أحقيقة أنه (لن يصح إلا الصحيح)
2009-10-21
كم عدد الشعراء العرب الذين أصدروا دواوين شعر في القرن العشرين؟ وكم عدد من لم يقم بذلك منهم؟ كم عدد التجارب الشعرية على اختلاف مستوياتها في ذلك القرن
الذي يقول عنه عبد المعطي حجازي:ما كُتب في القرن العشرين يضاهي من حيث الكم والتنوع كل ما كتب من الشعر في جميع العصور التي سبقته!
إذا كان الزمن بوصفه غربالاً للتجارب, وحاكماً عليها، بل ناقداً - كما يقول طاغور- فهل الزمن مصيب دائماً؟ وهل حكمه النقدي الصارم بالبقاء أو بعدمه حكم على الشعر ليس إلا؟ في كل عصر يبرز أربعة أو خمسة شعراء يمثلون الحركة الشعرية فيه، وهم الأكثر ظهوراً وبقاءً على امتداد التاريخ، هم مغيّرون مجددون في اللغة, ينهضون بالشعر ليحافظوا على سيرورته عبر الزمن، فهل كان هناك مَن هو أكثر جودة شعرية منهم, لكن التاريخ لم يقم بإنصافهم؟
بغض النظر عن هؤلاء, يظلم التاريخ كثيرين, فقد يقدم من هو أقل استحقاقاً أحياناً،وعلى سبيل المثال أذكر: نديم محمد, وعمر أبو ريشة, وبدوي الجبل، ثلاثة شعراء مكرسين من جيل واحد في النصف الثاني من القرن العشرين، ولكن في فترة ما لم يرد ذكر بدوي الجبل لأسباب تتعلق بانتماءاته وأفكاره، في حين كان شعرعمر أبي ريشة يجتاح الأقطار، وفي فترة تلتها ظهر شعر بدوي الجبل وتداوله الجميع ومُجّد في المحافل والدراسات الأدبية،وكنا لا نكاد نسمع هسيساً لشعر نديم محمد في الوسط.
« سافو» ربة الجمال، بقيت خافتة لمئات السنين حتى اكتُشف نزر بسيط من شعرها جعل منها شاعرة عالمية! و« بيليتس» لم تظهر في الشعر العربي حتى العام الماضي حين اكتشف تمام التلاوي مخطوطاً قام أدونيس بترجمته, ليتبين أثناء البحث أنه ما من شاعرة اسمها « بيليتيس» , وأن الاسم اخترعه شاعر كان يكتب به! غُبن ديك الجن الحمصي كثيراً على الرغم من سبقه الشعري في عصره، فهو ليس أقل أهمية من أبي تمام، لكنه لم يخرج من حمص ليمدح الخلفاء ويتكسب, فلم يدعمه المؤرخون والنقاد ويحقق الشهرة! كذلك الأمر بالنسبة لربيعة الرقي، أما السهروردي المقتول فقد حورب وقُتل وصودر الكثير من شعره بسبب أفكاره الصوفية، وجون كيتس الشاعر البريطاني لم يُعترف بشعره, وكان موضع سخرية واحتقار من قبل نقاد عصره حتى مات في سن مبكرة, وكان من رواد التجربة الرومنتيكية الذين احتفى بهم العالم بعد موته. من ناحية أخرى، نجد أن التنظير للمرحلة, وسبر أغوارها ودراسة ما يُكتب من الشعر هامة جداً بالنسبة لتقرير الأهم، ولكن من يقرر الأهم؟ وهل السبر والأنطولوجيا مصيبة وصادقة؟ وهل العداوات والعلاقات الشخصية بعيدة دائماً عن الدراسات النقدية والنشر والتنظير؟ لعل ذائقة الناس تلعب الدور الأكبر في تكريس الصحيح، ولكن ماذا إذا كانت الذائقة مشوهة وغير مصيبة؟ هنا نجد أن الشيء الوحيد الذي يمكننا اعتباره في هذه الذائقة, هو العمق الإنساني، ثمة شعر خالد وسيبقى كذلك لأنه اقترب من هذا العمق، وغاص في المشاعر الإنسانية, وتقلبات النفس وخلجاتها، بل صار عالمياً إنسانياً, لا يحتاج شكسبير إلى من يعينه على تجاوز الزمن, فشعره يمتد إلى مالانهاية، كذلك الأمر بالنسبة للمتنبي ودانتي وطاغور وناظم حكمت وبوشكين وسواهم من الشعراء العالميين. لكن الزمن أعان شكسبير, فقد عاش في بيئة مرفهة في عصر غني بالإبداع والثقافة، وأعان المتنبي كذلك عن طريق سيف الدولة وما منحه إياه من الدعم المادي الذي ساعد كبار شعراء العصر الذهبي أيضاً ولكن ألم يعتزل المعري الضوضاء, وينقطع عن التكسب, ومع ذلك بقي الشاعر الأهم في عصره, والأكثر دهشة عبر العصور؟ إن المحاربة والسخرية قوّت عزيمة جون كيتس للاستمرار في الكتابة، كيتس الذي قال عنه الناقد الانكليزي ماثيو أرنولد: جون كيتس وشكسبير في الصف الأول من الشعراء. يبدو أن هؤلاء الشعراء وُجدوا كي يكونوا كذلك،هم جزء من عصر لا ينفصلون عنه, ويمتدون بامتداد تأثيره، تكوينهم وشخصياتهم تكاملت به ومعه، فهم ليسوا شعراء مرحلة، ولا نستطيع تحديد شخصياتهم وتجزئتها, لنعلم الخلطة السرية التي أهّلتهم دون سواهم من أصحاب الجودة الشعرية، فالأمر لا يتعلق إذاً بالجودة فحسب، بل بالحياة ومدى التأثير، والزمن الذي ساعد هؤلاء, ساعَدوه هم أيضاً ليستمر على الوجه الذي يريدون، الأمر متكامل ولا يمكن تقسيمه! ( لن يصح إلا الصحيح) مقولة يتحمس لها من يحسون بالفناء ويخافون منه، أومن يخشون النقد السلبي، أو حين يصدرون رأيهم بالمهَلهل من الشعر! لن يصح إلا الصحيح، هذا غير صحيح دائماً بالنسبة إلى القدر العملاق الضاحك الذي يصحح وينشل من طريق النسيان ما يريد, ثم يمضي هازئاً دون مقياس واضح نفهمه, والأمر ينسحب على كل التشكيلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية! لن يصح من قبل الجميع إلا الصحيح الذي يريده الزمن،والصحيح لا مقياس له برأيي، فما هو الصحيح؟.
الشاعر لا ينظر إلى الخلود ولا يبحث عنه, ولا يطمح إلى أن يكون الأكثر شهرة وبقاء ومجداً في عصره، هناك هاجس ما يطال أكثر الشعراء ليكونوا من بين أولئك الأربعة أو الخمسة،ولكن لولا باقي شعراء العصر لما تميز أولئك أيضاً،هي حركة شعرية متكاملة،والشاعر لا يطمح إلا إلى الشعر كحياة. لن يصح إلا الصحيح مفهوم هلامي لا تعريف له، فالأمر نسبي وبلا أي معيار، وهو إشكالي برمته، كأي شيء في الكون- باستثناء الموت الذي لا يقدم أي إشكالية- لكننا نستطيع بمخاتلة ما أن نقول: لا يصح إلا ما يريده الزمن...تحية لطاغور.
النشر الورقي:جريدة الثورة
النشر الألكتروني خاص ألف
08-أيار-2021
17-حزيران-2014 | |
27-كانون الثاني-2014 | |
21-تشرين الثاني-2013 | |
07-تشرين الأول-2013 | |
27-آب-2013 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |