الشاعر السوري صالح دياب / " الصداقة شكل من اشكال الذهاب إلى السعادة "
2009-10-26
بيروت - محمد الحجيري
في رصيد الشاعر السوري صالح دياب المقيم في فرنسا ثلاث مجموعات شعرية هي: {قمر يابس يعتني بحياتي} (دار الجديد)، {صيف يوناني} (دار ميريت)، {ترسلين سكينا أرسل خنجرا} (دار شرقيات)، إضافة إلى كتاب بعنوان {نوارس سوداء} (أنطولوجيا الشعر السوري، منشورات البيت، الجزائر 2007)، والكتاب النقدي {وعاء الآلام} وفيه مقاربة لحضور الجسد في شعر المرأة العربية (لوكلاباس، مونبلييه 2007)، وترجمة لـ {كما لو كان حديقة} لجامس ساكري (دار التوباد، تونس 2007).
حول أعماله والمنفى الفرنسي وتجربته الأولى في سورية كان الحوار التالي.
لماذا القسوة والقسوة الزائدة في عنوان ديوانك {ترسلين سكينا أرسل خنجرا}، أليس ثمة منطقة وسطى؟
عنوان الكتاب مستل من قصيدة {شاحذو سكاكين}. أحسب أن العلاقة العاطفية ليست مبنية على الرقة والحنان فحسب، بل على الصراع بين الشريكين أيضاً. ثمة ما يشبه الحرب: من تحقيق تقدم، وانسحاب من مواقع. ثمة المعركة الجنسية مع المرآة وتحولات الثأر. الرومنسية نفسها تخفي هذه المشاعر. الركض وراء الآخر من دون الوصول إلى أي من محطاته، الخوف منه، واتقاء شره المعنوي. أمور موجودة في العلاقة بين الشريكين. السلام بين الشريكين أيضاً نوع من الهدوء على جبهة الحرب. صورة الآخر في الواقع وصورته في الخيال بعيدتان، مكره ورقته. ثمة أيضاً عبث الحياة نفسها وعدم قابليتها للفهم أو التفسير. كلمة الحب التي تتكرر ليست سوى خدعة. الحب فقير كالصلاة كما يقول شاعر، ولا يملك شيئاً، ومطرحه ليس إلا في الشعر ربما، في الكلمات. لا أعرف حباً له سلطة أو قوة ما، يصنع المعجزات. ثمة حرب سرية يومية بين العاشقين بكل ما للكلمة من معنى. يسير الحب برفقة القسوة دائماً. ثمة قسوة تتأتى من المؤنث، غنجه ومكره. كل حب مبني على القسوة والكراهية والغيرة والسلطة بمختلف ألوانها.
تبرير حضور هذه المرأة وليس تلك أمام الذات فيه شيء من القسوة. كأنما شرط وجود الحب معاركه اليومية وامتزاجه بالقسوة. وهي هنا ليست بالطبع فيزيائية بل معنوية وأشد تأثيراً وفاعلية من القسوة الفيزيائية. في عالمنا العربي كل علاقة مع المرأة أشبه بصفقة تجارية حقيقية يتدخل فيها المال والحسب والنسب والموقع الوظيفي. المرأة مسحوقة هذا صحيح، لكن للرجل أيضاً قسطه الوفير من الانسحاق.
وفي أوروبا؟
هنا في أوروبا، تغيب فكرة أنك تسيطر على المرأة وتستخدمها، فبكل بساطة قد تقوم هي بالأمر. الرجل ليس هو من يفعل الحب دائماً إذ قد تقوم هي بكل شيء من الألف إلى الياء وتستخدمك جسدياً. من هنا جاء العنوان ليقول ذلك كله عن الحب من عدم ووجود وسطية. {تلعني أبوي... ألعن أبوكي على أبو أبوكي}. تعلمنا الحياة أن الوردة تأتي بعد اللمسة والقبلة وفعل الحب وليس العكس. في الحب ليس ثمة رقة أو قسوة بل الحب فحسب.
لماذا أهديت هذه القصيدة الى يوسف عبد لكي، هل تأثرت بلوحاته القائمة على القسوة أيضاً، أو هل استوحيت القصيدة من لوحاته؟ وهل للفن التشكيلي أثر في شعرك الذي هو في المجمل ايجاز لحياتك الخاصة؟
تعرفت إلى يوسف عبد لكي بعد ثلاثة أيام من وصولي إلى باريس. نبتت الصداقة سريعاً بيننا. كنت أتحدث معه من دون أقنعة. رافق شطر حياتي الفرنسي كله. غياب صداقته في فرنسا شيء ضار لي روحياً. أعطتني صداقته الكثير على الصعيد الروحي والمعرفي. كان السياسي والحياتي في لوحته لا يظهران في شكل مباشر، بل ينبثقان من منطقة فنية بعيدة. وكنت أحب ذلك فيه. كنت أرى هذه اللوحة في شكل منتظم وأنام قربها. ولأن الأمر استمر أشهراً كثيرة، تشربت عيناي من لوحته.
كانت صداقته أحد أشكال الذهاب إلى السعادة. شكل من الرعاية الروحية، تبادل النصائح، تقاسم الهوايات، الإنصات المتبادل، والكرم والإخلاص. ساهمت حواراتي معه حول الفن والشعر في الانزياح الشعري الذي حصل معي في هذا الكتاب. أهديت له القصيدة ثم الكتاب أيضاً. إنه صديقي.
عندما نشرت القصيدة، كنت أحدثه عن قضايا كثيرة بما فيها العاطفية. إذ كنت أقرأ له القصائد الواحدة بعد الأخرى وأحكي له بواعثها. كتبت هذه القصيدة بعد صراع مع صديقتي. إذ كانت عواصف الشتائم والتجريح تنتهي بممارسة الحب. كما لو أن القسوة هي البرهان على الحب الذي بيننا. ما من حب يبنى على الرقة فحسب. الرقة رفيقة الهشاشة وتقزيم الذات، وتخفي القسوة والأخيرة تخفي الرقة. هكذا هو شأن العاشق وفضاؤه الشخصي أن يكون رقيقاً وجارحاً في آن. الكتابة والفن نوع من الانهدام الداخلي إلى الأعماق.
ليس الشعر بصرياً، لكنني سعيت قدر ما أستطيع أن أكون بصرياً في هذا الكتاب عبر إيجاز حياتي في نصوص. الشعر والفن تعبيران مختلفان، لكنهما قريبان الواحد من الآخر. متجاوران ومنفتحان الواحد على الآخر، شأن خدين في وجه واحد. في كتابي الأخير، استفدت كثيراً من بناء اللوحة ورؤيتها من بعيد وتقليبها وعرضها من منظورات مختلفة. لم يتأت ذلك مقصوداً بل كان حاضراً في شكل طبيعي. كون كل قصيدة ليست كثافة حياتية يومية فحسب، بل أيضاً كثافة التجربة الشخصية كلها بما فيها الذاكرة البصرية التي تؤثث تضاعيفها.
ماذا أضاف المنفى الفرنسي إلى لغتك الشعرية؟
ربما مررت بمراحل مختلفة خلال وجودي في فرنسا على الصعيد الشعري. استمرت المرحلة الأولى أربع سنوات تقريباً، كنت أحاول خلالها أن أقرأ الشعر الأجنبي ولا أفهم تماماً ما أقرأه لعدم اتقاني تلك الغة. حافظت آنذاك على قناعاتي الفنية السابقة. خلال المرحلة التالية تطور فهمي للغة الفرنسية. بدأت أشعر أن آرائي الشعرية بدأت بالتغيير رويداً رويداً. وجدتني أعيد طرح أسئلة كثيرة حول قناعاتي الشعرية ووجهة نظري تجاه الشعر العربي، بسبب قراءاتي الجديدة. فرحت أنزع القداسة التي تربيت عليها والمسبوغة على أصوات كثيرة وأفككها، ولاحظت أنها مبنية عبر بضعة مقالات وملفات ودراسات منشورة هنا وهناك، لأسباب شخصية أو طائفية مقنعة بالحداثة.
لاحظت أن بعض من كنت أسميهم رواداً ليسوا مقروئين بين أبناء جيلي. وتساءلت كيف نرفع يافطة الريادة عالياً، لأسماء لا نقرأها، ونصوص لم تثبت زمنياً. في هذه المرحلة، بدأت أنفر من كل شعرية تقوم على العقلانية اللغوية والتجريد، مهما قيل إنها ترود مناطق نفسية عميقة وتقتحم الأغوار الروحية البعيدة. فيما لا نرى إلا الصحراء اللغوية فيها، فكل من يقرأها يسقط ثقافته النفسية والاجتماعية على النصوص.
لم أعد أتحمس للشعر الفرنسي التجريبي وهو الأغلب. بل الشعر الإيطالي والأميركي والإسباني. الذائقة الشعرية مرتبطة بالبعد المعرفي، وتصنعها قراءاتنا. لغات بعض الشعراء غير أصيلة، ودرجة تقمص الشاعر الأجنبي تقترب من التطابق. أعرف أن كل ما نقرأه يشكل نصوصنا، لكن الآمر يختلف عندما لا يعود مجرد تقمص للتكنيك وطرائق الكتابة فحسب بل للفضاءات والمناخات، وعندما تغيب حياة الكاتب الشخصية.
من هنا بدأت أقترب من الشعراء العرب والأجانب الذين سمحوا لحياتهم بالدخول في قصيدتهم، ولم يتقنعوا بالتجريب اللغوي والحداثة. غيرت وجودي في فرنسا عبر قراءاتي قناعاتي الفنية. لم يعد الشعر بالنسبة إلي تلك المواضيع الذهبية التي نصوغها من الذهب ثم نعرضها في الواجهة، بل هو رفيقنا في الشارع والعمل والمقهى والبيت. أريد أن أكتب حياتي بعيداً عن التجريد والفذلكة اللغوية. خلصتني فرنسا من ثقافة النفاق الشعري التي كنت أمارسها ضد نفسي أولاً بأن أحب شاعراً معيناً وأنظر إلى شاعر آخر على أنه شاعر كبير. أشعر الآن بأنني عبر ما أكتبه قريب من نفسي ومن عالمي الروحي. خلصتني قراءاتي من مختبر التجريد الجاف الذي يتقنع ببرقع الحداثة
والتجديد.
ماذا بقي من تجربتك الأولى في سوريا؟
لم أنشر قصائدي الأولى العمودية. قصائد التفعيلة التي تبعتها وكتبتها تحت تأثيرات السياب وأدونيس لم أنشرها أيضاً. القصائد اللاحقة التي كنت قريباً فيها من الشعر المترجم وشعراء السبعينات في سورية، وجدت طريقها إلى الصحف والمجلات فحسب. بعدها نشرت في {قمر يابس يعتني بحياتي} قصائدي الأولى التي أتوسل فيها كتابة قصيدة تمتح من الشعر الأجنبي المترجم وتتصل جمالياً ببعض الشعراء العرب من جيل السبعينات والثمانينات كعباس بيضون وأمجد ناصر وبسام حجار مع التركيز على التجربة الروحية الشخصية. وكتبتها تحت سطوة نقاشات كانت تدور بين شعراء ملتقى جامعة حلب الأدبي. وكان عرابها الشاعر والناقد حسين بن حمزة.
أعتقد أن التجربة الشعرية متصلة بمختلف مراحلها. لا توجد قطيعة مطلقة لا شعرية ولا غيرها. القيم الجمالية الشعرية التي تربيت عليها ليست زمنية إطلاقاً. ثمة دقة في الكتابة، في التعامل مع جسد اللغة، الإنصات إلى ما هو روحي، القبض على السري في اليومي، والذهاب إلى تشكيل فضاء في كل قصيدة. لم تعد لدي قناعة أو حماسة لفكرة أن الشاعر هو صائغ ماهر يوزن قصيدته بالذهب. بل هو من يختصر شرطه الإنساني والوجودي ويتوسل لغة خاصة به. تجربتي في سورية ذابت بعيداً في تحتانيات قصيدتي.
كيف تقرأ شعرك باللغة الفرنسية، وهل تعتقد أن بعض الشعراء العرب يكتب كأنما يستهدف الأجنبي؟
لا أقرأ شعري باللغة الفرنسية، وأحسب ألا أحداً يقرأ شعره بلغة لم ينشأ عليها. ليست الفرنسية بالنسبة إلي لغة كتابة ولا يمكن أن تكون، لأنها ليست لغة طفولتي. ترجمت قصائدي كلها مع صديقتي. أعتقد أن أفضل الترجمات تلك التي يقوم بها شاعر يعرف لغة النص الأصلية ولو قليلاً بمشاركة مترجم ينتمي إلى ثقافة اللغة التي تُنقل إليها.
درسنا في الجامعة أخطاء فادحة لترجمات عدد من الشعراء العرب سببها عدم فهم اللغة الشعرية. لا تكفي فحسب معرفة لغة للنقل إليها، خصوصاً في مجال الشعر. أقرأ الترجمات الفرنسية وهذا يحتم علي السعي إلى طباعة شعري هنا، كما باللغة العربية.
لا أحسب أن أحداً يكتب شعراً للأجنبي، لكن يمكن لشاعر ما أن يستعير لغة شاعر أجنبي يحبه ويتقمص أساليبه وفضاءاته. لذا تبدو القصيدة من جهة جديدة عربياً، بينما هي نسخة عن هذا الشاعر الأجنبي أو ذاك. البعض بارع تماماً في نسخ لوحات رسامين عالميين، لكنها ليست لوحته. أثناء القراءة الكثيفة ستدخل في لغة من تقرأهم حتماً، وربما عملية دفن التأثيرات وبواعث الكتابة وتمويهها أمر يتم لحظة الخلق الشعري وفي شكل دائم وعلينا أن نقوم بها. ما يزيد الطين بلة أن ثمة تقمصاً لشعراء أجانب مكشوفاً لأننا حين نقرأ الأصل نصدم بهزالة النسخ، وتغيبب الحياة والتجربة الشخصية ما يجعل كشف هكذا نصوص سهلاً، خصوصاً أنها تعتمد على إعطاء الصورة الشعرية أهمية كبرى. الملاحظ عربياً أن كل النصوص المكتوبة تحت تأثيرات نصوص أخرى لشعراء غربيين، ولم يضع أصحابها شيئاً من تجربتهم الشخصية نُسيت، ولم تعد مقروءة الآن.
جريدة الجريدة
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |