إطلالة على مجامع اللغة العربية / حسين حمدان العسّـاف
2009-10-21
اللغة رداء الفكر، بها يعبّرالإنسان عما يحتاج إليه، وبما يجول بعقله وقلبه ، وهي وسيلة تفاهم بين الأفراد والمجتمعات والشعوب والدول، واللغة ضرورة اجتماعية إنسانية حضارية، تقتضيها الحاجة الملحة إليها، وتنفرد اللغة العربية بميزة لاتتوفرفي كثيرمن لغات الأمم الأخرى، هي أنها لغة الوحي والقرآن والوعاء الذي يحفظ ثقافة العرب وإبداعهم وقيمهم من جيل إلى جيل، فهي جسرالتواصل بين الأجداد والأبناء والأحفاد بين ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، وهي أيضاً سجل تأريخهم، تعبّرعـن شخصية العرب،وتعد اليوم أهم رابط يجتمع عليه شتاتهم. ولايمكن عـزل اللغة عن واقع أبنائها لأنها مرآة تعكس حياتهم ومستوى تقدمهم أوتخلفهم ، إذا ارتقت الأمة ارتقت لغتها، وإذاانحدرت، انحدرت لغتها، وقد مرّت اللغة العربية كأمتها بأطوارثلاثة عـبرتأريخها الطويل: طورالنهوض والازدهار وطورالرقود والانحدار وطورالبعث والنهوض، فحين سطعت شمس العرب بزغـت لغتهم، وواكبت مستجدات الحياة وصارت عالمية، وحين غربت، تخلفت لغتهم عـن مواكبة التطور، وتقوقعت ردحاً من الزمن بالمساجد والكتاتيب، وفي الطورين الأولين تعرضت اللغة إلى خطرين، أوضحهما فيما يأتي:
الخطرالذي واجهته اللغة العربية في طورالنهوض والازدهار:
رحلت لغة القرآن في بداية الدعـوة من جزيرتها العربية ، تجوب آفاق العالم شرقاً وغرباً، تنشر الحضارة العربية الإسلامية، وتواكب تطورات ذلك العصر، وتعبّر عن متغيراته أدق تعبير، وفي هذا الطور اختلط العرب بالأعاجم اختلاطاً أدى إلى ظهوراللحن، وهوالخطرالأول، الذي أخذ يتسرب إلى اللسان العربي، فكيف واجه العرب اللحن؟ وكيف عالجوه؟ تصدى العرب لخطراللحن بطريقتين اثنتين:
1ـ إيقاظ السلطة الوعي اللغوي بالثواب والعقاب:
كافحت السلطة العربية الإسلامية خطراللحن عـلى لغتها في بداية ظهوره منذ عهد الرسول وربما كان اللحن موجوداً عـلى قلة قبل ذلك ، وأيقظت في وعي العرب المسلمين ضرورة إتقانهم لغتهم وأرشدتهم إلى التمسك بها، وعملت على التصدي لظاهرة اللحن بالإرشاد، ورأت السلطة ممثلة بشخص الرسول الكريم أن من يلحن ضال وجب تعليمه لغته لتقويم لسانه وإنقاذه من ضلاله، وتتحدث الروايات أحاديث متعددة عن اللحن من ذلك ماقيل: إنّ رجلاً لحن بحضرة الرسول، فقال:( أرشدوا أخاكم، فإنّه قد ضل) (1) وكان الخليفة الراشد يحرص على سلامة لغته، وينفرمن اللحن، أويغضب منه حتى إنه يؤثرإيذاء نفسه على أن يلحن لسانه، فكان أبو بكر الصديق يقول:(لأن أقرأ فأسقط أحب إليّ من أن أقرأ فألحن). وكان الخليفة الأموي عبد الملك يستقبح اللحن، ويخاف منه.(2) وكان ابنه مسلمة يرى أنّ (اللحن في الكلام أقبح من الجدري في الوجه)(3) وتروي المصادرعـدداً من حوادث اللحن في عهدعمر فتذكر أنّ(4) عمر مرعلى قوم يسيئون الرمي، فقرعهم، فقالوا:(إنا قوم متعلمين)، فأعرض مغضباً، وقال:(والله لخطؤكم في لسانكم أشد عليّ من خطئكم في رميكم)، ولم يقتصراللحن عـلى أحاديث الناس فحسب، وإنما تسرب إلى قراءتهم القرآن أيضاً، فقد قدم أعرابي في خلافة عمر، فقال:(من يقرئني شيئاً مما أنزل على محمد؟) فأ قرأه رجل سورة(براء) بهذا اللحن:(وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبرأنّ الله بريء من المشركين ورسولِه ...) بجراللام(سورة التوبة9/3) فقال الأعرابي:(إنْ يكن الله برىء من رسوله، فأنا أبرأمنه) فبلغ عمر مقالة الأعرابي، فدعاه، فقال:(يا أميرالمؤمنين إني قدمت المدينة... وقص القصة، فقال عمر:(ليس هكذا يا أعرابي) فقال:(كيف هي يا أميرالمؤمنين؟) فقال:(إنّ الله بريء من المشركين ورسولـُه...) بضم اللام. فقال الأعرابي:(وأنا أبرأ ممن برىء الله ورسوله منهم)، فأمرعمرألاّ يقرىء القرآن إلا عالم باللغة)(5). ولم تقتصرالسلطة في مكافحتها اللحن على توجيه الناس إلى تعلم لغتهم فحسب، وإنما كانت تعاقب في الوقت نفسه المتهاونين فيها، وتعلي منزلة الفصحاء ومن يحرص عـلى سلامة لغته. يروى أنّ كتاباً ورد إلى الخليفة عمربن الخطاب من أبي الحصين بن أبي الحرالعنبري أوله:(من أبوموسى الأشعري)، فكتب عمرلأبي موسى بضرب الكاتب سوطاً، وكان أبو موسى قد استكتبه بعد زياد.)(6). وعظم فشو اللحن في العصرالأموي، ولم تنج منه ألسنة الخلفاء والقادة الفصحاء رغم حرصهم على سلامة لسانهم وحذرهم من الوقوع فيه، وكان المجتمع يحرص على سلامة لغته، وينظرإلى من يلحن بعين الازدراء، وكان الناس في هذا العصريتعايرون باللحن، ويروى أنّ الحجاج لم تكن نفسه تطاوعه أن يرى من يلحن، فكان يأمربإبعاده ، وكان الرجل إذا أراد أن يفلت منه عاذ باللحن، فنجا(7).
2ـ جمع اللغة وتدوين المعجمات:
وحين انتهى عصرالفتوحات الكبرى في القرن الهجري الأول، وجاءعصرالاستقرارالحضاري في القرن الهجري الثاني كانت اللغة العربية في ذروة ازدهارها، هضمت حضارات الأمم القديمة، واستوعبت المعاني والألفاظ الوافدة والجديدة، وسايرت حركة التطور ، وأدى اتساع الاختلاط الحضاري بين العرب والأمم الأخرى التي دخلت الإسلام في هذا العصر إلى اتساع فشو اللحن في نخبة المجتمع العباسي المتمثـلة في الخلفاء والحكام والأمراء والكتاب، وأخذ العرب يدوّنون تراثهم المروي مشافهة بعد أن قتل في الفتوحات كثيرمن رواة التراث ، وحاولوا إنقاذ ماتبقى منه في الصدوروتدوينه في السطور، ونشطت في القرن الهجري الثاني حركة التأليف عند العرب، وبدأ تدوين اللغة والمعجمات متزامناً مع تدوين الحديث والأدب، ودوّن الرواة ألفاظ اللغة وأشعارها من أفواه العرب الفصحاء ينتظرون قدومهم من بواديهم إلى الأمصار، أو يرحلون إلى بواديهم النائية، وكانت مصادرالرواة في جمع اللغة القرآن والحديث والأدب القديم شعره ونثره وأخباره وأمثاله فضلاً عن الأعراب الفصحاء الذين يحتج بلغتهم، كما نشطت الترجمةأيام المأمون، وفتحت للعرب نافذة إلى حضارات اليونان والرومان والهند والفرس، وصارالخليفة يكافىءالمترجم ذهباً بوزن كتابه المترجم ترجمةعربية سليمة راقية، ولاقت حركة التأليف في العصرالعباسي الأول تشجيعأ من الخلفاء والأمراءوالحكام، حيث أجزلت السلطة العطاء على المؤلفبن والمترجمين، وكان الغرض من تدوين المعجمات وكتب اللغة هو مجابهة خطراللحن الذي أحدق باللغة حفاظاً على سلامتها وحيويتها، وهي ماتزال في ذروة تألقها الحضاري.
الخطرالذي واجهته اللغة العربية في طورالرقود والانحدار:
غرق العرب يوم غربت شمسهم في ظلمات التخلف والتجزئة قروناً طوالاًغطت خلالها لغتهم في سبات عميق، وتخلفت عن مواكبة المتغيرات التي ألمت بالعالم، وكان عجز اللغة عن التعبيرعن هذه المتغيرات، وما أفرزته من سيل لغوي أجنبي من الألفاظ والمصطلحات ليس له مقابل في اللغة العربية هوالخطرالثاني الذي تعرضت له اللغة العربية، ولكنه أشدخطراً على حياة اللغة العربية ومستقبلها من خطراللحن الذي واجهته في طورازدهارها، وثارالسؤال الذي شغل أذهان الغيارى على لغتهم: كيف نعبر عن المعاني والألفاظ والمسميات والمصطلحات الأجنبية الجديدة بألفاظ ومسميات ومصطلحات عربية تلائم خصائص لغتنا، ولاتتمرد على قوانينها ونظامها؟ وكانت الحاجةإلى ذلك هي التي دفعت علماءاللغة والكتاب والمفكرين إلى تأليف مجمع للغة العربية.
محاولات تمهيدية في مرحلة البعث والنهوض:
· شهدت مصر في مرحلة اليقظة والنهوضبضع محاولات لإنشاء مجمع للغة العربية، لم يكتب لها النجاح قبل أن يظهرأول مجمع للغة العربية في دمشق: فقد طرح الأستاذ عبد الله النديم في صحيفته(التنكيت والتبكيت) التي كان يصدرها في الإسكندرية سنة 1289هـ/1881م فكرة إنشاءمجمع لغة عربية، واختمرت الفكرة في الأذهان، ثم سعت طائفة من علماء اللغة حوالي سنة 1306هـ / 1888م، في تأليف مجمع لغوي برئاسة العلامة عبد الله فكري باشا،(8).
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |