أقوام الجزيرة العربية وأصولها / سامي مهدي
2009-10-05
سليم مطر
قرأت باهتمام مقال الأستاذ سليم مطر ( الرؤية القومية العروبية في دراسة التاريخ ) المنشور على موقع ( أدب وفن ) في جريدة القدس العربي بتاريخ ( 30/7/ 2009 ) . وأول ما لاحظته أن المقال حاول أن يتخذ لنفسه طابع الدراسة التاريخية الموثقة في نقد تلك ( الرؤية ) ولكن سرعان ما ظهر لي أنه لا ينطلق من موقف علمي حيادي في دراسة التاريخ ، بل من موقف آيديولوجي _ سياسي مسبق ، فبدا لي مقالاً سياسياً أكثر منه بحثاً في التاريخ . وها قد مر على ذلك أكثر من شهرين من دون أن تتيسر لي ظروف مناقشته ، ولكن هذا لا يمنع من مناقشته الآن ، نظراً لما تضمنه من أفكار مثيرة للجدل .
يقول الأستاذ مطر في مقدمة مقاله ( إذا أردت أن تسيطر على شعب يكفيك أن تقنعه بأن تاريخه تابع لك ، وإذا أردت تقسيمه يكفيك أن تقنعه أنه في تاريخه كان مقسماً ، بل يمكنك أن تصنع وطناً من لا شيء إذا نجحت أن تصنع تاريخاً خاصاً به ، وإسرائيل أوضح مثل على ذلك ! ثم أن التاريخ سلاح خطير لا يمكننا أبداً أن نتعامل معه بحيادية وبرود ، فإن لم تسارع إلى الاستيلاء عليه واستعماله لصالح وطنك ، فإن هنالك مختلف القوى الإقليمية والدولية تعمل ليل نهار لكي تستولي على تاريخك من أجل كتابته بما يكفل مصالحها ويبرر إضعاف بلادك والسيطرة على شعبك . لهذا فإن مسألة ( ما هو الموطن الأصلي للساميين والعرب ) قد تبدو ثانوية من الناحية المعرفية ، إلا أنها للأسف تعتبر من أخطر الإشكالات التاريخية التي تم استخدامها سياسياً في العراق خصوصاً ، وكذلك بلاد الشام ( ... ) بل بلغت المازوشية إلى حد نفي أوطاننا تاريخياً من أجل تقديس الأصل الجزيري ) .
يتضح من هذه المقدمة الساخنة الساخطة أن الأستاذ مطر غير راض عن التاريخ المكتوب ، ويشعر بأن هناك من استولى على تاريخ وطنه ، وهو يريد إعادة كتابة هذا التاريخ ، وصناعة تاريخ خاص آخر ، وهذه مسألة لا تحتمل الحياد والبرود في رأيه ، لأنه إن لم يفعل ذلك فسيسارع غيره للاستيلاء على هذا التاريخ ، هذا إن لم يكونوا قد استولوا عليه فعلاً . ثمة إذن تاريخ مسروق ، سرقه العروبيون في رأي الأستاذ مطر ، ومقاله يهدف إلى استرداد هذا التاريخ ، وهذا هدف آيديولوجي سياسي يتعارض ومتطلبات أي منهج علمي في كتابة التاريخ . إذ ما يلبث الأستاذ مطر أن يقرر أن ( الهلال الخصيب ) هو موطن الحضارة التي نشأت منذ آلاف السنين إلى جانب الحضارة المصرية ، وأن سكان هذا ( الهلال ) الذين يسميهم ( ساميين ) هم صناع هذه الحضارة ، وأن من العبث البحث عن أصولهم خارجه ، ومن التعصب ، وربما التآمر ، أن ننسب هذه الأصول إلى ( الجزيرة العربية ) . وبهذا نكتشف أن الأستاذ مطر يريد أن يقوّض ( حقيقة تاريخية ) يظنها من تلفيق ( العروبيين ) ليقيم على أنقاضها ( نظرية ) جديدة تضع ( الهلال الخصيب ) في موضع ( الجزيرة العربية ) وبذلك يصنع لأفكاره الآيديولوجية أرضية تاريخية تلبي طموحها النظري والسياسي . وليس من شأني هنا مناقشة هذه الآراء فهو حر فيها ، بل يهمني فقط تفحص المفاصل الأساسية في النظرية التي جاء بها والتعرف على مدى سلامتها . وهذا ما أحاول القيام به بهذه التعليقات .
الهلال الخصيب :
ما دام الأستاذ مطر قد سيّس الموضوع فلابد لي من القول : إن الرجل لم ينتبه ، في ما أظن ، إلى أن نظريته هذه تخدم آيديولوجيا محددة هي آيديولوجيا الحزب القومي الاجتماعي ، المعروف بالحزب القومي السوري ، أما إذا كان منتبهاً إلى ذلك فهذه مسألة أخرى تعنيه . ولكن كيف ؟
إن أول من استخدم تسمية ( الهلال الخصيب ) هو المؤرخ البريطاني هنري بريستد في كتابه ( العصور القديمة ) ، ثم تلقفه المفكر السوري الراحل أنطون سعادة وأدخله في أدبيات حزبه : الحزب القومي الاجتماعي ( السوري ) . والمعروف عن سعادة أنه كان يؤمن بأن هناك ( قومية سورية ) وبأن ( سوريا الكبرى ) كما يسميها القوميون الاجتماعيون ويكتبونها في أدبياتهم ، أو ( سوريا الطبيعية ) التي تضم كلاً من سورية ولبنان وفلسطين والأردن هي وطن ( الأمة السورية ) . ولكن يبدو أن سعادة رأى ، في ما بعد ، أن ( سوريا الكبرى ) تبقى ناقصة ما لم يضف إليها ملحقات أخرى ، فأجرى تعديلاً على هذه الخارطة الحزبية عام 1947 وضم إليها كلاً من العراق والكويت وجزيرة قبرص ، لأسباب حضارية واقتصادية وستراتيجية ، وأطلق على خارطته الجديدة اسم ( الهلال الخصيب ) . وهنا أتساءل : هل هذا هو ( هلال ) الأستاذ مطر أيضاً كما يبدو من مقاله ؟ إذا صح أنه هلاله فهذا يعني أن للمقال مرجعية آيديولوجية محددة ، وإذا لم يصح فهذا يعني أن الأستاذ مطر انهمك ، دون أن يقصد ، في كتابة تاريخ جديد يتفق مع هذه المرجعية ويخدم أهدافها السياسية البعيدة ، وهو حر في ذلك أيضاً ، ولكن ليس على حساب الحقائق التاريخية .
ما قبل التاريخ :
يمر الأستاذ مطر في مقاله مروراً سريعاً وعابراً على التطور الحضاري في المنطقة في عصور ما قبل التاريخ ، فيقول بإيجاز ( إن الهلال الخصيب ظل مأهولاً بالبشر منذ عشرات الآلاف من الأعوام ، وفيه نشأت أولى المستوطنات الزراعية منذ الألف التاسع ق. م. وظهرت معالم الحضارة في الألف السادس ق. م. في حسونة وسامراء وحلف والعبيد وأوروك وجمدة نصر ) . ولكن عبارة ( إن الهلال الخصيب ظل مأهولاً بالبشر منذ عشرات الآلاف من الأعوام ) عبارة عامة مضللة . فحتى أواخر الألف العاشر قبل الميلاد لم يكن في هذه المنطقة سوى أعداد قليلة جداً ، ومتناثرة ، من بقايا إنسان الكهوف الذي عاش على الصيد وجمع القوت . وابتداء من هذا التاريخ بدأت القرى الزراعية بالظهور . ولكنها كانت قليلة جداً ، ومتباعدة ، هي الأخرى ، وسكانها قليلون جداً لا يتجاوزون عدة أسر صغيرة في أفضل الأحوال . وليس لدينا في كل ما يسمى ( الهلال الخصيب ) حتى الآن مثال لقرية زراعية متطورة نسبياً سوى القرية التي عثر عليها في موقع ( جرمو ) في العراق والتي يعود تاريخها إلى الألف السابع قبل الميلاد . ومع أن القرية التي عثر عليها في أريحا في فلسطين توازيها في القدم ، ولكنها كانت أقصر عمراً وأقل تطوراً . ومع ذلك قدر سكان قرية موقع ( جرمو ) في آخر مراحل تطورها بنحو (150 ) فرداً ، وقدر عدد بيوتها بنحو ( 25 30 ) بيتاً . ولذلك فإن القول ( إن الهلال الخصيب كان مأهولاً بالبشر منذ عشرات الآلاف من الأعوام ) يوهم بوجود كثافة بشرية مهمة فيه خلافاً للحقيقة .
ولكن من المهم أن نذكر أن هذا كله قد حدث قبل ظهور من سماهم الأستاذ مطر بالساميين على مسرح الأحداث بآلاف الأعوام . فالذين أسسوا القرى الزراعية في مواقع زاوي جمي ، وكريم شهر ، وملفعات ، وكردي جاي ، وجرمو ، والذين أقاموا المراكز الأولى للحضارة في مواقع حسونة ، وسامراء ، وحلف ، فالعبيد ، فالوركاء ، فجمدة نصر ، ليسوا ( ساميين ) ومصادرتهم بهذه التسمية الأسطورية الغامضة تجاوز على التاريخ . فليس ثمة دليل واحد يدل على أنهم كانوا ( ساميين ) لا بالمعنى العرقي ، ولا بالمعنى الحضاري . إنهم مستوطنون محليون ، عراقيون إن شئت ، يدل على ذلك التطور التدريجي ، والمترابط ، الذي حدث في هذا القطر منذ أقدم القرى الزراعية المكتشفة فيه ( زاوي جمي / حوالي 9500 ق. م. ) حتى الدورين الحضاريين المعروفين بدور أوروك ( 3500 ق. م. ) ودور جمدة نصر ( 3000 ق. م. ) . وتؤكد هذا التدرج في التطور الحضاري حفريات تل شمشارة ( قرب رانية ) وتل الصوان ( قرب سامراء ) .
ومادام الأستاذ مطر يعترف بأن ( الموجة السامية الأولى ، وهي الأكدية الكنعانية ) ظهرت على مسرح الأحداث في نحو ( 2350 ق. م. ) فعليه أن يعترف أيضاً بأن مراحل التطور الحضاري التي تحدثنا عنها لم يكن لمن يعدهم ( ساميين ) شأن فيها ، برغم أن الأكديين ( الساميين ) نزحوا إلى العراق في أواسط الألف الرابع قبل الميلاد . ومعنى هذا أن الأستاذ مطر يتعسف حين يقول ( إن الساميين أسسوا أولى الحضارات في تاريخ البشرية بجانب الحضارة المصرية ) . فالحضارة التي يعنيها كانت قواعدها الأولى قد وضعت وأقيم بنيانها وحققت منجزاتها الأولى ( وأهمها اختراع الكتابة ) دون أن يكون للساميين دور واضح وملموس فيها . وليس صحيحاً أن يقول الأستاذ مطر لتسويغ قوله السابق : إن السومريين والساميين كانوا من ( نفس العنصر ) ، فلم يقل مثل هذا أحد من الباحثين ، بمن فيهم الباحث جورج رو الذي استشهد به ، بل قالوا العكس ، فالسومريون ( العراقيون ) هم السومريون ، والأكديون ( الساميون ) هم الأكديون ، ولكل من السومريين والأكديين لغته وثقافته ومعبوداته ومواطن سكناه في العراق ، وإن اندمجوا معاً بعد الألف الثاني للميلاد تحت اسم البابليين . وهذا لا يحط من قيمة الدور الحضاري الذي لعبه الأكديون ، ومن بعدهم العموريون ، والكلديون ، في تاريخ العراق ، فهو دور عظيم ، بل يعطي لكل ذي حق حقه في حدود مساهمته الفعلية في بناء الحضارة .
ولسبب غير مفهوم حرص الأستاذ مطر على أن يضيف اسم الشام إلى اسم العراق ليجعلها شريكاً له في تأسيس هذه الحضارة ( التي يعدها سامية ) والنهوض بها ، وهذه مصادرة أخرى لا تؤيدها الوقائع التاريخية . فمع أن مؤثرات أدوار حسونة وسامراء وحلف امتدت إلى الشام والأناضول ، غير أنها لم تفضِ في الشام ، ولا في الأناضول ، إلى نشوء حضارة أصيلة كالتي نشأت في العراق . والمثل الذي يستشهد به الأستاذ مطر لتسويغ إضافة اسم الشام إلى اسم العراق في هذا المجال هو : إيبلا ، في حين أن إيبلا ، على قدمها وأهميتها التاريخية ، لم يكن لها أي دور حضاري أصيل في التاريخ . وأقصد بالأصالة هنا : الإبداع . فإيبلا كانت ( تتلقى ) منجزات حضارة بلاد سومر وأكد وتستفيد منها ( كالخط المسماري وغيره ) ولا تبدع شيئاً تضيفه إليها . وليس في وسعنا ، في أية حال ، أن نتحدث عن حضارة إيبلاوية كما نتحدث عن الحضارة السومرية أو الحضارة الفرعونية أو أية حضارة أصيلة خلاقة . وقل مثل ذلك عن مدينة : ماري ، على الفرات . فهي ، إذا غضضنا النظر عن حدود سايكس بيكو ، مدينة عراقية بالمعنى الحضاري الكامل .
الساميون :
لا أتفق مع الأستاذ مطر على استخدام تسمية ( الساميين ) وإطلاقها على أقوام مثل : الأكديين والعموريين والكلديين والكنعانيين والفنيقيين والآراميين والعرب وغيرهم . فهذه التسمية ليست علمية ، وقد جاء بها المستشرق النمساوي اليهودي شلوتزر عام ( 1781 ) وبناها على أسطورة توراتية تقسم الأمم والشعوب وتنسبها إلى أبناء نوح ومنهم ( سام ) جد ( الساميين ) المزعوم . وقد سعى إلى إشاعة هذه التسمية المستشرق الألماني إيشهورن وأطلقها مصطلحاً على أقوام المشرق العربي . وتمسك بها الآثاريون والمؤرخون الغربيون لأغراض غير علمية ، وربما غير نزيهة ، أقلها إضفاء مصداقية على مقولات التوراة ( التاريخية ) .
غير أنني أتفق مع الأستاذ مطر على أن هناك عدة نظريات ( ربما ست أو يزيد ) حول الوطن الأصلي الذي جاءت منه تلك الأقوام ، وأن واحدة منها فقط تجعل الجزيرة العربية وطناً أصلياً لها ، ولكنني وجدت أن هذه النظرية هي المعول عليها بين جمهور الباحثين حتى اليوم ، بخلاف ما يقوله الأستاذ فراس السواح الذي استشهد به . أما النظريات الأخرى فقد عفا عليها الزمن لضعفها وتهافتها . وبين يدي الآن قائمة بأسماء أكثر من عشرين عالماً من علماء القرنين التاسع عشر والعشرين ، وهم من جنسيات مختلفة ، يقولون بهذه النظرية من دون أن يكون أي منهم من العروبيين الذين يصب الأستاذ مطر نقمته عليهم . ولكن بعض هؤلاء ( مثل : فيلبي ومونتغمري ) يرى أن هذا الوطن هو : اليمن ، وبعضهم ( مثل : ورل وآرثر كيث ) يرى أنه : هضبة نجد ، وغيرهم يرى أنه : الجزيرة العربية عامة . ولم يجتمع كل هؤلاء العلماء على اعتبار الجزيرة العربية هي أمّ تلك الأقوام اعتباطاً وغفلة .
أما الأستاذ مطر فيرى أن الوطن الأصلي لمن يسميهم الساميين هو الهلال الخصيب وأطراف الجزيرة العربية الشمالية ، وقد أخذ هذا الرأي عن باحث واحد هو : جورج رو نفسه ، وهذا أخذه عن موسل في ما أظن . ولكن رو لم يقل هذا عن جميع الساميين كالأستاذ مطر ، بل قصره على الأكديين والكنعانيين والفنيقيين والعموريين ، واستثنى من ذلك الأقوام اللاحقة ( أي الآراميين ، وعرب ما قبل الإسلام ، والعرب المسلمين ) . وحجته ( وهي الحجة التي تبناها الأستاذ مطر وجعلها ركيزة أساسية من ركائز مقاله ) أن الجمل لم يدجن ويستخدم في التنقل في المشرق العربي إلا في أواخر الألف الثاني قبل الميلاد ، وأن الاعتماد على الحمير في التنقل ، قبل هذا التاريخ ، لم يكن يسمح لمثل هذه الأقوام بالهجرة إلى مناطق بعيدة . وقد تبدو هذه الحجة منطقية في ظاهرها ، ولكن فات رو ، وفات الأستاذ مطر من بعده ، أن الهجرات البشرية الأولى لم تكن كثيفة ، وكانت تتم بمتاع خفيف قليل ، وعلى مراحل تستغرق مدداً زمنية طويلة ، وإلا فكيف يمكننا أن نستوعب اليوم وصول جماعات بشرية إفريقية إلى الهلال الخصيب قبل تلك الحقبة مثلاً ؟!
ومع ذلك ثمة نظرية أخرى حول تاريخ تدجين الجمل واستخدامه في المنطقة تبدو أقوى من هذه النظرية التي تقوم على الافتراضات والتخمينات وإن قال بها علماء مثل توينبي وأولبرايت ، وأخيراً جورج رو والأستاذ مطر . والنظرية التي أعنيها يذكرها الدكتور أحمد سوسة ، وهي تقول : إن الجمل قد دجّن واستخدم في المنطقة منذ أقدم العصور ، ودليلها على ذلك ما اكتشف فيها من صور له في نقوش يعود تاريخها إلى ما قبل الألف الثاني قبل الميلاد بكثير ، ومنها : صورة نقشت على صخرة في جبل ( طويق ) عند الحدود الجنوبية الشرقية للمملكة الأردنية في الموقع المسمى قلوة أو كلوة Kilwah يعود تاريخها إلى العصر الحجري الميسوليثي ، ويظهر فيها جمل ذو سنام واحد كالجمال التي شاع استخدامها في الجزيرة العربية وبادية الشام . ومنها أيضاً صورة أخرى لهجين وراكبه يعود تاريخها إلى الألف الثالث قبل الميلاد ، وظهور الراكب في هذه الصورة يدل على أن الجمل قد دجّن واستخدم قبل تلك الحقبة بكثير . وظهرت صور للجمل في نقوش مصرية تعود إلى التاريخ نفسه ، أي إلى الألف الثالث قبل الميلاد . ويؤكد سوسة أن بعض العلماء أثبت وجود الجمال ذوات السنام وذوات السنامين في العهد الأكدي ، أي في أواسط الألف الثالث قبل الميلاد ، وكان الأكديون يسمون هذا الحيوان باسم ( جملو ) أو ( إبلو ) وهما الاسمان المعروفان للجمل في اللغة العربية ، وفي اللغات الجزرية ( السامية ) الأخرى . ويبدو أن الجمل كان معروفاً منذ العصر السومري ، حسب سوسة نفسه ، وكان السومريون يسمونه ( حمار أرض البحر ) والمقصود بأرض البحر هنا سواحل الخليج العربي . وقد عثر في مدينة الوركاء العراقية المعروفة بـ ( أوروك ) وفي دور كوريكا لزو ، عاصمة الكاشيين ، قرب بغداد ، على ألواح طينية نقشت عليها صورة هذا الحيوان . هذا وذكرت التوراة في سفر التكوين مرتين أن إبراهيم ( القرن التاسع عشر قبل الميلاد ) كان له قطيع من الجمال أيام وجوده في حران . ومثل ذلك ذكرت عن يعقوب . ويفهم من سفر القضاة أن المدينيين والعمالقة كانوا ( في القرن الثالث عشر قبل الميلاد ) يغيرون بجمالهم على مستوطنات اليهود الزاحفين على فلسطين من سيناء .
فإذا صحت المعلومات التي جاء بها أصحاب هذه النظرية ، ولا نراها إلاّ صحيحة ، فهي تنسف النظرية الأخرى حول هجرة الجماعات البشرية ، وتنسف أيضاً الكثير من افتراضات جورج رو والأستاذ مطر وما بنياه عليها من استنتاجات . وعلى أية حال ، إن هجرة هذه الجماعات البشرية إلى مواطن بعيدة جداً عن ديارها الأولى كانت تحدث منذ أزمان سحيقة في القدم ، بغض النظر عن نوع وسائل الانتقال ، بما فيها الأقدام ، والأمثلة على ذلك كثيرة ، وعلى هذا الأساس يمكن الحديث عن هجرة الأكديين والكنعانيين والفنيقيين والعموريين من الجزيرة العربية بغض النظر عن تاريخ تدجين الجمل .
ثم أن القول إننا لا نملك دليلاً على أن الأكديين والكنعانيين كانوا بدواً هو قول مردود ، فجورج رو ( ومن بعده الأستاذ مطر ) ينظران إلى ما أصبح عليه هؤلاء بعد مرور أكثر من ألف عام على هجرتهم إلى المناطق الخصيبة في العراق والشام واستقرارهم فيها ، وهي حقبة كانوا خلالها رعاة ، ثم زرّاعاً ، قبل أن يتحضروا ويشيدوا المدن ويكون لهم دور فاعل في التاريخ . فالفاصل بين حقبة استقرار الأكديين في العراق مثلاً وبروز دورهم الحضاري يبلغ نحو ألف عام . أما العموريون فالدليل على بداوتهم موجود ، وحسبنا نص سومري يصفهم بأنهم ( بدو مخربون ، لا يعرفون السكن في البيوت ، ولا الزراعة ولا الحبوب ، ويعتمدون في قوتهم على استخراج الكمأة من الأرض ، ويأكلون اللحم نيئاً ، ولا يدفنون موتاهم ) .
إذن فاحتمال هجرة هذه الأقوام من الجزيرة العربية هو المرجح هنا ، وليس العكس . فالدافع إلى الهجرة من الجزيرة كان موجوداً ، والوسيلة كانت متوفرة ، والطريق سالكة .
بادية الشام :
وليس صحيحاً أن بادية الشام كانت تسمى ( عربايا ) كما يقول الأستاذ مطر في مقاله . وهذه التسمية ليست أكدية مشتقة من ( غربا ) وتعني الغرب ، كما يذكر ، بل هي تسمية سريانية معناها ( بلاد العرب ) مثل ( ماتو _ أريبي ) الأكدية _ الآشورية . وقد أطلقت على المنطقة الواقعة بين نهري دجلة والفرات ، والتي تعرف اليوم بالجزيرة . وهي سميت بهذا الاسم بعد أن تدفقت إليها موجات من القبائل العربية النازحة واستوطنتها بعد سقوط الدولة الآشورية ( 612 ق. م. ) وسقوط الدولة الأكدية ( 539 ق. م. ) وربما قبل ذلك بقليل . وقد وردت التسمية نفسها في كتابة بهستون بوصف ( عربايا ) إقليماً من أقاليم الإمبراطورية الإخمينية في عهد دارا الكبير نهاية القرن السادس قبل الميلاد ، ثم أطلقت في ما بعد على مملكة الحضر التي أسسها هناك هؤلاء النازحون ( 85 _ 241 م ) وليس للعروبيين في هذا أي ذنب .
هذا أولاً ، وثانياً ليس صحيحاً أن بادية الشام ( منفصلة عملياً عن الجزيرة من ناحية التكوين البيئي والارتباط المباشر الطبيعي والسكاني بالعراق والشام ) كما يقول الأستاذ مطر في هذا المقال ، بل هي امتداد جغرافي طبيعي لها منذ وجدتا ، وتكفي نظرة واحدة إلى الخارطة وما يظهر عليها من تضاريس لاكتشاف هذه الحقيقة . فليس بينهما أية موانع طبيعية ( كالبحار والسلاسل الجبلية والأنهار العظيمة ) تفصلهما وتعيق الاتصال بينهما والانتقال من إحداهما إلى الأخرى بأيسر الوسائط . وطبيعة أراضي البادية الجنوبية امتداد لطبيعة أراضي الجزيرة الشمالية الغربية . ومناطقها البركانية هي امتداد لسلسلة جبال السراة البركانية . وقد كانت الرياح الغربية التي تحمل الأمطار إلى مرتفعات سورية وفلسطين تصل في الأزمنة الغابرة إلى الجزيرة قبل أن تفقد رطوبتها . وعدا ذلك كانت البادية (وظلت حتى عهد قريب) هي المنفذ البري الرئيس والمفضل لسكان نجد والحجاز إلى العراق والشام ، وعبرها مرت الخطوط التجارية بين اليمن وسواحل البحر الأبيض المتوسط ، وبين هذه السواحل وسواحل الخليج العربي . ومن يدرس تاريخ المدن الثلاث ( تيماء ، ودومة الجندل ، وسلع أو بطرا ) تتكشف له بجلاء قوة الارتباط والتواصل بين البادية والجزيرة ، والمقيمين هنا وهناك ، ويظهر له أن نزوح أقوام الجزيرة إلى العراق والشام كان يبدأ بنزوحهم إلى هذا المثلث وما حوله حتى قبل نشوء هذه المدن ( الواحات ) وظهورها على مسرح الأحداث في أوائل الألف الأول قبل الميلاد ، بل أن نواة كل مدينة من هذه المدن تكونت بفعل النزوح المستمر من الجزيرة إلى البادية ، ثم نمت وازدهرت بفعل الحركة التجارية التي نشطت في تلك الحقبة ، حتى أصبحت من أهم المحطات التجارية وأشهرها ، وقد كانت تقطنها مجموعات بشرية من قبائل عربية شتى ، شمالية وجنوبية ، وبعضها ممن غلب عليها اسم العرب البائدة كالثموديين . وكان ملوك العراق القديم ، من بابليين وآشوريين وكلديين ، يحرصون على إخضاع هذه المدن ، وخاصة تيماء ودومة الجندل ، بالقوة أو بغيرها من الوسائل ، لتأمين خطوط تجارتهم الخارجية مع مصر وسواحل البحر الأبيض المتوسط وسد الطريق على القبائل البدوية التي تغير عليها . وهكذا يظهر أن الفصل الذي يقيمه الأستاذ مطر بين بادية الشام وجزيرة العرب هو فصل متعسف وليس له أي أساس مادي على الأرض .
وقد أسهب الأستاذ مطر في وصف طبيعة بادية الشام ليقنعنا بأنها هي الوطن الأصلي ، وليس المؤقت ، الذي انتشر منه من سماهم بالساميين . ولكنه لم يقدم دليلاً مقنعاً بأن هذه البادية تصلح لأن تكون وطناً أصلياً لقوم من الأقوام . فالأوطان الأصلية تنشأ حيث تتوفر مقومات العيش والاستقرار لأمد طويل ، وأولها وجود موارد مائية ثابتة وكافية على مر الفصول والأعوام ، ولحقبة زمنية طويلة بحيث تسمح بالاستيطان والنمو والتكاثر ، وهذا ما لم يتوفر لبادية الشام منذ ما قبل التاريخ حتى اليوم . فبرغم أن معدل أمطارها السنوية يقدر بحوالي 127 ملم ( حسب الأستاذ مطر ، وهو ما لم يتسنّ لي التأكد منه ) لا تكفي هذه الكمية من مياه الأمطار لنشوء وطن أصلي لتفريخ البشر وتصديرهم إلى الأقطار المجاورة في دفعات متعاقبة ، صغيرة وضخمة ، عبر آلاف السنين ، بل يمكن فقط أن تكون مرعى موسمياً مؤقتاً ومعبراً للنازحين ، كما كانت منذ ما قبل التاريخ حتى نشوء الدول العربية المعاصرة ، بل حتى بعد نشوئها بقليل . ذلك لأنها تفتقر افتقاراً شديداً إلى عيون المياه ومجمعاتها التي تسمح بإقامة نظم ري كفؤة وثابتة تساعد على الاستقرار وتسمح بالاستيطان والتكاثر وتصدير البشر . ولذلك ندرت في داخلها الواحات وتحولت إلى مراع شتوية _ ربيعية مؤقتة ، ولم تستطع أن تستوعب إلا جماعات صغيرة قليلة العدد من الرعاة وشبه الرعاة ، تعيش على هوامش المراكز الحضارية وتتسلل إليها بمرور الزمان . وكان هذا هو شأنها في الماضي ، وهذا هو شأنها اليوم ، وهو ما كان يدفع النازحين إليها من الجزيرة العربية إلى تصيّد أقرب الفرص للنزوح منها إلى المناطق الخصيبة المتحضرة ، وإن عزت عليهم الفرص صنعوها هم بأنفسهم ، بالغزو أو بغيره .
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |