الذات والبناء في ديوان "حُلة حمراء وعنكبوت" للشاعرة هبة عصام / د.محمود الضبع
2009-10-10
إن الوقوف على عمل شعري ما لقراءته واستكشاف آلياته هو خطوة في طريق تحديد ملامح الشعرية العربية، من هذا المنطلق فإن قراءة ديوان "حُلة حمراء وعنكبوت" للشاعرة هبة عصام، لايمثل فقط محاولة للتعرف على تجربة شعرية وحسب، وإنما هو محاولة لاستكشاف كتابة جيل معاصر انتفت فيه مفاهيم الريادة التي كانت سائدة قبلا، وحلت بدلا منها مفاهيم أخرى تجعل من الشاعر ريادة من نفسه ولنفسه، ولعل أول الملامح التي تفرض نفسها في الديوان هي كتابة الذات، وارتباطها على أكثر من مستوى بالذات الأنثوية على وجه الخصوص.
1- كتابة الذات – الكتابة النسوية:
تكشف الذات عن هويتها في النص عبر أبنية اللغة، ودلالات المعنى، وما يستتبع ذلك من بناء الصورة وتنويعاتها، وعلى الرغم من القاسم الإنساني المشترك بين كل النصوص، إلا أن الخصوصية تفرض هيمنتها من خلال الذات والتعبير عن قضاياها داخل النص، فالشعر في إجماله تجربة ذاتية بحته، وإعادة بناء للكون من وجهة نظر خاصة، من هنا تبرز ذات الشاعر، وتنكشف هويته الثقافية عبر ما يكتب، وهو ما يمثل مدخلا مهما لقراءة نصوص الشاعرة هبة عصام عبر ديوانها " حُلة حمراء وعنكبوت" ، إذ هناك نصان يمثلان مفتاحا لبحث الشاعرة عن ذاتها والتعبير عن أفضيتها، الأول بعنوان "كانت أنا" ص43 ، والثاني بعنوان "وقفة" ص63، وعلى الرغم من تعدد النصوص التي يمكن إدراجها في هذا الإطار ، مثل "جني" و "عابرة ليلية" ، إلا أن هذين النصين يختلفان، تقول في قصيدة "كانت أنا": (تلك العجوزُ المرهقةْ / بملابسَ سَوداءَ ترمقُ بعضَ أشيائي الصغيرةْ / تمضي بأمتعة الرحيلْ / برعونة المذعور أركضُ خلفها / تخطو كرعبٍ في دمي / أدنو؛ فتختلج الخُطَى / ترنو إليّ .. تحل بي / رباه ما هذا الجنون.. / كانت أنا..!)، حضور الذات الأنثى هنا على نحو طاغ، هاجس المرأة داخل المرأة، واختزال تجربة الحياة في دلالات بسيطة هي العجوز المرهقة، والسواد، ومشاعر المرأة بين الرعونة والرعب والشك، والتماهي الذي يصل إلى التوحد، فهل يشي ذلك بالفعل بأن المرأة ترى في ذاتها بأنها سيدة الأكوان، وأنها دوما ليست امرأة واحدة، وإنما هي تجسيد لآلاف النساء!! هذا معتقد نسوي قديم يكاد يمثل أسطورة، والقصيدة هنا تتماس معه.
وتقول في قصيدة "وقفة: (الوقتُ يكفي للجدلْ / يكفي لكشفِ الزيفِ فوق وجوهِنا / فلنشهدَ الوهمَ المغادرَ في جِنازتِهِ...)، القصيدة في إجمالها تمثل مرحلة من مراحل وعي امرأة بعلاقاتها مع الكون والحياة والآخر، ومشاهد القصيدة هنا تدور حول هذا الوعي والحس الأنثوي في علاقته بالآخر، ورؤيته لما خلف الأقنعة، وحول موت الحب المرتجى في مشهده الجنائزي المهيب، وفي المقطع الثاني تنتقل الحركة من الوصف السردي إلى التنويع في أبنية اللغة، فتنتقل إلى لغة الخطاب المباشر الموجه إلى الآخر في أساليب إنشائية آمرة: (..ارفعْ غطاءَ النعشِ وانظرْ جيدا / فَجِّر به قُبحي وقُبحَكَ / وانفراجاتِ المسافةِ بيننا / ولنلتقِ، ونرتب الأوراقَ / كي نمضي بلا ذكرى يطاردها السؤالُ / فتتسع!)، وعلى الرغم من أن المشهد يعود في بنية دائرية إلى التعبير عن الرمز الذي مات، إلا أنه يقدم رؤية جديدة بالفعل حول القرار الذي تتخذه في النهاية لفض الاشتباكات التي تظل تؤرقنا بالفعل في نهاية كل علاقة إنسانية نمر بها، والشك الذي يداخلنا فتهتز الثقة في النفس، بحثا عن الأسباب، ولماذا كان ذلك.
إن التعبير عن وعي المرأة في القصيدتين لم ينطلق من كونها الضحية أو المضحية التي تكتفي بالتفجع والشكوى كما تمثله بعض الكتابات النسوية، ولم ينطلق من النظر إلى المرأة بوصفها موضوعا جسديا كما تسميه الفرويدية والنظرية النقدية النسوية (نظام التمركز حول الذكورة)، والتي تعتمد أبنية النص الشعري فيها على تصوير المرأة بوصفها مثال الاضطهاد من قبل الرجال، والتي أحيانا تتجه إلى إعلان الجسد والكشف عنه داخل النصوص، كما نادت بذلك الحركة النسوية، لم ينطلق وعي الشاعرة "هبة عصام" في بنائها لقصائدها مما سبق ولكنه انطلق من وعي المرأة بوصفها ذاتا تتعامل مع قضايا الواقع الاجتماعي والسياسي والفكري دون اللجوء إلى إثارة الصراعات مع كتابة الآخر رجلا كان أم امرأة، ومن ثم جاءت الكتابة معبرة عن المرأة في صدقها مع ذاتها، وفي التعبير عن نضج الوعي وعقلانيته، وهو ما تحاول به مخالفة الوعي السائد والقائل بعاطفية المرأة في مقابل عقلانية الرجل.
2- المجاز وبناء الصورة:
اللغة الشعرية لغة مجازية بطبيعتها ، ويكون المجاز فيها هو الناتج عن تجاور وتعالق الدلالات لإنتاج تدلال جديد ( بمفهوم النَّظْم كما تحدث عنه عبدالقاهر الجرجاني) ، حيث تنتقل اللغة في وظيفتها من مجرد الإخبار إلى الوظيفة الشعرية، تلك الوظيفة التي تتحقق في الشعر باعتمادها على الاستعارة أساسا، فى مقابل النثر الذى يعتمد على الكناية أو المجاز المرسل، حيث لا يتم الانتقال من شئ إلى شئ شبيه به كما هو الحال فى النثر، وإنما يتم الانتقال من شئ إلى شئ آخر مجاور، يصبح المجاز أحد أهم ملامح الشعرية المعاصرة، وعلى قدر توسيع بنية المجاز تكون الشعرية، وإن كان المجاز يعتمد في الأساس على التلقي بوصفه عاملا حاسما في تحديد اشتغال المجاز من عدمه، وكما أن كل شلال إلى زوال، كذلك فإن كل استعارة (مجاز) إلى زوال، فما تتواضع عليه ذائقة التلقي بأنه مجاز يخضع لمفهوم الزمان والمكان، وقد اعتمدت الشاعرة هبة عصام من بين الأبنية التي اعتمدتها في تشكيل القصيدة على رسم الصورة والبناء اللغوي المعتمد على كسر أفق التوقع في علاقاته وما ينتج عنها.
تقول في قصيدة "ما هوَ لي": (صار سواءً / أن يقتاتَ البحرُ قصورَ الرملْ / أو أن تنفضَ عن عينيكَ نُعاسَ الوقتْ / أو ترتادَ دروبَ الرفضِ / على صَهوةِ فرسٍ مجنونْ...)، فليست هناك علاقة يمكن أن تحيل إلى مرجعية منطقية، وهنا ينبني المجاز في كشفه عن التحولات التي تدل عليها العلاقات اللغوية، فلا البحر يقتات على قصور الرمل، ولا نعاس الوقت مما ينفض عن العينين، ولا دروب الرفض يمكن ارتيادها على صهوة الفرس، إنها الرؤية التي تسعى الشاعرة لتجسيدها، ولكنها ليست الرؤية أحادية الدلالة، وإنما تلك التي تفتح الباب على مصراعيه لأفق التأويل، فقد يراها المتلقي حالة من الملل الإنساني، أو الشعور باليأس، أو بالرفض، أو بالاكتشاف، أو، أو، أو........إلخ، من هذا المنطلق تتشكل المقاطع عبر القصائد، تقول مثلا في قصيدة "وأمضي": (أنا أَرَقٌ / تَمرَّد ظِلُّهُ المصلوبُ فوق عقاربِ الزمنِ / وأَرَّخَني / نقوشا بين أسفاري)، فكل جملة أو سطر شعري يمثل علاقة لغوية تصنع ما يشكل انحرافا دلاليا لا يحتكم في مرجعيته إلى الواقع، ولكنه يحتكم إلى منطق التأويل النصي، وتأويل التلقي، وهو ما يصنع الشعرية الحقيقية، إذ لا ينغلق النص على ذاته، ولايتوجه إلى دلالة أحادية، أو صورة مأهولة من قبل، وإنما إلى اختراع الجديد دوما.
3- البناء النصي:
اعتمد الديوان عبر بناء قصائده بشكل عام على المقاطع القصيرة نسبيا، بما لا يتجاوز المقطع الواحد مساحة الصفحة، وهو أمر يتناسب على المستوى الجمالي مع حالات الإنسان المعاصر في سرعة إيقاع الكون من حوله، وسرعة المشاهد التي يمر بها، ومع طبيعة التلقي من جهة، ومع مفاهيم الشعرية الحداثية في هدم المجانية والاعتماد على الاختزال والتكثيف تحديدا.
ولكن من أين تبتدئ القصيدة؟ إن القصيدة عند هبة عصام لاتبدأ بداية سردية، ولاتميل كذلك لاستخدام الفعل، ولكنها تبدأ في الغالب الأعم بجملة وصفية مطلقة، فعبر قصائد الديوان جميعه لم تبدأ إلا قصيدة واحدة بصيغة فعلية هي قصيدة "قبل الفجر"، تقول في بدايتها: (اترك نافذتَك مشرعةً / واستبْقِ الوردَ على عتباتِ ستائِرها / فسأدخلُ قبل الفجرِ / وقبل الضوءِ الساطعِ مِن يقظةِ حُلمٍ مبتورْ...)، وهي تجربة تكشف فيها الشاعرة عن وعيها بذاتها النسوية، وقدراتها على اختراق أحلام الرجل حتى في منامه، لأنها بامتلاكها لوعيها تكون هي من يمتلك حق الدخول والخروج، وفي قصيدة "غيبوبة" تعتمد الشاعرة بنية سردية، ولكنها ليست السردية التي تحكي حكاية، فليست هناك حكاية تحكى على وجه الخصوص، وإنما السردية المهشمة، التي تعمل على تداخل الأصوات: (الزائراتُ يُثِرنَ فوضى الذاكرةْ / يكتبْن فوق مُلاءةِ المشفى / وأغلفةِ الدواءْ / يكشفن عُرْيَ وجوههِنْ...)، فالزائرات اللائي يثرن فوضى الذاكرة تتداخل أصواتهن حتى صوت السابعة منهن، وهي التي تتنتهي عندها القصيدة دون تحديد لنهاية التداخل، وهو ما يشي جماليا بحالات الإنسان في صراع الأصوات بداخله، بين تذكر الماضي، والرجفة، والوقت، وشطح النجوم، والسذاجة، والوساوس، وهي الكلمات المفتاحية في بداية كل مقطع، ألا يعني ذلك محاولة لرصد حالات الإنسان الشعورية، والكشف عنها جميعا من خلال ذات الشاعرة؟
أما قصيدة "حُلة حمراء وعنكبوت " التي تسمى بها الديوان ، فإنها تبتدئ بصورة (نَمِراتٌ من غاباتِ الجنْ / تتسلقُ عقلَ الصاخبةِ الشهباءْ...)، وتصور حالات التوتر الإنساني في قمة مسه وجنونه واشتعال مشاعره، ثم في المقطع الثاني تستعير أحد مشاهد أوبرا "كارمن" للموسيقار جورج بيزيه، وفي المشهد الثالث تصور كارمن والجميع يخضع لها، وفي المشهد الرابع مقارنة بين كارمن والآخرين، وفي الخامس تصوير لكارمن الإنسانة التي يستوعبها العالم، لكنها كما تقول الشاعرة: (تنزفُ حُلّتُها الحمراءُ / ... تموءْ)، فماذا يعني ذلك – إن كان على الشعر أن يعني- ماذا تريد القصيدة أن تصل إليه على مستوى التدلال العام هنا، هل هي تحاول تصوير الأنثى في حالاتها بين النزق والثورة والمواء كالقطة؟ أو تحاول القول بأن قصة كارمن التي تكاد تكون أسطورة هي قصة قديمة معاصرة، تتكرر عبر الزمان؟ تتعدد التأويلات، وهو ما يمثل أحد أهم ملامح الشعرية.
إضاءات:
في النهاية نستعرض بعض الإضاءات، ليس على النقد أن يفرض الوصاية على الشعر، ولكن بإمكانه أن ينظر إلى الخطوط التي كان بوسعها أن تكون أكثر إضاءة مما هي عليه، من هنا يمكن الوقوف أمام ملامح عامة في البناء النصي للشعرية المعاصرة، وعلاقته بنصوص هبة عصام، ومنها التفتيت الزمني/ السببي بمحاولة كسر أفق توقع العلاقات، فالشعر ليس مطالبا بتقديم مبررات لما يفعل أو يعطي علاقات سببية للدوال التي يخترعها، وإنما عليه أن يعمد إلى كسر العلاقات السببية، وتهشيم بنية الزمن، ففي قصيدة عابرة ليلية ترد بعض العلاقات التي كان يمكن بقليل من كسر السببية فيما بينها أن تتسع مساحة الشعرية فيها، تقول: (متعبةٌ فوق رصيفِ الليلْ / الشفقةُ كانت أجدرْ / لكنَّ الشيءَ الغامضَ يسكنُها / فيدبُّ الخوفْ)، إن محاولة التبرير بفاء السببية هنا والربط بين الغموض والخوف قلل من مساحة الشعرية، ختاما.. إن كان قدر الشاعر المعاصر أن يقضي حياته لا لمخالفة الآخرين في كتابتهم، وإنما في مخالفة نفسه هو فيما كتبه سعيا وراء التجريب، فإن ديوان "حُلة حمراء وعنكبوت" يمثل خطوة من خطوات التجريب التي تمارسها الشاعرة في صياغة مشروعها الشعري، وهو مشروع يكشف عن وعي بالشعرية العربية في تطوراتها المعاصرة.
مجلة "الهلال" المصرية – عدد أكتوبر2009
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |