنعت تراجيديا ذلك الجيل الذي رأى وطناً يستباح وأحلاماً تنهار، فكتب الجندي في مرثيته للوطن قصيدته الشهيرة 'سقوط قطري بن الفجاءة' والتي ضمنها ديوانه 'الحمى الترابية' سنة 1969 ويقول فيها:
'..وداعاً يا ديار العزّ والمنفى، ويا قبر الهشيم الرطب، يا لحم الأعاصير الخرافية..وها أنذا أجي إليك يا بلدي من الصمت، محملة غصون شبابي المضنى بأثمار تفيض بنكهة الموت' ... 'وماذا بعد؟ ماذا بعد؟ حسبي في هواك المرِّ أني السيد العبدُ /وحسبي أنني أحيا فقيراً معوزاً في الكون لا أملك/ ولن أملك/ سوى من أرضك المعطاء ما يحتاجه قبري'.
هذه المشاعر صنعت مفارقة لجيل اتهم بالصعلكة والتمرد، لكنه كان في خلفية تمرده يبني موقفاً من الواقع القائم، ومن سلطاته السياسية. لذا كنى علي الجندي نفسه بـ'أبي لهب' ضد كل المخزون الرسمي للثقافة التي أنكرت أبا لهب. كما كتب في مجموعته المتأخرة 'النزف تحت الجلد' الصادرة سنة 1973:

متعب بالبلاد التي طال فيها حنيني إليها
مرهق من ترابها الذي صار في العين شوكاً
وتحت اللسان حليباً وخبزاً مريراً.

أما في قصيدته 'صلاة لزمن يجيء' من مجموعته 'بعيداً في الصمت' 1981 فيقول:

أرى الوطن المتبحر في القهر يغرق،
يوشك أن ينتهي
في القرار العتيم
أرى الوطن، القهر يغدو سلافة أرض،
بقايا بلاد تُرسب
ملجأ يتم عقيم
دعوني أرى وطني، وطني لم يعد وطني.

بينما في ديوانه 'قصائد موقوتة 1986 يتابع الجندي مرثية الوطن:

وطني صار ملفاً حائل اللون على طاولة التاريخ
آه يا أحبابي البعيدين، وأمجاد بلادي
لم تعد غير عتابا وربابة
يتبكاها الحزانى في نهايات الليالي

كما يقول في ديوانه 'صار رماداً' 1987 :

أنا وطن مثخن بالجراح
وأنت بلا وطن فاسكنيني
أُملح جسمك من ترابي
وأحنّي يديك بماء عيوني
تقيمين في وطن متعب فيواسيه أنك فيه
ويواسيك أنك تستوطنين بلاداً
مكرسة لحنينك

حتى أن الشاعر ممدوح عدوان يكتب أن ' أول حرف من اسم علي الجندي هو الوطن' لكنه الوطن المثخن بالجراح والمستباح، حتى أن عدوان يقول عن هذه الفجائعية في شعر الجندي أنها 'طاقة هائلة من الحزن والشهوات المكسورة'.
ونحن فعلاً نستطيع أن نقرأ كل مفردات الحزن واليأس والقهر والانكسار والخوف، والموت في قاموس علي الجندي الشعري، قاموس اشتغل فيه على موضوعتي الهزيمــة والموت، ولعل الأولى تورث الثانية، أم أن الموت ينبثق منها . حتى انه يبشر بالموت المقبل، موت يقرأه كما العرّاف في قعر كأسه، فيكتب في قصيدته 'نخب البشرى':
أكتم آهاتي في صدري، وأبكي في صمت
خجلاً من أن ألمح في المرآة دموعاً
في أجفاني
أتأمل مستقبلي الملوي العنق
بقعر الكأس
وأحكي للأصحاب القصص السكرى
أرفع كأسي مبتسماً في حزن
نخب الصمت الجارح يا أصحاب
الموت المقبل
نخب البشرى.

هذه البشرى التي تغدو حقيقة، يقرر أن يواجهها في ديوانه الأخير 'سنــــونوة الضـــياء الأخير' الصادر في بيروت سنة 1990 إذ يقول:

إلى أين المفر؟
كل مجرى الموت قدامك والماضي وراءك
أنت لا تهرب من ماضٍ
ولا من مقبل أسود
بل تهرب من أعماقك المشتعلة.

هذه الأعماق التي أحرقت بنارها جيلاً بل أجيالاً إثر الهزيمة التي ما زلنا نعيش في مناخاتها التي صاغت حياتنا طيلة تلك السنوات، ولكن مع يقين الشاعر بهذه النهاية يكون قد قرر الاستسلام 'أسلمت نفسي للزمن' ويطوي أوراقه مغادراً المدينة التي شهدت كل معاركه وغزواته وهزائمه، يغادرها متجهاً صوب البحر، هو الذي ولد في مدينة سلمية على قوس البادية أو الصحراء، ليملح الوطن في جسده أو يتملح في ماء البحر بعدما صنع من شعره جناحي سنونوة وطار بهما إلى حيث النهاية. نهاية جيل عاش الهزيمة بشجاعة وحب وفروسية، حتى لو قيل عنها الآن أو عنه 'دون كيشوتية' فالأحلام كانت قناعات في الزمن الغابر.
وقد عاش علي الجندي شعره وقناعاته كجيل، بل عبر عن جيل بأكمله في العشق والثقافة وحب الوطن، لكنه مات مفرداً في عزلته في مدينة اللاذقية، حتى أن اتحاد الكتاب العرب الذي أسسه لم يكلف نفسه في هذه المناسبة وفي حضرة الموت أكثر من نعوة في الصحف الرسمية وكفى الكتاب شرّ العزاء، علما بأن معرض الكتاب الدولي في دمشق كان مناسبة لتكريم هذا العلم في الشعر العربي وفي الحداثة الشعرية، لكنهم ضيعوا هذه الفرصة التي كان يمكن أن يكبروا بها لو كانوا يعلمون.



تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow