Alef Logo
أدب عالمي وعربي
              

روبيرتو بولانيو.. الخلود بالموت: هجر الشعر إلى السرد لكي يعيش ترجمة غازي القبلاوي

2009-08-15

مؤسس أدب 'ما دون الواقعية' في أمريكا اللاتينية
غازي القبلاوي
15/08/2009


يمثل الادب الامريكي اللاتيني بخياله السحري وواقعيته الخشنة، بشعره وسرده، احد أهم مصادر التطور الابداعي على مستوى الادب العالمي. كما تعد امريكا اللاتينية أكثر المناطق حيوية ونشاطاً على صعيد الانتاج الادبي وتنوع المدارس والاسماء التي يتم ترجمتها وتصديرها بجميع لغات العالم وأهمها الانكليزية والفرنسية وبطبيعة الحال العربية.
ويحاول بعض نقاد الادب اللاتيني تقسيم مدارسه إلى الفانتازية (الخيالية)، والواقعية المجردة ولدى كل مدرسة اسماؤها وخصائصها حتى أن البعض جنح إلى توزيعها جغرافياً، فدول شمال أمريكا اللاتينية انتجت الفانتازيا، مثل اعمال كورتثار وماركيز، بينما انتجت الدول الجنوبية الواقعية، مثل أعمال فارغس يوسا وايليندي، إلا أن ظهور الواقعية السحرية وإن كانت تصنف ضمن المدارس الفانتازية جعل مثل هذا التصنيف الجغرافي غير ذي قيمة نقدية عند دراسة الادب اللاتيني بشكل عام.
ومع تطور المجتمعات اللاتينية في العقود الثلاثة الماضية على عدة مستويات ظهرت اساليب ومدارس ابداعية جديدة، تحاول التمرد على القوالب والاشكال الابداعية التي ميزت الادب اللاتيني المعاصر.
يعتبر الشاعر والروائي التشيلي روبيرتو بولانيو أحدث الاسماء التي يتم الاحتفاء بها على المستوى العالمي على الرغم من المفارقات ـ الساخرة والمأسوية- التي ترتبط باسم هذا الكاتب المتمرد على كل الاشكال والقوالب الادبية التي انتجها الادب اللاتيني على مر العقود السابقة. فعلى الرغم من تصنيف نفسه كشاعر إلا أنه كتب القصة القصيرة والرواية، وعلى الرغم من اعتباره أحد أهم الاسماء في الادب التشيلي المعاصر إلا أنه عاش معظم حياته الابداعية بين المكسيك واسبانيا.
ولد روبيرتو بولانيو العام 1953 في مدينة سانتياغو التشيلية لأب عمل في قيادة شاحنات النقل إلى جانب احترافه للملاكمة بينما عملت أمه كمعلمة للرياضيات، وقضى جانباً من طفولته في التشيلي حتى العام 1968 عندما انتقلت عائلته للعيش والعمل في العاصمة المكسكية (مكسيكو سيتي).
بدأ بولانيو في مطلع السبعينات من القرن العشرين يرتاد حلقات الشعراء اللاتينيين المنتشرة في مدينة مكسيكو سيتي وكانت محاولاته الشعرية الأولى متأثرة بالشعراء اللاتينيين الكبار أمثال نيرودا وفاليخو وبارا، إلا أن رحلته إلى مسقط رأسه التشيلي في العام 1973، لمساندة الحركة الاشتراكية التي انطلقت في البلاد بانتخاب الرئيس سالفادور ايليندي ومن ثم الاطاحة به في انقلاب الجنرال بينوشي الدموي، كانت أحد أهم المنعطفات التي شكلت حياته وأسلوبه الادبي فيما بعد، فعلى اثر خروجه من المعتقل الذي قضى فيه فترة قصيرة في التشيلي، عاش بولانيو متشرداً بين السلفادور والمكسيك وفرنسا واسبانيا والتي انتقل إليها بشكل نهائي العام 1977 متخذاً من مدينة برشلونة مقراً له. انتقل بولانيو في هذه الفترة بين عدة أعمال، من غاسل للصحون، إلى جامع للقمامة، ليقضي باقي وقته في المطالعة والكتابة.
استمر بولانيو في كتابة الشعر بشكل متقطع طيلة عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي إلا أنه تحول إلى الكتابة السردية (القصة والرواية) مع منتصف الثمانينات، وبالرغم من ذلك فقد استمر في تصنيف نفسه كشاعر واعتبر الكتابة السردية وسيلة لكسب العيش له ولأسرته الصغيرة، وهي ما حققت له مكانة مرموقة في اسبانيا وامريكا اللاتينية.
صدرت أولى أعماله السردية بالاسبانية العام 1984، لتتوالى اعماله الروائية بعد ذلك حتى صدور روايته (المخبرون المتوحشون) العام 1998 التي لاقت نجاحاً كبيراً في اسبانيا تحديداً وفازت بعدد من الجوائز الادبية. وعلى الرغم من غزارة انتاجه الروائي في فترة قصيرة من الزمن (عشر سنوات) فإنه لم يحظ بشهرة عالمية إلا بعد أن ترجمت روايته (ليلاً في تشيلي) العام 2003 إلى الانكليزية، وهو نفس العام الذي توفي فيه ربيرتو بولانيو بمرض الفشل الكبدي والذي عانى منه طيلة السنوات العشر الاخيرة من عمره والتي انتج فيها معظم أعماله الروائية.
وعلى الرغم من وفاة روبيرتو بولانيو قبل اكثر من ست سنوات فإن اعماله السردية الجديدة ما تزال تصدر كل عام، بل إن أضخم رواياته التي انجزها قبل مماته هي روايته الملحمية المقسمة إلى خمسة اجزاء والمعنونة (2666) والتي صدرت بعد عام من وفاته بالاسبانية (العام 2004) وبالانكليزية مطلع العام 2009، وهناك حديث عن اكتشاف المزيد من المخطوطات الروائية التي تركها الكاتب والتي يتوقع صدورها بعدة لغات قريباً.
يعد روبيرتو بولانيو أحد مبدعي المدرسة الادبية الحديثة التي اطلق عليها اسم (ما دون الواقعية) Infrarealism والتي اشترك في اطلاقها مع الشاعر المكسيكي ماريو سانتياغو منتصف السبعينات في المكسيك والتي دعا فيها الادباء اللاتينيين لترك حياة الادب التقليدية في المقاهي والمكتبات والتوحد في حياة التقشف والتشرد والانغمــــاس في الادب بشكل كامل وهو ما جعل كتاباته السردية بشكل عام تنحو للسيرة الذاتية والاستعارات المتكررة للشخوص واسماء الاماكن التي مرت في حياته، ولعل اشهر هذه الشخصيات الروائية التي قام باستعمالها في عدة اعمال سردية هي شخصية الشاعر (ارتورو بيلانو) وهي تحوير لغوي في اسم روبيرتو بولانيو نفسه.
تتميز كتابات بولانيو بالتركيز على السرد اليومي الرتيب، دون أن يفقد ذلك من حيوية الشخصيات والاحداث المستخدمة في النص، كما أن تقاطع اشكال ادبية اخرى في السرد مثل المذكرات واليوميات والتقرير الصحافي يجعل من رواياته تتمتع بقدر كبير من الاثارة والعمق الفلسفي ولعل روايتيه (المخبرون المتوحشون) و(2666) ومجموعته القصصية (امسيات اخيرة على الارض) من أفضل الامثلة التي تظهر فيها هذه التقنية السردية التي جعلت من بولانيو علامة ادبية مسجلة لا تقل أهمية عن علامات أخرى في الادب اللاتيني المعاصر.
في مجموعته (أمسيات أخيرة على الارض) والتي اخترنا احدى قصصها (بطاقة رقص) لترجمتها، نتبين بشكل واضح اسلوب بولانيو السردي الواقعي، فنحن أمام قصص لا تعترف بالمسافة بين الواقعي والمتخيل، بل إن الشخصية الراوية للاحداث لا تهتم بالبوح باسمها وينحو بولانيو احياناً إلى استخدام احرف أولى في تسمية بعض الشخصيات في عدد من القصص مثل (أ) و(ب) و(ج) و(ي)، كما لو أن الاسماء في حقيقتها لا تشكل أهمية أمام الحدث والمكان بكليته، وقد يوحي السرد الرتيب للقارئ بأن الكاتب يحاول ايقاعنا في فخ الرتابة لكي يفاجئنا بالنهاية المفجعة أو الاكثر اثارة إلا أن بولانيو لا يقدم لنا سوى نهايات مبتورة في وسط الحدث وكأنه يحاول القول بأن ما ينقله هو مجرد جزء من حركة الزمن في المكان دون محاولة لجعله مبهراً أو مثيراً أو بطولياً.
ولا يخفي بولانيو شغفه بالتجريب فعلى الرغم من تشابه بعض القصص في اماكن حدوثها وفي الشخصيات المتمحورة حولها مما يجعلها أقرب لفصول في رواية واحدة إلا أن ما يمنحنا الاحساس باختلافها وتباينها هو الاسلوب والبناء السردي الذي يتبعه مع كل قصة وهو ما نراه كذلك في أعماله الروائية الضخمة والقصيرة التي كتبت بنفس الاسلوب.
في قصة (بطاقة رقص) والتي نعرضها هنا، نجد هذا التجريب السردي جلياً من خلال تقسيم النص على هيئة اجزاء مرقمة متلاحقة، وكأنها ملاحظات في دفتر يوميات أو ربما برقيات قصيرة تلخص سيرة الكاتب وعلاقته الحميمة بالادب، وبالشعر تحديداً، ولعل الاسباب التي جعلتني اختار هذا النص القصير لترجمته كونه يختزل اسلوب وحياة روبيرتو بولانيو التي بدأت رتيبة وانتهت برتابة كذلك إلا أن اندماجه الاسطوري بالشعر والسرد جعله يصبح أحد الشخصيات الروائية التي تعيش في كتبه، وبالرغم من وفاته العام 2003 فإن تحول أسمه ورواياته إلى ظاهرة أدبية عالمية بعد مغادرته هذه الحياة، جعل من المفارقة الساخرة والمأسوية لشخصيته (ما دون الواقعية) تزداد حياة كل يوم بصدور المزيد من رواياته وقصصه وأشعاره.
روبيرتو بولانيو: ولد العام 1953 بتشيلي وتوفي العام 2003 باسبانيا، صدر له:
شعر:
الكلاب الرومانسية: قصائد 1980-1998 (2000)
ثلاثة (2000)
الجامعة المجهولة (2007)

من أعماله السردية:
الادب النازي في الامريكيتين (1996)
نجم بعيد (1996)
المخبرون المتوحشون (1998)
تعويذة (1999)
السيد خبز (1999)
ليلاً في تشيلي (2000)
2666 (صدرت العام 2004)
أمسيات اخيرة على الارض (2006)


بطاقة رقص روبرتو بولانيو

15/08/2009



كانت امي تقرأ لنا قصائد لنيرودا في كوابلي، كواكوينيس، ولوس انجليس.. كتاب واحد: (عشرون قصيدة حب واغنية يائسة)، دار نشر لوسادا، بيونس ايريس، 1961. على الغلاف الامامي رسم لنيرودا وعبارة تذكر ان هذه الطبعة نشرت بمناسبة صدور النسخة المليون من الديوان. هل حقاً طبعت مليون نسخة من ديوان (عشرون قصيدة) مع العام 1961؟ أم أن العبارة قصدت الاشارة إلى كافة اعمال نيرودا المنشورة؟ اخشى ان الاحتمال الاول هو الارجح، على الرغم من أن كلا الاحتمالين مقلق ويصعب تصوره الآن.. على الصحفة الثانية من الكتاب كتب اسم امي: ماريا فيكتوريا افالوس فلوريس. وبفحص سريع للخط الذي كتب به الاسم اتوصل إلى النتيجة غير المحتملة أن احداً آخر كتب اسمها على الصفحة. فالخط ليس خط والدي أو أي ممن اعرف. فمن يكون إذاً؟ بعد التمحيص الدقيق للتوقيع الذي بهت بمرور السنوات، عليَّ أن اعترف، برغم شكوكي، إن أمي هي من كتبت اسمها على الكتاب. 4. لم تكن أمي في عامي 1961 و1962 مسنة كما هو حالي الآن، فلم تبلغ بعد الخامسة والثلاثين في حينها، كانت تعمل بالمستشفى، شابة وممتلئة بالحيوية.. لقد سافرت هذه النسخة من (عشرون قصيدة)، مسافات طويلة، من مدينة لأخرى في جنوب التشيلي، ومن بيت لآخر في مكسيكو سيتي، ثم إلى ثلاث مدن في اسبانيا.. لم يكن الكتاب لي دائماً بالطبع، في البدء كان لأمي، ثم اعطته لأختي، وعندما غادرت اختي جيرونا ذاهبة إلى المكسيك، اهدتني الكتاب. من بين الكتب المفضلة التي تركتها لي في ذلك الحين، كتب الخيال العلمي والاعمال الكاملة (حتى ذلك الوقت) لمانويل بويج، والتي كنت قد اعطيتها اياها سابقاً واعدت قرأتها بعد أن سافرت.. في تلك المرحلة لم يعد نيرودا يعجبني. باستثناء (عشرون قصيدة حب)!. في العام 1968 غادرت عائلتي إلى مكسيكو سيتي، وبعد عامين، اي في العام 1970، التقيت باليخاندرو خودوروفسكي، والذي اعتبرته فناني النموذجي. انتظرته خارج المسرح (كان يقوم باخراج مسرحية زرادشت، مع ايلا فارجا) واخبرته ان يعلمني كيف انتج افلاماً سينمائية. اصبحت بعدها زائراً دائماً لبيته. اعتقد انني لم اكن طالباً مجدّاً. سألني خودوروفسكي كم انفق اسبوعياً لشراء السجائر. اجبته، ليس بالقليل (كنت دائماً انفث كالمدخنة). نصحني ان اقلع عن التدخين وان انفق المال على دروس التأمل على طريقة زن البوذية التي يقدمها ايجو تاكاتا. حسناً، قلت له. ذهبت إلى الدروس لبضعة ايام، ولكن خلال الجلسة الثالثة، قررت أن التأمل البوذي ليس مناسباً لي.. لقد تركت رفقة ايجو تاكاتا في وسط جلسة تأمل. وعندما حاولت الانسحاب خلسة، أتاني ملوحاً بعصىً خشبية يستعملها مع التلاميذ. كان يقوم بمد العصا وعلى التلاميذ إما أن يجيبوا بنعم او لا، وفي حال كان الرد بالايجاب، فإنه يسمح لهم بتلقي جلدتين يسمع صداهما في ارجاء الغرفة المعتمة والمغشاة بالبخور.. في هذه المرة، لم يسألني كما هي العادة، فكان هجومه مباغتا وعنيفا. كنت جالساً بجانب فتاة بالقرب من الباب، بينما كان ايجو في نهاية الغرفة. اعتقدت أنه اغلق عينيه وانه لن يسمعني وأنا اغادر المكان. ولكن الوغد احس بي، ليعترضني صائحاً مرادف الزن لكلمة (بانزاي!!) اليابانية والتي تعني (هجوم!!).. كان والدي بطلاً للوزن الثقيل في ملاكمة الهواة. واقتصر لقبه الصامد على منطقة جنوب التشيلي. لم تستهوني الملاكمة ابداً، إلا انني كنت أعلم منذ صغري أن هناك دائماً زوجاً من قفازات الملاكمة بانتظاري في البيت سواء في التشيلي او المكسيك.. عندما قفز ايجو تاكاتا أمامي صائحاً، لم يكن يقصد إيذائي، او توقع أن ادافع عن نفسي بشكل تلقائي. فهو يضرب مريديه بالعصا لتبديد توترهم العصبي، إلا أنني اردت مغادرة المكان للأبد.. اذا اعتقدت انك سيعتدى عليك، فإنك ستدافع عن نفسك، فذلك امر طبيعي، وخاصة في السابعة عشرة من العمر، وخاصة في مكسيكو سيتي. لقد كان ايجو تاكاتا نيرودياً في مهارته.. كان لخودوروفسكي الفضل في وجود ايجو تاكاتا في المكسيك، أو كما يدعي. فقد كان تاكاتا في مرحلة سابقة يبحث عن مدمني المخدرات في ادغال اوكساكا، ومعظمهم من امريكا الشمالية تعثروا في ترحالهم ولم يجدوا طريق العودة.. بالرغم من ذلك فإن تجربتي مع تاكاتا لم تجعلني اقلع عن التدخين.. أحد الاشياء التي اعجبتني في خودوروفسكي، عند حديثه الناقد للمثقفين التشيليين، أنه كان يشملني معهم. كان ذلك يعزز ثقتي في نفسي، رغم انه لم تكن لدي نوايا لمحاكاة أولئك المثقفين المذكورين.. في ظهيرة احد الايام، لا اذكر كيف، عرجنا في نقاشنا على الشعر التشيلي. قال أن اعظم شاعر تشيلي هو نيكانور بارّا. وقام في الحال بالقاء بعض من قصائد نيكانور، واحدة تلو الاخرى. كان إلقاء خودوروفسكي جيداَ إلا أن القصائد لم تعجبني. كنت في تلك المرحلة شاباً عالي الحساسية، كما كنت تافهاً ومغروراً، واعلنت أن افضل شاعر تشيلي بدون ادنى شك هو بابلو نيرودا. والبقية، اضفت قائلاً، مجرد اقزام. استمر النقاش لمدة نصف ساعة بعدها. قام خلالها خودوروفسكي باستعراض آراء جوردجيف، كريشنامورتي، ومدام بلافاتسكي، وتابع حديثه عن كيركيغارد ووتجينستاين، ثم توبور، ارابال ونفسه. اتذكر انه قال بأنه استضاف نيكانور في بيته، عندما كان في طريقه لمكان ما. اذكر انني لمحت زهواً طفولياً عند تصريحه هذا، وهو ما لاحظته عدة مرات لدى معظم الكتاب.. يذكر باتاي في احد كتبه أن الدموع هي اعلى اشكال التخاطب. رحت اجهش بالبكاء بشدة، تاركاً الدموع تنساب بسلاسة على خدي، ولكن بدفقات جامحة، مبللاً كل شيء، مثل أليس في بلاد العجائب.. ما ان غادرت بيت خودوروفسكي حتى تبين لي أنني لن اعود إليه أبداً، وهو ما آلمني بنفس القدر الذي آلمني ما ذكره في حديثه، لأواصل بكائي في الشارع. بل الاكثر خطورة أنه تبين لي ايضاً أنني خسرت معلماً لطيفاً مثل ذلك السارق النبيل والمحتال الماهر.. ولكن ما آساني كثيراً هو حجتي الضعيفة ودفاعي البائس (لقد كان دفاعاً على اية حال) عن بابلو نيرودا، في حين أن كل ما قرأته له كان ديوان عشرون قصيدة حب، (وهو ما بدا لي مضحكاً بسذاجة في تلك المرحلة)، وديوان (الغسق)، بالاضافة لقصيدة (وداعاً) والتي مازلت مؤمناً بها بشدة، على الرغم من انني كنت، حتى ذلك الوقت، ارى انها اقصى درجات الفن الوجداني.. خلال العام 1971 قرأت كلاً من فاليخو، هويدوبرو، مارتن ادان، بورخيس، اوكويندو دي امات، بابلو دي روكا، جيلبرتو اوين، لوبيز فيلاردي، اوليفيريو جيروندو، بل إنني قرأت كلاً من نيكانور بارّا وبابلو نيرودا كذلك!. كان الشعراء المكسيكيون الذين صاحبتهم وتبادلت الكتب معهم في ذلك الوقت ينتمون في الغالب لأحد المخيمين: النيروديين والفاليخويين. أما أنا فقد كنت، بلا جدال، بارّاياً في عزلتي.. ولكن يجب قتل الآباء، فالشعراء يولدون ايتاماً.. عدت في العام 1973 إلى التشيلي، في رحلة طويلة عبر البر والبحر، والتي تأخرت بشكل متكرر بسبب كرم الضيافة. التقيت خلال رحلتي بشتى انواع الثوريين. كنت المح تلك الزوبعة النارية التي كانت ستبتلع قريباً امريكا الوسطى في اعين اصدقائي، والذين تحدثوا عن الموت وكأنهم يتحدثون عن فيلم سينمائي.. وصلت التشيلي في شهر آب (اغسطس) 1973. اردت المساعدة في بناء الاشتراكية هناك. أول كتاب اشتريته كان (أعمال بناء) للشاعر نيكانور بارا. الكتاب الثاني (تحف) لبارا كذلك.. كان امامي شهر لكي استمتع ببناء الاشتراكية. بالطبع لم اكن أعلم بذلك في حينها. كنت باراياً في سذاجتي.. ذهبت لمعرض فني ورأيت هناك عددا من الشعراء التشيليين، لقد كانت تجربة بشعة.. توجهت في الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) إلى الخلية الحزبية الوحيدة في الضاحية التي سكنت وتطوعت فيها. كان مسؤول الخلية عاملاً شيوعياً بأحد المصانع، بديناً ومرتبكاً، ولكنه مستعد للقتال. بدت زوجته اكثر شجاعة منه. تزاحمنا جميعاً في حجرة معيشتهما الصغيرة. بينما كان المسؤول يتكلم، انشغلت بفحص الكتب المصفوفة على المائدة. لم تكن كثيرة، فمعظمها عبارة عن روايات رعاة البقر الهزلية والتي اعتاد والدي قراءتها.. كان الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) بالنسبة لي مشهداً هزلياً ودموياً في نفس الوقت.. كنت اراقب الشارع الفارغ. بينما نسيت كلمتي السرية. ورفاقي عبارة عن فتيان في الخامسة عشرة، وبعض المتقاعدين او العاطلين عن العمل.. عندما توفي نيرودا، كنت ما ازال في مولشين مع اعمامي، وعماتي أبنائهم. وبينما كنت مسافراً من لوس انجليس إلى كونسيبسيون، اعتقلت عند بوابة شرطة على الطريق وتم اقتيادي للسجن. كنت الشخص الوحيد الذي اخذ من الحافلة التي كنا نسافر بها. اعتقدت انهم سيقتلونني مباشرة على الطريق. كنت استطيع سماع الضابط المسؤول عن الدورية من الزنزانة التي وضعت بها، كان شرطياً نضر الوجه يتبختر كوغد، يتحدث مع رؤسائه في كونسيبسيون. كان يقول أنه القى القبض على ارهابي مكسيكي. عاد بعد ذلك مصححاً قوله: ارهابي اجنبي. ذكر لهم لكنتي الغريبة، والدولارات التي بحوزتي، وعلامات قميصي وبنطالي التجارية.. كان اجدادي من الفلوريس والجرانياس، قد حاولوا ترويض براري اروسانيا (بينما لم يكن في استطاعتهم حتى ترويض انفسهم)، لذا ربما كانوا نيروديين في ثرائهم. كان جدي، روبرتو افالوس مارتي كولونيلاً عمل في عدد من الحصون في الجنوب حتى تقاعده المريب مبكراً، وهو ما يجعلني اخمن انه كان نيرودياً في تعاطفه مع الازرق والابيض؟؟؟!!. جداي الاخران من ناحية والدي هاجرا من جالثيا وكاتالونيا، وأفنا حياتهما لمقاطعة بيو- بيو التشيلية، لقد كانا نيروديين في مشهدهما الطبيعي وارهاقهما البطيء.. سجنت في كونسيبسيون لبضعة ايام قبل ان يطلق سراحي. لم يعذبوني، كما كنت اخشى، حتى انهم لم يسلبوا متاعي. إلا أنهم حرموني من الطعام واللحاف ليلاً، فكان علي ان اعتمد على كرم السجناء الاخرين، الذين قاسموني طعامهم. كنت استطيع سماع اصوات تعذيب بعض المعتقلين في ساعات الصباح الاولى، لم استطع النوم ولم يكن هناك ما يقرأ سوى مجلة انكليزية تركها احدهم وراءه، احتوت على مقالة واحدة مهمة حول منزل كان يملكه الشاعر ديلن توماس.. خرجت من تلك الحفرة بفضل محققين عرفتهما منذ الثانوية في لوس انجيليس، وكذلك بفضل صديقي فرناندو فرنانديز، الذي كان في الحادية والعشرين حينها، ورغم انه يكبرني بعام واحد، إلا أنه امتلك قواما مماثلا لرجل انكليزي مثالي وهو ما حاول التشيلييون بشغف تقليده في ذلك الوقت.. غادرت التشيلي في كانون الثاني (يناير) من العام 1974. ولم ارجع إليها ابداً. هل كان التشيليون من جيلي شجعاناً؟ نعم لقد كانوا كذلك.. سمعت في المكسيك بقصة فتاة من منظمة الحركة الثورية اليسارية (مير) قاموا بتعذيبها بوضع جرذان حية داخل فرجها. استطاعت هذه الفتاة الهرب من البلاد فيما بعد إلى مكسيكو سيتي، حيث عاشت هناك، إلا أن حزنها كبر مع مرور الايام، حتى جاء اليوم الذي قضى فيه عليها. هذا ما قيل لي، إذ أني لم اعرفها شخصياً.. القصة ليست غريبة. فقد قيل لنا عن فلاحة من غواتيمالا تعرضت لاذلال يصعب ذكره. المدهش في الحادثة هو انتشارها في كل مكان. ففي باريس سمعت بقصة امرأة تشيلية عذبت بشكل من الاشكال قبل أن تهاجر إلى فرنسا. وقد كانت هي الاخرى عضوا بالحركة الثورية اليسارية (مير)، كانت في نفس عمر الفتاة التي بالمكسيك، ومثلها ايضاً، ماتت كمداً وحزناً.. في وقت لاحق، سمعتُ عن امرأة تشيلية تعيش باستوكهولم: كانت شابة، وعضوا حاليا او سابقا بمنظمة (مير)، عذبت بالجرذان في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) العام 1973، وتوفيت كذلك، برغم استغراب الاطباء الذين عالجوها، من الاكتئاب، (موربيس ميلانكوليكيس) أو الموت الكئيب.. هل من الممكن أن تموت من الحزن؟ نعم من الممكن. من الممكن بألم أن تموت من الجوع. بل من الممكن أن تموت من الغضب.. هل كانت هذه المرأة المجهولة الاسم، والتي تعرضت مراراً للتعذيب والموت، امرأة واحدة، أم ثلاث نساء مختلفات تصادف اشتراكهن بنفس التوجه السياسي والجمال؟ بحسب احد الاصدقاء، فقد كانت امرأة واحدة، والتي، كما في قصيدة فاليخو 'ماسا' تكاثرت في الموت إلا أنها لم تتمكن من البقاء بأي حال. (في الواقع، في قصيدة فاليخو، لم يتكاثر الرجل الميت ولكن الجموع المتضرعة له بألا يموت هي التي تكاثرت).. في زمن ما كانت هناك شاعرة بلجيكية اسمها صوفي بودولسكي. ولدت العام 1953 وانتحرت العام 1974. اصدرت كتاباً واحداً، عنوانه (البلاد المباح فيها كل شيء)، مركز مونتفوكون البحثي، 1970، 280 صفحة مصورة.. جرمين نوفو (1852-1920)، كان صديقاً لرامبو، عاش سنواته الاخيرة متشرداً ومتسولاً. اشتهر باسم هيومليس (في العام 1910 اصدر ديواناً بعنوان قصائد هيومليس) وعاش على مقاعد الكنيسة.. كل شيء ممكن. على جميع الشعراء أن يعرفوا ذلك.. سئلت في احد المرات عمّن يعجبني من الشعراء التشيليين الشباب. ربما لم يذكروا كلمة 'الشباب' بالتحديد وإنما 'المعاصرون'. أجبت أنني معجب بريدريغو ليرا، على الرغم من أنه لا يمكن ان يطلق عليه كلمة معاصر (بالرغم من كونه شاباً، اصغر سناً من اي منا) لأنه قد توفي.. رفاق الرقص في الشعر التشيلي الجديد: سليلو نيرودا، ذرية هيودوبرو الاشرار، تابعو ميسترال الساخرون، تلاميذ دي روكا المتواضعون، ورثة عظام بارا وعينيّ لاين.. اعتراف: لا استطيع أن اقرأ مذكرات نيرودا دون أن احس بكآبة شديدة. يا لها من كتلة متناقضة من المشاعر. كل ذلك الجهد لاخفاء وتجميل شيء بوجه مشوه. ما أقل السخاء، ما اقل المرح.. في احد مراحل حياتي، والتي اصبحت ورائي الآن، اعتدت أن المح ادولف هتلر في ممر بيتي. كل ما كان يقوم به هتلر هو التحرك جيئة وذهاباً في الممر دون ان ينظر إليّ عندما يمر من أمام باب غرفتي الموارب. في البداية اعتقدت انه الشيطان (من يكون غيره؟) وخشيت أنني قد جننت بلا شفاء.. اختفى هتلر بعد مرور اسبوعين، واعتقدت انه سيتم استبداله بستالين. إلا أن ستالين لم يظهر.. لقد كان بابلو نيرودا من اتخذ الممر مقراً لاقامته. ليس لمدة اسبوعين، كما فعل هتلر، ولكن لثلاثة ايام فقط بدت مدة مكوثه القصيرة دليلاً على تعافيَّ من الاكتئاب الذي عانيت منه.. إلا أن نيرودا كان يحدث ضجة (كان هتلر ساكناً مثل كتلة من الجليد العائمة)، كان يشتكي، مدمدماً بكلمات غير مفهومة، ماداً يديه امامه بينما امتصت رئتاه الهواء (هواء ذلك الممر الاوروبي البارد) باستمتاع. الحركات المتألمة والسلوك المستجدي في ليلة ظهوره الاولى تغيرت تدريجياً، حتى في النهاية بدا أن الشبح قد اعاد تكوين نفسه في شكل شاعر ودود، معتز بنفسه بإجلال.. في الليلة الثالثة والاخيرة واثناء مروره أمام باب حجرتي، توقف لبرهة ونظر إليَّ (لم يفعل هتلر ذلك ابداً)، ولكن الاشد غرابة أنه حاول التحدث معي، إلا أنه لم يستطع ذلك، معبراً عن عجزه ببضع حركات، وفي النهاية وقبل اختفائه مع خيوط الفجر الاولى، ابتسم لي (كما لو أنه يخبرني باستحالة التخاطب، إلا أن على المرء ان يواصل المحاولة؟).. منذ زمن قريب التقيت بثلاثة اخوة من الارجنتين، قدموا ارواحهم في وقت لاحق لقضايا ثورية في عدد من بلدان امريكا اللاتينية. إلا أن الخيانة المشتركة للاخوين الاكبر سناً أدت مصادفة إلى ادانة الاخ الاصغر، والذي لم يخن احداً، ومات، كما سمعت، وهو ينادي عليهما، رغم أنه على الاغلب قد مات بصمت.. ابناء الاسد الاسباني، كما قال روبين داريو، المولود متفائلاً. ابناء والت ويتمان، جوزي مارتي، وفيوليتا بارا، ممزقون، منسيون، في مقابر جماعية، في قعر البحر، القدر الطروادي لعظامهم المختلطة يثير الرعب في قلوب الناجين.. اتذكرهم هذا الاسبوع بينما يزور قدماء الألوية الدولية اسبانيا: شيوخ صغار الجسد ينزلون من الحافلات، ملوحين بقبضاتهم في الهواء. كان تعدادهم 40,000، لم يرجع منهم سوى ما يقرب 350 إلى اسبانيا.. اتذكر بيلتريان مورالس، اتذكر رودريغو ليرا، اتذكر ماريو سانتاغو، اتذكر رينالدو اريناس. اتذكر كل الشعراء الذين ماتوا تحت التعذيب، ماتوا بمرض الايدز، او بجرعة مخدرات زائدة، كل الذين آمنوا بجنة لاتينية امريكية وماتوا في الجحيم اللاتيني الامريكي. اتذكر اعمالهم، والتي قد تظهر اليسار كوسيلة للخروج من حفرة العبث والخزي.. اتذكر رؤوسنا المدببة الفارغة والموت اللامجدي لايزاك بابيل.. عندما اكبر اريد ان اكون نيرودياً في تضافري.. اسئلة للتفكر قبل الذهاب للنوم. لماذا لم يكن نيرودا معجباً بكافكا؟ لماذا لم يكن نيرودا معجباً بريلكه؟ لماذا لم يكن نيرودا معجباً بدي روكا؟. هل كان معجباً بباربوس؟ كل شيء يدل على انه كان معجباً به وبشولوكوف، والبيرتي، واوكتافيو باث. رفاق غرباء في الرحلة خلال اليمبوس.. ولكنه اعجب كذلك بإيلوار، والذي كتب قصائد الغزل.. لو ان نيرودا كان مدمناً على الكوكايين او الهرويين، لو انه قتل تحت الانقاض خلال حصار مدريد في العام 1936، او أنه كان عشيقاً للوركا واقدم على الانتحار بعد مقتله، لكانت القصة مختلفة بعض الشيء. لو أن نيرودا كان اللغز الذي، في اعماقه، كان حقيقةً!. في قبو الصرح المعروف باسم 'اعمال بابلو نيرودا'، هل يختبئ يوجلينو منتظراً أن يفترس أبناءه؟. بلا ادنى احساس بالندم! ببراءة! فقط ببساطة لأنه جائع ولا يريد ان يموت!. كان بلا ابناء ولكن الشعب احبه.. هل علينا أن نعود إلى نيرودا كما نعود إلى الصليب، على ركب دامية، ورئات مثقوبة وعيون تمتلئ بالدموع؟. عندما تصبح اسماؤنا بلا معنى، سيبقى اسمه متألقاً، سيبقى اسمه محلقاً فوق مدىً متخيل اسمه (الادب التشيلي).. سيعيش جميع الشعراء، في ذلك الحين، في تجمعات فنية تسمى سجوناً او ملاجئ.. وطننا المتخيل، الوطن الذي نتقاسمه.
ترجمها عن الانكليزية: غازي القبلاوي



تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow