في لقاء مع جريدة بلدنا / لينا هويان : اسمح لي بكلِّ تواضع أن أشبِّه نفسي بماركيز
2009-08-22
عندما نقول مشهداً روائياً سورياً جديداً، لا نستطيع إلا أن نتأمَّل روايات لينا هويان الحسن، فهي، وبخصوصية عالية، استطاعت أن تبحر في تفاصيل المشهد بكتابات روائية حملت في تفاصيلها إثمَ الجديد.. الجديد الذي ينسج خطاه من دون معادلات سائدة، ومن دون مفارقات قد يبدو للوهلة الأولى أنها تخترق المشهد وتحرقه.. لينا، تُعِدُّ وليمتها على نار هادئة.. لتقدِّمها طازجة، في مشهد أكثر ما فيه أصبح «بايتاً» ومكرَّراً وأحاديَ الرؤية.. عن تلك التفاصيل كان هذا الحوار:
¶ سبق «بنات نعش» عدد من الروايات، لكن دائماً كان هناك تحفُّظ على تلك الروايات.. ماذا تقول لينا عن نتاجها السابق، وكيف تسمِّيه، وأين تضعه؟
اسمح لي بكلِّ تواضع أن أشبِّه نفسي بماركيز؛ فماركيز مثلا كان لديه أعمال مثل «عاصفة الورق» وهي إرهاصات لأعماله اللاحقة، ولدي روايتي الأولى التي طبعتها عام 2000 في دار طلاس «معشوقة الشمس» هي إرهاص لـ»بنات نعش»، وأعمالي مثل «التروس القرمزية» اعتبرها تمارين، وهي جميلة، وتعبِّر عني وعن تطوُّري، وعن شيء من النضج، والنضج موضوع غير ناجز.. هذه الروايات كانت مناورة للنضج الذي نسعى إليه، وإن كنا لن نصل إليه بشكل نهائي، لكننا قد نصل إليه بشكل معقول، ولكن إذا وصل إليه الكاتب بالشكل النهائي، فهذا يعني أنَّ الكاتب انتهى عملياً.
¶ ماذا حدث.. كيف استطعتِ الانتقال من كتابة شبه رواية إلى رواية تحمل كافة التفاصيل التقنية والجمالية؟
كانت هناك تمارين ومخطوطات كثيرة قبل «بنات نعش» ومنذ كنت طالبة جامعية أصدرتُ روايتي الأولى، ولم أعلن عنها حتى طُبِعت، وأرى أنَّ الوصول إلى قمة ايفرست لا يكون إلا بخطوة، وأنا خطوت هذه الخطوات بشكل معلن.. «التفاحة السوداء» ثمة مَن وقف ضدها، وثمة مَن كان إيجابياً تجاهها.. ولكني أعترف بأنَّ الحداثة غرَّرت بي.. وكتبتُ هذا النص وأنا لستُ نادمة على ذلك، لأنني تعلَّمت منه.
¶ ربما كنتِ تفهمين الحداثة بشكل مغلوط؟
ركضتُ وراءها مثل الجميع، وموضة الحداثة كما فهمها الأدب المحلي والعربي تعني أن تكتب نصَّاً ليس فيه بنية رواية.. مثلا عندما كتبت «التفاحة السوداء» كانت ذاكرة الجسد حاضرة عملياً، وأعتقد أننا تأثَّرنا بنماذج مثلها، وهي نصوص ليس فيها ذاك الحدث المهم.. كنت حينها طفلة مقارنة بالآن.
¶ «بنات نعش» تصحيح لرؤية مغلوطة عن عالم الصحراء والبدو.. هل كنتِ تريدين أن تعيدي الاعتبار إلى عالم الصحراء؟
رأيتُ كيف هو خوف العربي من شرقيته، فمثلا نشبت حرب «طروادة» من أجل امرأة، لكن الغرب يقدِّسونها، أما في مجتمعنا، فلو أنَّ الحرب حدثت بسبب امرأة لكانت بمثابة وصمة عار، وهذا ما دفعني إلى أن أكتب شيئاً حقيقياً، حتى لو كان هناك دم.. من الخطأ أن يُنظر إلى البدو على أنهم أشخاص جارفون وحسب.. إنهم صورة عن العرب الذين فتحوا العالم وأسَّسوا لكلِّ شيء.
¶ كيف امتلكتِ الجرأة لاختراق هذا التابو القاسي؟
عشثُ طفولة فردوسية وجميلة وبين أشخاص سمعت منهم حكايات كثيرة لأشخاص مهمِّين على الصعيد الشخصي والوجداني، كعمِّي الذي كان شيخ عشيرة، وخالي صياد الصقور، وجدتي الحكواتية البارعة في قصِّ الحكايات.. تربَّيت في الشام، وفي الوقت ذاته ظللت في تواصل مع البادية، وعشت فيها فترة من الزمن بحكم دراسة وعمل والدي، ومن الطبيعي أن أراهم بطريقة صحيحة من دون معايير مسبقة.. أنا رأيت الجانب السلبي والإيجابي، وتحدَّثت عن كليهما في «نات نعش».
¶ أنت ابنة مدينة الآن، فهل هذا ما أعطاك القوة كي تخترقي هذا العالم؟
أكيد، فأنا درستُ في هذه المدينة التي هي خليط من الثقافات، وتذوَّقت عالم الفن من سينما وتشكيل وأدب..
¶ ما قصدته على مستوى النص، أنَّ هناك امرأة تكتب عن عالم محكوم للرجال.. ألم تخافي، ما الذي ساعدك وكيف كنت تتوقَّعين ردود الفعل؟
في «بنات نعش»، كان هناك خوف؛ حيث لم أستخدم أسماء القبائل الحقيقية، بل كان هناك مواربة وخوف.. أما في «سلطانات الرمل»، فقد انتزعت الخوف بحكم أنني كبرت حوالي أربع سنوات، ولأول مرة أكتب أسماء القبائل الحقيقية وكيف أتت، وكيف قدمت من الجزيرة إلى بلاد الشام، وأول مرة يقال «هزمتكم امرأة»؛ مثلا شخصية بنت الكنج، وهي اسم صريح.. ينتابني فضول لأعرف ردود الفعل.
¶ وماذا عن المخيلة الروائية، إلى أيِّ حدٍّ تدخَّلت في النص؟
أكيد تدخَّلت المخيلة الروائية، فليس من السهل التعامل مع أشخاص حقيقيين من لحم ودم، وتقديمهم بقالب أدبي وجداني مبني بشكل متسلسل صحيح ومنطقي من دون مخيلة..
¶ هل لعبت على الشخصيات؟
طبعاً، وأحياناً تركت شخصيات كما هي من دون تدخل، واكتفيت بسرد الحكاية.
¶ كان هناك شيء توثيقي؟
طبعاً
¶ البنية السردية، ألا تضعف الرواية؟
القارئ لأنه سيقرأ أشياء لأول مرة في حياته عن العالم الصحراوي، سيعرف أنه تمَّ تلفيق عالم الصحراء والبدو بشكل مخيف وغبي، ومازالت الأعمال الدرامية تقدِّم رؤية قمة في الغباء عن العالم؛ فالبدوي هو الذي يحارب من أجل ابنة عمه وغير ذلك.. لكن أنا أتحدَّث عن أشخاص كان لهم دور في تشكيل منطقة الشرق الأوسط في ذاك العصر.. قد يشكُّ القارئ في روايتي، بسبب ما شاهده في التلفزيون، لذلك كان هناك شيء موثق.. لأول مرة تسمَّى في الأدب السوري العشائر بأسمائها، وأريد تقديم هذا العالم بضمير وصدقية.
¶ في «سلطانات الرمل» هناك خروج عن المألوف على مستوى الجرأة.. أنت جريئة هنا..؟
إذا كنت تلمح إلى موضوع «الايروتيك» فقد كان مدروساً، وجاء في مكانه، لأنني لست مع افتعاله، وبعض والروائيات السوريات لا يكتبن إلا لأجل هذا الموضوع، ولا يوجد لهن أكثر من قارئ مراهق، وأنا أريد أن أحفر مكان عملي بإزميل تاريخي، وأنا لدي عمل خاص لايروتيك، وأصنِّفه هكذا، وأقدِّمه له؛ فأيُّ كاتب لا يكتب الآيروتيك فهو غير حقيقي..
¶ هل نعتبر روايتَيْك الأخيرتين ضمن سياق الرواية السورية الجديدة، وإلى أيِّ مستوى استطاعت لينا أن تخترق بنية السرد السائد السوري، وماذا كان هاجسها الفني في الكتابة؟
أنا أول روائية توثق للبادية الشامية أو البادية العربية، والذي يتعامل مع منجزي يجب أن يتعامل مع لينا التي كتبت النص الصحراوي لأول مرة في تاريخ الأدب السوري.
¶ هل تريدين إعادة الاعتبار إلى أنثوية الصحراء؟
ممكن جداً.. «السلطانات» أسميتها هكذا، فهناك تسلسل زمني تاريخي بني على أساس أسماء، وهي ليست من سلالة واحدة.
¶ إلى أيِّ مدى استفدتِ من سحر هذه الحكاية؟
العالم الآن في مرحلة العودة إلى الحكاية والحدوتة، وأنا التقطت الخيط، وهذا واضح في «بنات نعش».. أما في «سلطانات» فذلك غير واضح.. هنا أخذت القارئ ليشمّ رائحة الرمل والدم وغيرة البدوي بطريقة صحيحة.
¶ رغم كلِّ هذا الحب المتدفّق في ما تكتبين، لكن ثمة انطباعاً بأنك امرأة حديدية.. هل أنت امرأة حديدية؟
هذه شائعة يتمُّ تداولها في الوسط الثقافي، ربما لأنني بعيدة عنه، لأني في حياتي لم أعشق مثقفين، ولا يثيرني الرجال المثقفون..على العكس، أنا أعشق حتى الذوبان، ولكن في عالمي الذي صنعته، وهو بعيد كي لا يكون مجالا للتداول والثرثرة..
¶ هل ثمة مفارقة بين حياتك وبين ما تكتبين؟
لا تصدِّق أنَّ هناك نصاً يختلف عنا، وإذا اختلف فهو مفتعل، وسيكشفه القارئ؛ فأنا أشبه ما أكتبه إلى حدٍّ كبير، لكنني أعمل على تشذيب هذا الشبه ووضع سياج غير مرئي، كي لا يلمسوا شبهي، ليس ذلك خوفاً، ولكني أتجنَّب ذلك حالياً، وسيأتي وقت أعترف فيه للقارئ أين أشبه وأين لا أشبه نفسي..
¶ امرأة جميلة تكتب، إلى أيِّ مدى أثَّر فيك ذلك؟
أثَّر بشكل سلبي، وما أساء إليَّ أنه كتب عن شكلي الخارجي قبل أن يكتب عن الرواية، وهذا جعلني بعيدة عن الوسط الثقافي، لأنَّ أيَّ ظهور قد يُعدُّ تسويقاً لنفسي.
¶ .ألا تعتقدين أنك كـ»أنثى» تحتاجين إلى رجل يقف إلى جانبك؟
أكيد، ولا تصدِّق أنَّ امرأة تقول أنها لا تحتاج إلى رجل.. «مارغريت تاتشر» قرَّرت أن تتزوَّج من زوجها، بعد أن بكت على كتفه.
¶ هل تبكين على كتف أحد؟
أكيد، وإن لم أبكِ فهذا يعني أنني لست إنسانة، والدموع من علامات الأنوثة، لكن الدموع التي نستخدمها قد لا تكون بريئة أحياناً.
¶ هل ستستمرِّين في اختراق الصحراء؟
نعم، ممكن، لكن هذا لا يعني أنَّ كلَّ أعمالي الأدبية ستكون عن الصحراء.. حالياً ما أردته كرَّسته في ذاكرة الأدب السوري، ولاحقاً سيجدون لينا أخرى، ومن المتوقَّع أن يروا نصَّاً لا يخطر على البال، وممكن أن يروا أعمالا مختلفة تماماً.
¶ هل نستطيع أن نقول للينا كوني جميلة.. واكتبي؟
نعم ممكن..
مقطع من رواية «سلطانات الرمل»
في مراهقتها انغمست بالمطالعة، تقرأ الكتاب تلو الكتاب، تتنقل بين ورقة وأخرى كصياد يقتفي أثر طريدة ذكية، في غابة. جذبتها كتب المذكرات والسير الشخصية، قرأت كل ما وقع بين يديها من مذكرات أدباء، وسياسيين، راقصات، ممثلين، مخرجين.. تحمل شغفا خفيا بأولئك البشر.. من الطراز المضاد.. الذين يلحقون أحلامهم التي تقودهم إلى الموت. ومبكراً عرفت أننا كبشر بطبعنا مولعون بمن يمضي حتى النهاية ممتحنا العالم به، أو العكس، حيث لا عويل، لا ندب، لا بكاء، إنما مواجهة. وجهاً لوجه وعراك يتجاهل الحتف. وإذا كانت كل الطرق تبدأ بالدم فلتنته بدمه.. في ذلك الوقت تحديداً قرأت كل أدبيات التراجيديا المتاحة. أصبحت تحب الأدب بنكهة المأساة. أصبحت تشبه الذاكرة البشرية: مولعة بالأبطال الذين يموتون. وكأن مغريات الموت أقوى أو أكثر جمالاً من تسويات الحياة المحتملة , وتعرف أن شراسة الأبطال.. تحتاج إلى النهايات. كأن النهاية هي الدواء اللازم لإكمال جمال البطل. كذلك تعلمت كيف تفهم بعض البشر فقط حين يخبروك بأسماء أبطال الأدب الذين يحبونهم. سكرى وقعت في غرام هاملت وألان ديلون. الشعر كائن متشرد وجوّاب شوارع وكذّاب. هكذا كانت تظن لكن ابن عمتها عاشق صحح لها معلومتها تلك وقال: «الشعر ليس كذاباً، لكن يحق له الكذب.. الكذب السلطة الوحيدة التي تخدم الحقيقة التي نشتهيها.. الشعر يتسكع ليقبض على حلم جوال.. قد يلقاه عند ناصية شارع ما، أو منعطف جادة مجهولة.. الشعر يكره ما نسميه: «نهاية المطاف» يدور في كل الشوارع المتاحة، يهرب من طريق مسدود قد يباغته وسط اقتراحات صدفة ما.. يعلمك الشاعر كيف تشبه الربيع، كيف ترحب بالعاصفة لتترك الريح تنقل بذور المستقبل تحت أنظار ماضيك وكل فصولك الرمادية الفائتة. لأجل كتابة الشعر نصحها عاشقاً وهو يقول: «تأتي القصيدة عجولة.. جارية، ساهية امسكيها قبل أن تبتلعها أرض اللحظة.» كلاهما كانا يكتبان الشعر وسكرى تقول لعاشق: كتابة الشعر، موضة.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |