لـعــنــــة الــشـــعـــر / عقل العويط
2009-09-28
في منطق التطور، كما بالنسبة الى الجحافل المتحكمة بالمصير البشري، الحياة تتقدّم الى الأمام. فالعولمة والعلوم الى ازدهار، وكذا الاختراعات، والتكنولوجيات، والاكتشافات الطبّية، والترف المجتمعي، والغنى الفاحش، ومستوى العيش، وإطالة العمر، و"تأخير الموت"، والديموقراطيات، والحريات، والأفكار، وسوى ذلك من علامات الأزمنة ما بعد الحديثة.
في منطق التطور نفسه أيضاً، لكنْ من وجهة نظر معاكسة، الحياة تتقهقر نوعياً ومادياً. فاتساع الهوة بين الشمال والجنوب، والجوع، والمرض، والفقر، والتصحّر، واختلال التوازن، والقتل، والموت، والحروب، والحقد، واليأس، واليباس الروحي...، هذه كلّها الى ازدياد. فإلى أين؟
لا أريد أن أدخل في جدال عقيم حول هذه المسألة. لكنْ، ثمة قلّة قد تكون ترى أن الحياة لا تتقدّم الى الأمام، من حيث الجوهر الروحي والركائز الوجدانية، وإنما توغل في التشوّه والتدمير الذاتي. بالنسبة الى هذه القلّة، يجب اختراع طريقة ما لمنع العالم من الإيغال في هذا المصير، أو في الأقل، لإشاعة قدْرٍ من التوازن النسبي بين واقع الحال وما يُعتقَد أنه يرفع من كرامة العيش و"يحسّن" نوعيته.
كيف؟ الجواب الخاطف اليائس السريع المتسرع: لا أدري. وإذا كنتُ أدري، فلا أحد قادراً بحسب علمي على النهوض بهذا المشروع المضاد لصيرورة التوحشّ الحضاريّ الراهن. ثم لا أنا، ولا سوايَ من أصحاب الأفكار "الرومنطيقية"، نملك القدرة على منع هذا الذي تعتبره قلّةٌ شبه منقرضة، أنه يساوي النزول المدوّي الى القعر، أو الارتطام بالجدار الوجودي المسدود.
بالتأكيد، هناك سيرٌ حثيث في اتجاه حائطٍ كينونيّ غير قابل للتحطيم في المدى المنظور بحسب المعطيات الموضوعية، من علاماته تشييئ الحياة، وتسليعها، وتتفيهها، بما يجعلها أشبه بعلكة للمضغ، تُرمى في ما بعد، في وجه هذه الحياة نفسها، إن في أروقة الدماغ، أو على الطريق العام، أو في سلّة المهملات.
يصرخ صارخ: يجب منع العالم من تقويض مكوّناته وأركانه، بالحؤول دون الإمعان في "التطوّر التشييئي" لنظام الحياة، الى حدّ التهام كل ركائزه الأخرى. مضيفاً: لا بدّ من وجود طريقة "واقعية" لوقف القَدَرية الجهنمية التي تتحكم بهذا المصير.
هذه الطريقة "الواقعية" هي الشعر. تحذيراً، يجب ألاّ يسخرنّ أحد من هذه الطريقة، لئلا ترشقه لعنة الشعر بلعنتها.
القرّاء، وفي مقدّمهم الذين لا يقرأون، أقصد المتحكّمين برقبة المصير البشري، في العولمة والاستهلاك والتسليع والتشييئ والتكنولوجيا العسكرية والنووية والبيئة والاقتصاد والسياسة والعمران، وهم جميعاً من صنّاع القيم والثقافات ما بعد الحديثة، ربما يسخرون من طريقة كالطريقة المشار اليها أعلاه، لـ"إنقاذ" البشرية مما هي فيه، وآيلة إليه.
بسيطة. فليسخر الساخرون المقهقِهون المستخفّون المبالون واللامبالون. وليرفع الآخرون، الذين على الضفة المقابلة، الأيدي استسلاماً ويأساً.
لا أريد أن أضع أحكام قيمة، لكن أسوأ ما يواجه الإنسان، أنه، تحت وطأة السيف المسنون، قد يقبل بالأمر الواقع، الذي لا ينجو من براثنه أحد على الإطلاق، لا الكبار ولا الصغار، لا الغالبون ولا المغلوبون. الأمر الواقع، يطاول البشر في علاقاتهم بالقوة الغاشمة مطلقاً، وفي علاقاتهم بالأنظمة المالية والأخلاقية والديكتاتورية والشمولية والظلاميات ووجوه السياسات المقنّعة، مثلما يطاولهم في المناخ والبيئة والعمران والطبيعة واقتصادات الدول و... الحياة الفردية والفنون والآداب.
بكلمة واحدة: يجب عدم الرضوخ للأمر الواقع. أياً يكن هذا الامر الواقع. ذلك لا يكون فقط باللفظ الخاوي، ولا بتبجّح الثورات والتمرّدات الظاهرية، وإنما - في وجه خاص - من خلال التشبث بموهبة الجوهر القلبي للحياة.
وعندما يصرخ أحدهم منادياً بالشعر، فهو يعني هذا التشبث بالذات.
فكما هناك نداءات استغاثة، لشلّ أيدي العولمة الليبيرالية المتوحشة والديكتاتوريات شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، وكما هناك نداءات مماثلة لوقف التخريب الذي يُمارس في حق الطبيعة، والتوازن البيئي، يجب أن يكون هناك نداءات استغاثة، أقوى، أعمق، أفعل، أشرس، وأجدى، لمنع مصادرة الحياة مصادرةً تسليعية كاملة، بهدف تكريس شعريتها، وإن كضوءٍ خافت في ظلمة ماحقة.
لستُ طهرانياً ولا "بريئاً" الى الحدّ الذي يجعلني أعتقد أن الأرض كانت قبل خمسين عاماً، أو مئة، أو مليون، بألف خير. الأرض، للذين يعلمون ولا يعلمون، ملعونة منذ البدء. لكنها ازدادت ملعونيةً منذ تدمير الشعريّ فيها، ومنذ انحساره عنها الى ما دون "الخط الأحمر". كلما ابتعد العالم ما بعد الحديث هذا، ابتعاداً دراماتيكياً مفجعاً عن هذا الخط الشعري المشار اليه، أي كلما ابتعد العالم عن شرط التوازن، المتمثل عندي في التعمشق الوجودي بالشعر، اشتدّ حبل اللعنة حول عنق الأرض.
لم تكن الأرض في أحد الأيام جنّة فردوسية. لا أحد منا يتوهم أنها كانت كذلك. بل لا أحد منا يريدها أن تكون جنّة... لئلاّ تصاب الحياة نفسها بضجر الوجود. هناك "توازن"، كلما جرى الإخلال به، وقعت الواقعة وازداد الكون انفلاتاً خارج جاذبيته.
نحن نرتكب في حق "التوازن"، ما يوازي الشيء الذي قد يرتكبه خيالٌ، أو فعلٌ، أو شخصٌ ما، عندما يجعل الكواكب والأجرام والأرض والسماء تفقد معقوليتها، فتتداخل وتتصادم وتنفجر، فيتحوّل الكون من جراء ذلك قاعاً صفصفاً.
المسألة بسيطة للغاية. ليست المسألة مسألة رد الاعتبار الى الشعر والشعراء. بل هي على الوجه الآتي: يجب أن يعود الشعريّ ليمارس حقّه في الوجود، على مستوى ركائز الحياة نفسها: في المعايير كلها، في الشأن العام، في السياسة، في المجتمع، في مواصفات العيش، في سلّم القيم، في العلاقات العامة والخاصة، في البيئة، في الطبيعة، في العمران... الخ.
وكما تعيد الصورة الشعرية خلق الوجود نفسه، واختراعه شعرياً، تستطيع هذه الصورة نفسها أن تحمي الوجود البشري من التشوّه والخراب، من خلال تسرّبها في الأوعية الدموية للمعايير المشار اليها.
بالمجانية التي يستطيع بها الشعر أن يخاطب العالم، بهذه المجانية نفسها، لا بدّ في المقابل أن يحذّر الشعر من أن الاحتقار الذي يواجَه به، هو في لبّ الاحتقار التخريبي الذي يمارَس في حق الحياة نفسها. وهذا هو بالذات، سبب الخراب الأرضي الراهن.
يجب إماطة اللثام عن وجه الاحتقار المزدوج هذا، وفضح أبطاله، وتعميم أسمائهم الحقيقية والرمزية، في العقول والأفئدة والحواس، وفي اللاوعي الفردي والجمعي للبشر.
مرةً ثانية، وثالثة، ولا نهائية، أقول: لا بدّ من إعادة الاعتبار الى "الرومنطيقية الشعرية"، لكي يستعيد العالم توازنه المفقود.
المسألة بسيطة للغاية: أعيدوا، أيها الوحوش، الى الحياة، ما لمكوّنات الحياة من ركائز وتوازنات، تعد مياه الحياة الى مجاريها. شيءٌ من الشعريّ، من شأنه أن يجعل الحياة قابلةً للعيش و... طبيعية.
لا يفكّرن أحد في أنه "سينجو" بفعلته الهمجية المضادة ليس للشعر فحسب بل للحياة نفسها. الشعر ملعون جوهراً وطبعاً، فهو، كما يلعن حَمَلَته ومحبّيه ومريديه، سيلعن لاعنيه شرّ لعنة، في كل مكان ومجال و"اختصاص"، وإن تحت سابع أرض. وأيضاً في لبنان. عندنا، هنا، المسألة هي الأخرى بسيطة للغاية، لكن خطيرة: فنحن نخلّ بـ"التوازن". وهو، في معنىً عميق أو مبسّط، كالإخلال بالتوازن الكوكبي للوجود.
عقل العويط
عن النهار
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |