عشية صدور عددها الرابع حوار صريح مع جمانة حداد حول مجلة جسد حاورها علي أحمد الديري
2009-09-25
جمانة حداد:
"جسد" ليست حركة ولا قضية ولا تيار ولا حزب، بل بيت
كل ما يطرحه علينا الجسد من أسئلة هو مشروع مناقشة في "جسد"
ننتمي إلى ثقافة تهتم بالصورة دون المضمون
و"جسد" مضمونها أخطر من محمولها البصري
تصنعها في بيتها، في زاوية صغيرة لا تتجاوز مساحتها الـ2 م× 2 م، ومن هناك تدير مراسلاتها الخاصة، تشرف على تفاصيلها الصغيرة والكبيرة، ثم تأخذها إلى المطبعة حيث التنفيذ والإخراج. الشاعرة والصحافية اللبنانية جمانة حداد، صاحبة "عودة ليليت" وأنطولوجيا الشعراء المنتحرين في القرن العشرين، هي مؤسِّسة مجلة "جسد" ورئيسة تحريرها، هذه المجلة الجدلية التي ولد عددها الأول في ديسمبر 2008، والتي تقدم نفسها على أنها ثقافية متخصصة في آداب الجسد وفنونه وعلومه. تراهن جمانة حداد على مشروعها أن يكون منبراً رحباً لثقافة عميقة للجسد. وتتحدث في حوار خاص مع "الوقت" عن هذه المجلة التي صدر منها حتى الآن ثلاثة أعداد، وعددها الرابع على وشك الصدور: عن أسئلتها وموضوعاتها ومضموناتها ومحمولاتها، عن طموحاتها، وعن ردود فعل الداخل والخارج عليها.
§ خطاب الجسد
الوقت: ضمن أي خطاب يقع خطاب مجلتك؟
حداد: مجلة "جسد" تعرّف عن نفسها بأنها مجلة ثقافية متخصصة في آداب الجسد وفنونه وعلومه، أي أنها تهتم بكل ما يتضمنه هذا التعريف من احتمالات وإمكانات وسمات، أكانت هذه السمات ذات طبيعة إنسانية أم ايروتيكية أم علمية أم اجتماعية أم فلسفية الخ. كل ما يطرحه جسدنا علينا من أسئلة، هو مشروع مناقشة وتفكير واستكشاف في "جسد".
الوقت: ضمن أي سياق؟ بمعنى هل هناك تواصل مع التراث، أم مع محاولات معاصرة من هنا وهناك تصدر عن الأفق نفسه؟
حداد: هو على الأصحّ خطاب معاصر متواصل مع التراث، أي أنه يستمد بعض تحريضاته من الحسرة على ما كان لدينا في تراثنا الأدبي العربي، وما قُمع لاحقاً أو تم إخفاؤه والتنصّل منه. لكنه إذ يستعيد هذا التراث المضيء فإنه لا يتوقف عنده، بل يشتهي أن يتواصل كذلك مع حركة الجسد الراهنة، في أبعادها الفنية والأدبية والعلمية، العربية والعالمية على السواء.
الوقت: هناك مشاريع في الثقافة العربية حاولت أن ترجع إلى هذا التراث وتتواصل معه، جاءت على هيئة تحرير كتب ايروتيكية وجنسية تراثية. هل هناك صلة لمجلة "جسد" بتلك المحاولات؟
حداد: "جسد" تريد أن تكون منبراً رحباً لإظهار جهود جميع هؤلاء، وجهود الآخرين أيضاً. لن أغالي في تطلعاتي في الوقت الحاضر. المجلة نقطة انطلاق لنفسها أولا وأخيرا. وهي تفكر وتتنفس وتحيا، أي أنها تتغير وتتبلور مع الوقت وتكتسب كينونتها من إدراكها الواعي لما حولها من شؤون وقضايا ومستجدات قد تساهم في تشكيل تطلعاتها في شكل أفضل. لكنها ليست حركة ولا حزباً ولا تياراً ولا قضية. هي أكثر من هذا كله: إنها بيت.
§ أبطال معارك
الوقت: حين صدرت المجلة ثمة من قالوا إنهم سبقوا جمانة حداد في إنتاج أفكار قريبة من هذه الأفكار، أي أن جرأة الفتح قام بها آخرون، وهم يريدون من المجلة أن تؤرشف محاولاتهم ضمن أعدادها. كيف تتعامل "جسد" مع هؤلاء؟
حداد: أنا لم أزعم يوماً أني اخترعت الايروتيكيا العربية. لا أنا اخترعتها، ولا اخترعها أولئك الذين يتحدثون اليوم عن "جرأة الفتح". جرأة الفتح الحقيقية في اللغة العربية، جرأة الانتهاك والبوح الصادم المتفلت من التابوهات، قام بها كتّابنا قبل ألف سنة وأكثر. لأجل ذلك أرى أن هذا خطاب عقيم، وليس له أي أهمية. مَن سبق مَن؟ تلك هي نوعية الأسئلة الضحلة التي نتخصص بها نحن العرب، وقد مللتُ من الحديث في هذا الموضوع. لكني أصرّ على أن مجلة "جسد"، في رؤيتها وشكلها ومضمونها، هي الأولى من نوعها في عالمنا العربي وفي لغتنا العربية. لا أحد يستطيع أن ينكر ذلك. وأنا لم أزعم يوما أكثر من ذلك. بل إني أرسلت، قبل صدور العدد الأول، مجموعة من الرسائل والدعوات إلى كل من له اهتمام من المثقفين العرب بالإيروتيكا، وللأسف لم تجد معظم رسائلي أيّ ردود، لأن بعضنا أبطال معارك بدلا من أن نكون أبطال إنتاج. طبعا أقولها من دون تعميم. المجلة تمشي في طريقها، وأهلا وسهلا بمن يريد المشاركة.
الوقت: هل هناك مفهوم للجسد تحمله هذه المجلة، مغاير للمفهوم الموجود في الثقافة العربية عن الجسد الموجود في التراث؟
حداد: كما ذكرتُ سابقاً، مفهوم المجلة لا يتوقف عند المفهوم التراثي العربي للجسد. نحن نعيش في القرن الحادي والعشرين. صاحبة هذه المجلة ومؤسِّستها، بكل تواضع، إن كانت تؤمن بشيء، فهي تؤمن بالحوار بين الحضارات واللغات والثقافات. لأجل ذلك أنا مقتنعة بأنه لا يمكننا التعاطي مع الجسد على انه "جسدنا العربي" فحسب. هذا النوع من الحصر والخصخصة والتبويب، يضر بمفهوم الجسد الحرّ والرحب في جوهره. زد على ذلك أنه لا يتماشى مع رؤيتي الخاصة للحياة والثقافة، القائمة على سلسلة لامتناهية من النوافذ المشرعة على الاحتمالات والاكتشافات الجديدة. لكن المجلة تحرص على أن يكون كتّابها في الدرجة الأولى من العالم العربي، وأن يشاركوا بأسمائهم الحقيقية. حتى عندما نغطي معارض أو مناسبات على صلة بموضوعنا في الخارج، يقوم بالتغطية كاتب أو صحافي عربي مقيم هناك. مذ صدرت المجلة، ومذ حصدت هذا القدر الهائل من الاهتمام الاعلامي الغربي، جاءتني عروض كثيرة من كتّاب وفنانين أجانب يريدون أن يدعموا هذا المشروع، بمساهمتهم الكتابية فيه. لكنني ما زلت أرفض. ارفض لماذا؟ لأنني أريد فعلا أن أساهم، أولاً، في إنتاج مادة "من الداخل"، تنتمي الى رؤيتنا، بل الى رؤانا العربية، على تنوعها واختلافها وتناقضاتها. أريد أن تنطلق هذه المجلة من لحم لغتنا العربية وفكرها وامكاناتها، لا أن تكون فقط محض استيراد من الخارج. لذلك فإن حصّة الترجمة في المجلة محدودة جداً، مقارنةً بالمساهمات المكتوبة بأقلام عرب، ولا تتعدى نسبتها العشرة في المئة.
الوقت: إذاً تريدينها جسدا عربيا؟
حداد: نعم. ولكن، أكرّر، مع الانفتاح على جسد الآخر. لا أريدها جسداً عربياً منغلقاً على نفسه ومكتفيا بذاته، بل رائياً لجسد الآخر ومقيِّما له ومتحاوراً معه أيضاً وخصوصاً. ما الجسد إن لم يتفاعل؟ مصيره الانكماش على نفسه والذبول لا محالة.
§ محمول ومضمون
الوقت: بعض منتقدي المجلة ينظرون إليها على أنها مجرد جرأة مجانية.
حداد: لهم أن يفعلوا ذلك. لكنها ليست هكذا، ورأيهم لن يجعلها هكذا. لستُ لأتحكّم بما يقوله الآخرون عن المجلة، على اختلاف دوافعهم (وبعضها خبيث لا مفرّ)، لكني أستطيع أن أتحكّم بما تقوله هي، أي المجلة، عن نفسها: وما تقوله يتعارض في شكل بديهي وواضح مع مفهوم "الجرأة المجانية" هذا. يكفي النظر الى كمّ الجهود الجدية والعميقة المبذولة في صفحاتها التي تتجاوز المئتين، من جانب المساهمين فيها من كتّاب وفنانين عرب، لكي ندرك ذلك. هذا، طبعا، شرط أن نتمتع بحدّ أدنى من النزاهة الفكرية (ما ليس متوافرا للجميع). نحن يحلو لنا في الثقافة العربية أن نتخيّل أنه في وسعنا إلغاء ما لا يناسبنا وجوده بشحطة قلم. لكن الواقع غير ذلك. وقد حان لنا أن ننضج بما فيه الكفاية لنعي هذا الأمر. أنا أفكر في مشروع "جسد" وأعمل عليه منذ سنتين. ومذ قررت أن أقوم بهذه الخطوة، كنت مدركة تماما أن مشروعا مثل هذا لا يمكن أن ينال الإجماع في العالم العربي. وهذا حسن. فالاجماع لا يهمّني، وأرى أنه يهين ذكاءنا جميعاً: فهو، لطالما ترافق مع أسوأ الظواهر في العالم، وليس أقلها بعض أنظمتنا السياسية والاجتماعية العربية الديكتاتورية. هناك انقسام إذاً حول المجلة، ولا بأس، بل هذا أكثر من طبيعي وإيجابي. فالجدال الذي يولده هذا الانقسام في الرأي، يقع هو الآخر في صلب رؤية "جسد" وطموحها: أي ايقاظ بعض مستنقعاتنا من كبوتها المميتة. هناك من يعتبر المجلة عملا ثقافيا استثنائيا، وهناك من يراها شيئاً لا قيمة له. اتلقى كل يوم كمية من الرسائل والايميلات المهنّئة والمشجّعة (خصوصاً من قرّاء عاديين لا أعرفهم، ودعمهم يشكل عزاء كبيراً لي لأنه صادق وغير موبوء بأيّ شبهة مصلحة)، مثلما اتلقى رسائل شتم وإهانات، وأحيانا تهديدات، بلا توقيع، أو بأسماء مستعارة، لأن مرسليها أكثر جبناً من أن يعرّفوا عن أنفسهم (هؤلاء مدعاة للشفقة عندي). لكني لا أفرض المجلة على أحد. وعلى من لا تعجبه، ويراها محض "جرأة مجانية"، أن يمتنع عن قراءتها! الأمر بسيط للغاية في الحقيقة.
الوقت: المجلة شديدة التمسك بأن تكون صادمة بصرياً، بصورها ولوحاتها، وذلك في ثقافة ساكنة كثقافتنا تعتبر الاحتفاء بالجسد من أي منظور هو مجرد بورنوغرافيا. كيف لـ"جسد" أن تحمي نفسها من أن تُقرأ بهذا المنظور؟
حداد: هي مسؤولية ذات شقّين: يقع شقٌّ منهما عليَّ أنا، وعلى المساهمين فيها، بأن نحسن اختيار موضوعاتنا وموادنا؛ ويقع الشقّ الثاني على المتلقي. فالتمييز بين الايروتيكيا الادبية والفنية وبين البورنوغرافيا المسطّحة، يفترض درجة معينة من الثقافة والمعرفة. على المتلقي أن يعرف بدوره الفرق بين الاستفزاز المجاني والاستفزاز الذي يتوخى تغييرا حقيقياً وذا قيمة. على سبيل المثال، أن تفرّق بين صورة لروبرت مابلثورب، وصورة من مجلة "بلايبوي"، يتطلب منك كمتلقٍّ أن تكون مطلعا على أعمال مابلثورب وعلى خطابه الفني. في أي حال، لا أريد أن أكون في موضع الدفاع عن المجلة، فهي تكفل الدفاع عن نفسها أفضل مني بكثير. ولكن أحب أن أشير الى أن مضمون "جسد" المكتوب أخطر من محمولها البصري بكثير. إلا أننا ننتمي الى ثقافة راهنة تركّز، للأسف، على الصورة. ثقافةٌ تعتقد خطأ أن الصورة أكثر فعالية من المضمون. ثم حدِّث ولا حرج عن خوفنا في العالم العربي على بكارة العيون. شخصيا، كوني قارئة وكاتبة، أعرف تمام المعرفة أن الكلمة أشد خطورة وفعالية وانتهاكاً من أي صورة. "جسد" موجودة لتُقرأ، وليس لتقليب صحفاتها بحثاً عن الإثارة البصرية. إذا كان المطلوب هو هذا، فثمة مجلات أجنبية كثيرة تؤمّن هذا الأمر، وهي متوافرة في جميع البلدان العربية، وخصوصاً في تلك البلدان التي تمنع "جسد" وتحجب موقعها على الانترنت. وذلك هو أحد تجليات السكيزوفرينيا العربية.
ثم من السخف في زمن الانترنت وفي زمن الإعلانات والفيديو كليبات التي تعتمد كلها على الإيحاءات الجنسية، وخصوصا في لبنان، حيث الإغراء موظّف في شكل متواصل في كل شيء، أن يأتي من يتهم مجلة من هذا النوع، وراءها كل هذا الجهد الثقافي، بالبورنوغرافيا. الأشد غرابة أن غالبية هذه الاتهامات (ومعظمها "رغوة سفيهة"، تجيء على شكل ثرثرات المقاهي) كانت على لسان "مثقفين" مزعومين! أمر مضحك فعلاً. لكأنني اغتصبتُ عذريتهم! فإذا كان الأمر كذلك حقاً، فمبروك!
§ الحق في الحرية
الوقت: لكن المجلة تنحاز إلى النظر أيضا، وإلى صور الجسد؟
حداد: أكيد وبإصرار. هذا جزء أساسي من العملية الفكرية والثقافية. المحمول الفني قائم، في جزء كبير منه، على كيانه الاستيتيكي وعلى كونه "منظراً" يُرى. ولكن ينبغي الذهاب بهذا النظر إلى ما هو أبعد، بغية تحريض العقل على التفكير في ما ورائيات المحمول البصري. هذه من بديهيات التفاعل مع الفنون كلها. أن نسأل، مثلاً: ماذا أراد بالتوس، أو دالي، أو آنغر، أو وودمان، أن يقولوا لنا عبر هذا العمل الاستفزازي أو ذاك؟ هل ذلك النهد مكشوف لكي نتمتع برؤيته فحسب، أم لكي يحثّنا على التفكير في ما يكمن وراءه من رؤى ورسائل وتصورات؟
الوقت: في العدد الأول للمجلة كان هناك لقاء مثير جدا أجريته أنتِ مع الناقدة والكاتبة الفرنسية كاترين مييه قالت فيه، في ما قالت، إن التحرر الجنسي لا يعني بالضرورة الهيدونية (أي الفلسفة القائلة بأن اللذة هي المبدأ الرئيس في الحياة)، وأنه يمكن أن نرى الى الجنس بمعزل عن منطق المتعة. وهي تحدثت بكثير من التحرر عن مغامرتها الحميمية في كتابها "حياة كاترين م. الجنسية" الذي ترجم إلى أكثر من ثلاثين لغة...
حداد: صحيح، وهي ستأتي في المناسبة الى معرض الكتاب في بيروت في شهر ديسمبر، لتوقّع الترجمة العربية لكتابها هذا، الصادر عن سلسة "جسد".
الوقت: كانت كاترين امرأة عاملة ومتزوجة، وإحدى القارئات لفتتها إلى أن ما كتبته يتعارض مع كونها امرأة عاملة ومتزوجة. مع الفارق بينكما في جرعة الجرأة أسألكِ: أنتِ أيضاً امرأة عاملة، ومتزوجة، وعربية. فكيف تنبثق منك مجلة صادمة كمجلة "جسد"؟
حداد: إن الغالبية في العالم العربي تعشق التعميمات، وحصر الناس في تعريفات محددة وضيقة، لأن المتفلت من التبويب يقلقها. ينطبق هذا خصوصا على نظرة تلك الغالبية الى المرأة. فالمرأة التي تكتب عن جسدها بأريحية، من دون خوف أو مراعاة لأي رقيب مفروض عليها، هي حكماً، بمعايير تلك الغالبية السطحية، امرأة فاجرة وخارجة تماما على سلّم القيم. بمعزل عن كوني أحتقر هذا التصنيف، ولا أجد نفسي معنية بشفاء "المرضى"، كوني كاتبة ولستُ طبيبة، يهمني أن الفت الى أننا جميعا، رجالا ونساء، نملك الحق المطلق، كبشر، في أن نكون أحرارا في الفكر وفي التعبير. الرقابة إهانة لنا كراشدين وكمثقفين. من هو هذا الذي يظن أنه يملك الحق في أن يقول لي: هكذا يجب أن تفكري، وتتكلمي، وتكتبي؟ حدودي أقررها وحدي، ولا احتاج وصياً عليَّ. أنا مع العدائية في هذا الموضوع، ولست مع المقاربة السلمية.
الوقت: "أنا أدافع عن الإباحية التي تنشد الحرية والمساواة والمشاركة. لكني ضد الإباحية الرأسمالية التي تمارس قوتها على الفقراء": هذا ما قاله الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفري في حواره مع "جسد". هل أن خطاب المجلة يدافع بدوره عن هذه الإباحية، أم أنه يتحرج من الكلمة؟
حداد: لا أملك ألاّ أشعر بالغضب عندما أفكّر في كل الكلمات الجميلة التي تم تشويهها في لغتنا العربية، عبر إثقال كاهلها بمحمولات وايحاءات سلبية ظلماً، نتيجة العقد والمحرّمات. من هذه الكلمات مفردة "إباحية". إذا عدنا الى المنجد، فسنجد أن معاني هذه الكلمة راقية جدا، لكننا شوّهناها بالاستخدام، مع التردّي الخطير في ثقافتنا في الأزمنة المعاصرة، وبات معناها مهينا. أرى أنه ينبغي لنا إعادة اختراع هذه الكلمة وسواها من تعابيرنا "المخطوفة". وردّا على سؤالك، أقول إن "جسد" تدافع قطعاً عن الحرية التي تحدّث عنها اونفري، والتي تحدّث عنها قبله كثيرون من كتّابنا وفنانينا ومثقفينا.
الوقت: هل سيكون أونفري بدوره ضيفا لـ"جسد"؟
حداد: سيكون ميشال أونفري صاحب الكتاب الثاني في سلسلة "جسد"، عبر الترجمة العربية لعمله المعنوَن "في سبيل إيروتيكيا مضيئة". من جهة أخرى، سوف أحاوره في معرض الكتاب الفرنسي في بيروت في شهر أكتوبر، حيث سأدير ندوة معه حول هذا الموضوع.
الوقت: لاحظتُ أن غلف "جسد" الثلاثة تحمل كلها صور أجساد لنساء، رغم أنكم تحتفون بالرجل أيضاً، مثلما فعلتم في العدد الثاني مثلاً. فما سبب غياب جسد الرجل عن الغلاف؟
حداد: هي محض مصادفة فحسب. فالفنانات الثلاث اللواتي اخترتهنّ في الأعداد الثلاثة الأولى، صدف أنهنّ يعملن على تيمة الجسد الأنثوي لا الذكوري. وكنتُ وجدت للعدد الثالث فنانة لبنانية صوَّرت عري الرجل بشكل رائع، وكانت وافقت على نشر الصور، لكنها طلبت مني أن لا أنشر أسمها، فرفضتُ رغم جمالية أعمالها، لأن الأسماء المستعارة تتعارض مع مبدأ المجلة (كفانا اختباء وراء إصبعنا). أما غلاف العدد الرابع، فهو، أخيراً، يحمل صورة جسد لرجل. في أي حال، الأجساد الذكورية موجودة بكثافة داخل المجلة منذ عددها الأول.
§ قصيدة أخرى
الوقت: لو أردنا أن نربط بين مجلة "جسد" وخطابها، وتجربة جمانة حداد الشعرية، فسنلاحظ بينهما تواصلاً وانسجاماً...
حداد: فعلاً. فلطالما كان الجسد تيمتي الأثيرة في كتابتي الشعرية، والفضاء الذي تتحرك فيه تعبيراتي وتخيّلاتي وأفكاري، ولأجل ذلك اعتبر المجلة، "طفلتي" الجديدة هذه، قصيدة من قصائدي، وإن مكتوبة بشكل آخر. هي قصيدةٌ ذاتُ تمثّل مختلف على الأرض، لكنها حتما قصيدة. هكذا أعيشها وأتعامل معها. هناك خيط واضح يربط كتاباتي وقراءاتي ودراساتي واهتماماتي الشعرية والأدبية والصحافية، وحتى الحياتية، بموضوع الجسد، وأنا أرى أنها أجزاء متكاملة ومنسجمة مع نفسها، تحت سقف جامع هو أنا.
الوقت: هل أخذتك هذه التجربة بعيدا عن تجربتك الشعرية؟
حداد: من الصعب، بل من المستحيل أن يسرقني أي شيء من الشعر. الشعر يفرض وقته فرضاً. هو رجل ذو عنفوان وأنانية هائلين، يخلع الباب عندما يشاء ويخبط قدمه بالأرض وينهرني قائلاً: "الآن الوقتُ وقتي. اتركي كل شيء واتبعيني". فأطيع على الفور. أنا الآن في الواقع في صدد إنجاز مجموعتي الشعرية الجديدة، وعنوانها "كتاب الجيم"، وهي نوع من الأوتوبيوغرافيا الشعرية بخمسة فصول مختلفة تصوّرا وشكلاً، لكنها منصهرة في ما بينها. أعمل عليها منذ حوالى السنة، ولست مستعجلة على الاطلاق حيال إنهائها ونشرها. تعلّمتُ مع الوقت الرضوخ لإيقاع الشعر المزاجي، وعدم الرضوخ في المقابل لإرهاب "ضرورة النشر". ثم إنني نشرت كتابيَّ الأخيرين في أواخر عام 2008، أعني الأنطولوجيا والديوان اللذين أنجزتهما حول تيمة الشعراء المنتحرين، وكانا تطلّبا مني أربع سنوات متواصلة من الكدّ والجهد. كتبي الشعرية، خصوصا الأخيرة منها، لم تعد عملية جمع لقصائد متنوعة تدور حول تيمات مختلفة، بل هي كتاب متكامل حول موضوع واحد: أي أن حركتها باتت حفرا عموديا بدلا من أن تكون توسّعاً أفقيا. أحاول أن أحفر في تيمة واحدة، في فكرة محددة، قدر الإمكان، حتى "أمصّ" دماء هذه الفكرة كلها. من جهة أخرى، أنا على وشك إنهاء كتاب ثان يصدر في أوروبا في لغات مختلفة السنة المقبلة، وهو عمل نثري تفكيري حول المرأة العربية، انطلاقاً من تجربتي وحياتي الخاصة، وعنوانه "قتلتُ شهرزاد".
الوقت: في العودة الى المجلة، هناك فلاسفة فرنسيون فتحوا موضوع الجسد مبكرا في الثقافة العالمية، مثال على ذلك ميرلو بونتي (1908-1961)، وهو من أكثر الفلاسفة الذين حفروا للجسد في الفلسفة، وكان قال في كتابه "فينومينولوجيا الإدراك"، الذي صدر عام 1945: "جسدي ليس أمامي، في مواجهتي. ليس موضوعا قائما بذاته أو شيئا مستقلا عني. بل أنا جسدي". لماذا لم أجد لميرلو بونتي وفلسفته حضورا في مجلة "جسد"؟
حداد: أنت على حق. ولكن علينا أن نعي أن "جسد" مجلة فصلية، وليست كتاباً يصدر مرة واحدة. أي أنها بالكاد بدأت تقول ما تريد قوله، وشرعت تناقش ما تريد مناقشته. هي مجلة ستعيش وتستمر وتكبر طوال سنوات آتية كثيرة، وتيماتها أكثر تشعّبا وغنى من ن تستنزف ذاتها في بضعة أعدادأنأن تستنزف ذاتها في بضعة أعداد. صدّقني، هناك أمور وظواهر وفلسفات عديدة موجودة على أجندتي الصغيرة هذه، من التي أتشوّق، بل أتحرّق للتطرّق إليها في المجلة. لكني أقول لها انتظري. سيأتي دوركِ. لا يمكن أن يتحقق كل شيء في عدد أو عددين أو ثلاثة. سيكون مضحكا، بل محزنا جدا، أن أزعم أن المجلة قالت في ثلاثة أعداد كل ما كانت تريد قوله.
الوقت: قلت إن لديك تصورا لعشر سنين مقبلة للمجلة، في ردّك على من يعوّلون على نفاد موضوعات الجسد بعد ثلاثة أعداد..
حداد: فعلاً. ولم أكن أبالغ.
§ دعم مادي
الوقت: هل هناك أي دعم مادي لـ"جسد"؟
حداد: لا للأسف. ليس هناك أي دعم مالي حتى الآن. أنا استثمرت مبلغا من مالي الخاص لكي تولد، ولم أرغب بأي شريك كي لا أساوم على حرية التعبير فيها. لقد منيتُ بخيبات أمل كثيرة حين بحثتُ في البداية عن شركاء ماليين في العالم العربي. إذ واجهتُ أمرين، كلٌّ منهما أشد سوءا من الآخر: إما لم يُرد احدٌ التورط في هذا الموضوع بسبب "خطورته"، وإما ثمة من وافق على خوض المغامرة لكنه أراد أن يفرض شروطاً حول الخطاب والمادة التحريرية، وهذا طبعا ما لا يمكن أن أساوم عليه على الإطلاق. كنت أضع أيضا آمالا كبيرة في الإعلانات، لأن كل ما نراه ونشتريه اليوم، كل ما يسوَّق له، هو على علاقة بالجسد، من ثياب أو منتجات أو ماكياج أو عطور الخ. لكن بسبب المعايير المزدوجة التي نعيشها، حتى الماركات العالمية تخشى النشر في مجلة "جسد" خشية خسارة أسواق مثل السعودية مثلا، على ما قالته لي إحدى شركات الاعلان. سأظل أحاول تقديم طلبات منح إلى مؤسسات ثقافية يمكن أن تدعم مشروعا من هذا النوع، وإذا حصل ذلك فسيساعدني الأمر كثيرا في استعادة التوازن على المستوى المالي. ولكن إذا لم يحصل، فستستمر المجلة بعرق جبينها ومبيعاتها ونسبة الاشتراكات فيها، رغم الصعوبات والتحديات، علما أني أصرّ على أن ادفع للكتّاب مكافآت، ولو متواضعة، نظير مساهماتهم.
§ "جسد" بلا مكتب
الوقت: لديَّ ملحوظة بسيطة وهي أن الكتّاب غير مُعرّف بهم في المجلة، أي ليس هناك تعريف بهم؟
حداد: غالبية كتّاب "جسد" معروفون أصلاً في الحياة الأدبية والصحافية العربية، ولكن طبعاً أحبّ أن تكون هناك صفحة مخصصة للتعريف بهم لمن لا يعرفهم، وقد أبدأ بهذا التقليد انطلاقاً من العدد الرابع. أنا أعترف بأن هناك نواقص في المجلة، وبأن ثمة أمورا قابلة للتطوير والتحسين. ولكن عليك أن تدرك أمراً مهمّا، وهو أني أقوم بالجزء الأكبر من التفاصيل وحدي. ثم إنني لستُ متفرّغة لـ"جسد": فأنا صحافية مسؤولة عن صفحة ثقافية يومية، وكاتبة لها التزاماتها، وشاعرة لها أوقاتها، ومنسّقة لجائزة أدبية، فضلاً عن اسفاري الكثيرة لإحياء امسيات شعرية في الخارج نتيجة ترجمات كتبي. ودعنا لا ننسى أني زوجة وأمّ أيضاً، ولولديّ وشريك حياتي حقوق عليّ، وأحاول أن أخصص لهم الوقت وسط هذه المشاغل. ثم إني امرأة كذلك، ولأنوثتي ومتطلباتها حق عليّ بدورها، ولا أطيق اهمالها. إذا فكّرت، فستجد أن كل هذه الأعمال تحتاج إلى فريق عمل، بينما يقوم بها في الحقيقة شخص واحد. لستُ "سوبر وومن"، ولأجل ذلك لا مفرّ من أن تغيب عن بالي بعض الأمور التي من شأنها أن تحسّن المجلة. وأتمنى أن تسمح إمكاناتي في الوقت القريب بتوظيف شخص أو اثنين لمساعدتي. لكن "جسد" غنية وأنيقة شكلاً ومضمونا، وهي تريد لنفسها أن تصير أفضل، واجمل، واعمق: وفي طموحها هذا، يكمن رهان نجاحها. أي أنها ليست متبجّحة ولا منغلقة على منجزاتها. أكرّر: هي بيت. والبيت يصنعه أهله، يوماً بعد يوم.
الوقت: إذاً ليس للمجلة مكتب حتى الآن؟
حداد: لا. بل "اكوّنها" في رحم رأسي وبيتي، وفي أحيان كثيرة أيضا من على كومبيوتري المحمول الذي يرافقني أنى ذهبت. طبعاً، طموحاتي لها كبيرة، لأن "طمعي" بلا حدود. لكنها في الوقت الحاضر تتشكّل في زاوية صغيرة (2م x 2م) على شرفة منزلي التي أغلقتها بالزجاج لكي أحوّلها مكتباً صغيراً.
الوقت: هل من كلمة أخيرة؟
حداد: كلمة شكر وامتنان عميقة وصادقة لكل من يخوض معي هذه المغامرة الرائعة: شريك حياتي ووالداي الذين يدعمونني الى اقصى الحدود، معنوياً وعملياً على السواء؛ أصدقائي (على قلّتهم)؛ أعدائي (بسبب تحريضهم الدائم لي)؛ الكتّاب والفنانون العرب الذين يقفزون معي فوق الهوّة في كل عدد جديد، بلا خوف من الوقوع والأذى؛ وأخيراً القرّاء الذين يغذّون "جسد" باهتمامهم ونهمهم وحبّهم. أدين لجميع هؤلاء بالكثير.
موقع المجلة
www.jasadmag.com
للمراسلة
[email protected]
حاورها علي أحمد الديري
صحيفة "الوقت" – البحرين
الخميس 10 أيلول سبتمبر 2009
________________________
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |