Alef Logo
كشاف الوراقين
              

"السيدة من تل أبيب" أسئلة الأنا والآخر / فاروق وادي

2009-10-30


عندما يتجاوز صمت المبدع معناه الحَرفي ، ويكون منطوياً على هموم هواجس وتفاعلات ذهنيّة وأسئلة ، يأتي العمل الإبداعي المتولًّد بعد طول غياب ، لافتاً ، ومثيراً للاهتمام.

هكذا جاءت رواية ربعي المدهون "السيًّدة من تل أبيب" (المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر) ، بطاقتها السرديّة المتدفًّقة ، ورؤاها المتجدًّدة ، وخطابها الإبداعي المفتوح على أسئلة صراع جوهريّ يبقى بحاجة إلى تجديد شكل الخطاب.

اللافت في رواية المدهون ، تلك الجاذبيّة السّرديّة الكامنة في بساطة النّص وجماليّته اللغويّة التي لا ترهق نفسها في عمليّة البحث المضني عن الجمال. إنها لغة تتميَّز بالتحرُّك السلس ، والانتقال بخفّة بين مستويات متعددة في القصّ ، فيما يتوزّع الحوار بين اللغة العربيّة ، والمحكيّة الفلسطينيّة ، وشيء من الإنجليزيّة والعبريّة ، ورذاذ من لغات أخرى إن اقتضت الضرورة الفنيّة ، دون أن يشعر القارئ بلغة تعتدي على أخرى ، أو بأي نفور بينها.

لم يكن مرض الحنين إلى الوطن ، وحده ، هو الذي أغوى وليد دهمان لمغامرة الذهاب إلى غزّة ، أو رؤية أمًّه العجوز ، بعد غياب عنها وعن مدينته امتد ثمانية وثلاثين عاماً ، بل أيضاً الرغبة في معايشة التفاصيل الواقعيّة والتحولات التي شهدها القطاع على امتداد ذلك الزمن ، والتعرف بشكل أفضل على الجغرافيا المكانيّة والاجتماعيّة والبشريّة لروايته التي يعكف على كتابتها ، وتلمس مناخاتها عن كثب ، ورصد التفاصيل لإغناء عمله قيد الكتابة.

قبل الدخول في الوطن ، يذهب السّرد إلى إخراج الوطن من الذاكرة ، فينبسط الماضي مرتداً إلى أزمنة ما قبل الاحتلال عام 1967 ، والتي استبقت لحظة سّفر مضت عليه أربعة عقود. وهو دخول سردي منطقي ينطوي على حميميّة مع المكان والزمان الهاجع في الذاكرة ، وعلاقات قديمة مع الناس الذين كانوا هنا.. هناك.

المصادفة وحدها توقع وليد دهمان بجيرةْ على مقعد الطائرة المتجهة من لندن إلى مطار بن غوريون ، حيث تجلس إلى جانبه سيًّدة إسرائيليّة ، في الثالثة والثلاثين من عمرها ، تعمل ممثًّلة ، هي "دانا أهوفا" ، الأمر الذي يجعل الرحلة السرديّة تتخطى الوصف التفصيلي للرحلة الواقعيّة إلى الأرض التي طال النأي عنها ، لتدخل في عمليّة أخرى موازية تهمس بسؤال الأنا والآخر ، وهو سؤال يتحرّر هنا من شكله المتداول ، ويُحرًّر "العدو" ، إلى حدّ كبير ، من صورته النمطيّة المستهلكة أدبياً ، ليضعنا الكاتب في مواجهة شخصيّة إسرائيليّة مختلفة ، ربما تكون أقرب إلى التمني التخييلي منها إلى الواقع الملموس. أو إن السّارد ، على الأقل ، يختار أنموذجاً ، وإن كان بالغ النُّدرة في المجتمع الإسرائيلي ، مع أنه لا يعدم الوجود (قد نجده مثلاً في الصحافيّة الإسرائيليّة "عميرة هاس" ، التي تجيء الرواية على ذكرها عًرَضاً ولأمر لا يخلو من دلالة).

في خروجه عن الصورة النمطيّة للعدو المحتل ، والذي لا يفلت وليد ، الفلسطيني الذي يحمل الجنسيّة البريطانيّة ، من ممارساته الاحتلاليّة العنصريّة ، يختار ربعي المدهون الصورة النقيضة ، عبر شخصيته الإسرائيليّة المحوريّة وشخصياته الثانويّة أيضاً. وهو يمتلك ، سردياً ، جسارة الدخول في عالم ذلك الآخر ، الذي ظلّ مطوقاً بأسوارْ معرفيّة على المستوى الاجتماعي والسيكولوجي والأخلاقي قبل السياسي ، وتابوهات "وطنيّة" تحول دون أنسنته ، أو أنسنة بعض نماذجه المختلفة.

ربما يكون السّرد قد استشط في هذا المجال الأخير. فعلاقة وليد بجارة مقعد الطائرة الإسرائيليّة ، رغم ما انتابها من أسئلة داخليّة وهواجس ومخاوف مشروعة من الطرف الفلسطيني ، في البداية ، إلاّ أنها سرعان ما تكشّفت عن ألفة غير متوقّعة بين ذلك الفلسطيني وتلك الإسرائيليّة ، تدفعه لأن يشعر داخلياً برغبة إنسانيّة لاحتواء حزنها. وفي أجواء تلك الحميميّة الدافقة والألفة السريعة المباغتة ، تحدثه دانا عن صديقها اليهودي (وإن أخفت عنه علاقتها بابن زعيم عربي كبير). تحكي عن أعمالها ومشاريعها. وهو من جهته يحدثها عن أمّه ، ويروي بعضاً من سيرته ، وأحداث روايته التي يعكف على كتابتها ، فتقترح عليه عنواناً للرواية سرعان ما يأخذ به. وتتعدى الألفة بين الإثنين تبادل عناوين البريد الإلكتروني ، إلى أن نراها تقرصه في ساقه ، وتقوم بضربه على كفّه مازحة ، ثمّ تحسس ذراعه بحذر.. إلى أن يتبادل الإثنان المزاح بالأيدي، هذه الألفة السريعة بين امرأة إسرائيليّة تلتقي فلسطينياً للمرة الأولى في حياتها ، لا شكّ في أنها تجافي الواقع وتتخطّى المتوقّع إلى حدّ بعيد ، غير أنها تخفي خلفها خطاباً سياسياً وأيدولوجياً يعبًّر عنه وليد بالقول المباشر إنه من أنصار السلام. وقد يمنحنا إمكانيّة تأويل تلك الألفة بأن اللقاء ممكن مع مثل هذا النموذج الإنساني للآخر. يقول وليد: "أنا من مؤيدي السلام إلى أبعد الحدود ، وأكره العنف بكل أشكاله" ، فترد عليه: "كأنك دانا بالضّبط".

لكن سؤال التعايش ، يبقى مبتوراً ومتردداً ، بأحلامه وأوهامه وتناقضاته ، بضآلة إمكانياته الآنيّة وتزاحم استحالاته. حتّى أن الرواية تنتهي ، بعد نهاية ملتبسة وغامضة ، بجملة استدراكيّة بالغة الدلالة ترد بعد الإشارة إلى انتهاء الرواية ، تقول: "وليد دهمان ودانا أهوفا لم يلتقيا ذلك المساء".


هناك تداخلات سرديّة متعددة في الرواية. فإذا كان القسم الذي حمل عنوان الرواية على الغلاف جاء بتوقيع ربعي المدهون ، فإن القسم الآخر الذي حمل عنوان "ظلان لبيت واحد" الذي اقترحته دانا ، جاء يحمل اسم وليد دهمان مؤلفاً.

لقد أوحى هذا العنوان بأننا ندخل في النصّ التخييلي الذي كتبه وليد دهمان ، وهو كذلك إلى حدّ ما. لكن الرواية المتخيّلة التي يرويها وليد حول بطله "عادل البشيتي" ، تعود وتختلط بالرواية التي يروي فيها ربعي المدهون تفاصيل عودة وليد دهمان ، أو يرويها وليد نفسه.

على أي حال ، فإن لعبة الظلال وتداخلاتها الغريبة يتقنها ربعي المدهون بإدهاش. فوليد دهمان هو ظلّ لربعي المدهون ، مثلما أن عادل البشيتي هو ظلّ لوليد دهمان.

ولولا تلك الظلال ، وذلك التخييل الروائي ، الذي جعل وليد وبطل روايته عادل يلتقيان في غزّة ، وإن مصادفة ، وجعل وليد يعثر ، بالمصادفة أيضاً ، على محبوبة بطله ويصلهما معاً ، لكان هذا الجزء من الرواية (رغم ما انطوى عليه من رصدْ لأمكنة وشخصيات وأحاديث عن مصائر بشر كان قد تركهم وليد خلفه) ، أقرب إلى الريبورتاج ، أو إلى نصّ ينتمي إلى تلك النصوص التي كتبت في إطار أدب العودة إلى الأرض بعد أوسلو.. وصدمة الوطن الذي لم يجد فيه العائد وطناً، لكننا في "السيًّدة من تل أبيب" ، نبقى أمام نصّ روائي شائق ، تتحقق فيه متعة السّرد ولذّة التلقي ، ونعيش مع شخصيات نابضة ، نستودعها صفحات الرواية في النهاية ، لكنها تظلّ تعيش معنا.. وفينا.

[email protected]
Date : 30-10-2009

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow