فصل من رواية بوح
2009-10-30
ننشر هنا فصلا من رواية الكاتبة ليلى حوراني من روايتها الأولى "بوح" للتعريف بهذه الرواية، التي حاولت ببساطة لغتها، وصدق مضمونها أن تحكي حكاية عائلة فلسطينة، دون مزاودات، ودون صراخ، ودون تعليق.
شمعة بيد طفلة
شمعة بيد طفلة قابعة في ممر معتم تنتظر والدها. إلى ذلك الممر جرفها قصف عنيف، هز منزلها وقذفها خارجه. المبني ملئ بضجيج الخوف، السكان يتراكضون باحثين عن زاوية أمنة. وحدها تقبع في ممرها رافضة اللحاق بهم، اللجوء إليهم. تخاف أن يعود والدها ولا يجدها، تؤثر الإنتظار على العيش.
من شعلة الشمعة الثابتة أمام عينيي يطالعني باب منزل الطفلة المهجور، مشقوق بحذر، ومن شقه المعتم ينبثق شعاع آلاف الحكايا، حكايا لا أجرؤ على رويها. حكايا سنواتي الثلاث في بيروت الثمانينات وسنوات كثيرة غيرها. حكايا اللجوء الأول والثاني والثالث، وحكايا طفولة لم أعشها يوماً.
نور تلك الحكايا يضئ المبنى المذعور بأكمله، يضفي طمأنينة على لحظتي الكئيبة، يجعل للإنتظار معنى. تهتز شعلة الشمعة أمامي ومنها تطالعني صورة أبي منكباً على مكتبه منهمكاً في كتابة محمومة لا شئ يخرجه منها سوى إطلالتي عليه، وحدي أغريه برفع رأسه عن مكتبه وفتح ذراعيه لأدخل في عالم صدره الدافئ، وأدفن رأسي فيه، متمنية زوال الوقت وخلود اللحظة. تدوم اللحظة لكنها لا تبقى إلى الأبد بل تنتهي بضمة قوية، قوية جداً، يعود بعدها أبي إلى كتابته وأخلد أنا إلى سريري المؤقت: فرشة معدنية تطوى وتفرد حسب الحاجة. أخلد إلى سريري هذا وفيه إلى هواجسي الليلية التي لازمتني منذ أن فارقت حضن أمي. لم أُطلع أبي على هذه الهواجس يوماً، لم أفش له سرّها، لم أشعره بأنني لم أكن الطفلة السعيدة التي ظنّها، لا طفلة الأشعار الجميلة التي تباهى بها أمام أصدقائه، ولا الطفلة المطيعة التي هتّ أخواتها المتمردات بها. مارست حذاقتي الأنثوية منذ ذلك السن المبكر، وضحكت على الرجل المتعطش للاستقرار، وكان في سعادة ابنته الصغرى منبعاً مهماً لاستقراره. كان كل همي أن أرضيه وأبقيه سعيداً، ومقابل ذلك كنت مستعدة لدفع مال الدنيا، التخلي عن كل متع الطفولة واغراءات الشغب، التنازل عن كل مغريات سنواتي الثمانية، مقابل نظرة استحسان من أبي ولحظة إلتجاء إلى صدره الدافئ.
وفي تلك السن المبكرة، مهرت في مشاطرته كل همومه، فإن كانت فلسطين همه، فهي همي أيضاً ولا مانع لدي من نسج الأشعار عن فلسطين المفقودة وأطفالها المعذبين. وإن كانت زوجته التي حلّت مكان أمي هي حبه الأكبر، فلا يضرني أن أقترب منها وأكسب حبها وأحتل قلبها، حتى وإن كان ذلك على حساب أختيّ. وإن كانت الحكمة والرزانة أكثر ما يحبب أبي بي، فإنني لا أتردد في الامتناع عن اللعب، والانعزال عن مجايلي، والمبالغة في التأمل، حتى صار الجميع ينعتني: بالمتأملة ذات العينين العسليتين.
لا شئ يقف أمام سعي الأنثى نحو أبيها! لكن ماذا يجري عندما تهز التوازن الذي نسجته بغريزتها المتأصلة حربٌ لا تقوى عليها أنثى؟ ماذا يجري عندما يهز سريري المؤقت، ومعه مكتب أبي، إنفجارٌ عنيف يوقظ أهل المنزل جميعاً ويخرجني أنا وأبي من تواطئنا السري؟ ماذا أفعل أمام هذه القوة القاهرة التي لا تنفع معها كل الحيل السابقة، ولا حتى خروجي من المنزل وإنتظاري في ممره أملاً في أن يعود أبي ويعيدني إلى عالمي الذي صغته بحذق وحذر شديدين.
أحمل الشمعة وأنتظر. ومع كل اهتزاز لشعلتها، تهتز ثقتي بإمكانية الحفاظ على الركائز التي بنيتها. الإحساس نفسه كان ينتابني لدى اهتزاز سريري المعدني تحت تأثير حركتي الليلية القلقة. كان ثمة شئ في اهتزازه ينبهني إلى أن الأرض التي أقف عليها، والتي ضحّيت بكل طفولتي من أجلها، ليست بالثبات الذي بدت عليه أو اشتهيته.
اهتزاز آخر للشعلة، وقطرة أخرى من القلق تتزايد مع تواتر خطوات أبي على الدرج. ها هو ذا قادم نحوي، آت لإعادتي إلى المنزل الذي لم أشأ تركه أبداً، والذي لم أكن لأتركه لولا قوة الإنفجار الذي قذفني خارجه. ها هو الفرج آت، أبي القادم لا شك سيسعد لرؤيتي بانتظاره، وسيكافئني بحملي كالفراشة التي يكاد يحرقها تحليقها أمام الضوء، ويعيدني إلى سريري الذي لن أتذمر مرة أخرى من اهتزازه المقلق. سيفعل ذلك، أنا واثقة بأنه سيفعل.
§ ايش بتعملي هون؟ ليش قاعدة لحالك؟ ليش ما هربت عند الجيران؟ مش قلتلك تنزلي على الملجأ لما ببلش القصف؟ انت عارفة الخطر اللي انتي فيه؟!
بهذه الكلمات، إنتشلني أبي من زاوية انتظاري، لملمني وحملني مسرعاً بعيداً عن بيتنا وسريري ومكتبه. أبعدني عنه ولم يعدني إليه يوماً. كان يعتقد أنه يحميني ويحافظ على حياتي، لم يكن يعلم أنني كنت أؤثر انتظاره على الحياة!
تغيرت حياتي منذ تلك اللحظة، خرجت عن زمام سيطرتي الأنثوية الطفولية، أو هكذا بدا لي. حماني أبي من حُمّى إنتظاري بإيداعي في منزل لم يكن منزلي، مع أم وأب لم يكونا أمي وأبي وعلى سرير لم يكن سريري ولا حتى مؤقت سريري. سلمني لصديقه وزوجته كما تُسلم الوديعة وأوصاهما بالعناية بي. ولم تنجح كل العناية التي أحاطني بها الزوجان في إخراجي من الغربة التي شعرت بها. بالغ مضيفاي اللطيفان بالعناية، لكن ذلك لم يدخل الطمأنينة إلى قلبي الذي حنّ إلى شمعته وممره المعتم ولوعة إنتظاره على درج المبنى البارد. ولازمني خوف بأن أكون مصدر إزعاج للزوجين، فبالغت في حساسيتي، وأجبرت نفسي على النوم في أوقات لم أشعر فيها بالنعاس، وتوقفت عن الطعام قبل أن أشبع. أخفيت خوفي من القنابل المضيئة التي كان شعاعها يبث الرعب في غرفتي. ووصل الأمر بي إلى أن خرجت يوماً أجوب شوارع بيروت فيما الطائرات الإسرائيلية تنقض عليها، بحثاً عن مشفى أتطوع للعمل فيه أسوة بأختي اللواتي تطوعتا للعمل في ملجأ الدفاع المدني. ألست أنا أيضاً إبنة أبي، الا أستحق أيضاً وسام الرجولة؟
ومع كل غارة طيران جديدة، إهتزت الأرض التي كنت أقف عليها. لم تهزها الغارات وحدها، بل غياب أبي عني. أبي الصحافيّ المنهمك في العمل العام، فقدت متعة إخراجه من انكبابه على مكتبه والفوز بقبلة من شفتيه وضمة من صدره الرحب. أُسقط في يدي: كنت قد كبرت على استعادة الطفولة التي تخليت عنها من أجل أبي، وصغرت على الإنتماء إلى عالم أختي الكبيرتين، عالم المناضلين الراكضين في شوارع بيروت بحثاً عن الجرحى. لم أنتم إلى أي منهما، ولم أقو على خلق عالم خاص بي في هذه المدينة اللاهثة الملتهبة. إنهار كل شئ أمام عيني. حتى غروب الشمس الذي طالما أشعرني تكرار أرجوانه اليومي بالأمان، إنضاف إلى مصادر القلق الكثيرة. ألم تكتس سماء بيروت بالأرجوان ذاته بعد ليلة قصف شرسة وطويلة؟ ألم ينتبني ذعر لم أعرفه من قبل عندما رأيت معجزة تحول أرجواني من الغروب إلى منتصف الليل؟!
حتى الزمن إهتز في تلك الأيام.
جاء قرار أبي بإخراجي من بيروت لينتزعني من دوامة عالمي المنهار هذه. وبالرغم من حاجتي الماسة إلى هذا الإنتزاع، فإن قراره أفقدني أملي الأخير في العودة إلى منزلي المفقود. وأكثر ما أثر في نفسي صورة باب البيت الذي بقي مشقوقاً ولم يتسن لي إقفاله يوماً. هل بقى مشقوقاً ليروي ما اختبأ فيه من حكايا؟
"لا بد أن يبقى أحد من العائلة على قيد الحياة" كانت الجملة التي أعلن بها الوالد قراره بتسفيري إلى دمشق. وقد وقع الخيار علي، صغيرته التي سيتم تهريبها من المدينة المشؤومة ووضعها في سلة على النهر ليلتقطها أناس آخرون على ضفة النهر الأخرى ولتستمر السلالة من خلالها.
لماذا وقع الخيار علي أنا بالذات؟
محملاً بخبرته السابقة في إعداد مشاهد اللجوء، ينهمك أبي بتحضيراته. لكنه هذه المرة لا ينجح من المحاولة الأولى. فبعد أن أعد كل تفاصيل المشهد: السيارة التي ستقلني إلى دمشق، والهوية التي سأستخدمها للمرور عبر الحواجز الإسرائيلية التي اجتاحت لبنان، والمكان الذي سأقضي فيه ليلتي الأخيرة في بيروت، تتعطل الرحلة لسبب لم يكن في الحسبان. فعندما أرسلت لوداع أختيّ، في تفصيلة بدت خارجة عن مشهد الهجرة المعهود الذي لا يترك مجالاً للأم لإلتقاط رضيعها، قامت أختاي بإخفائي في الملجأ الذي حول إلى مركز للدفاع المدني، وذلك في محاولة منهما لمنع الأب من ترحيلي إلى دمشق. وقد نجحت المحاولة ففات موعد السيارة التي كان من المفترض أن تقلني قبل أن يتمكن الأب من استرجاعي.
حاول مرة ثانية وثالثة، وعندما فشل في إقناع الأختين بضرورة تهجيري، قام مرغماً بإجتثاث ما هو دخيل على مشهد الهجرة هذا: منعني من توديع أختيّ وأخفى عنهما محاولته الجديدة لترحيلي! وبهذا تمت له عملية التهجير بسهولة وسرى كل شئ كما خطط له. وأبي الذي أقلقته ثقته بصواب قراره، فرّغ قلقه هذا بطريقة لا يتقن غيرها: تذكر، بعد دقائق قليلة من سفري، أن راديو فلسطين سيذيع في يوم رحلتي مقابلة كان قد أجراها معي، بل أنه سيذيعها بعد ساعات قليلة من مغادرتي، وأنا في طريقي إلى دمشق، بل قد تذاع في اللحظة ذاتها التي سيتفقد فيها الحاجز الإسرائيلي هويتي. وبالرغم من أن الأب كان يعرف أن الهوية التي غادرت بها بيروت مزورة، ولا تحمل إسمي الحقيقي، إلا أن ذلك لم يمنعه من حبك خيوط حكاية أبقته قلقاً عليّ لساعات طويلة، إلى أن جاءه إتصال من دمشق يؤكد له أن الأمانة قد وصلت.
الرواية تباع في مكتبة النوري دمشق
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |