الكاتب والباحث خليل أحمد خليل: العرب عرفوا معنى السلطة ولم يعرفوا مفهوم الدولة! / فاطمة عطفة
2009-11-17
باحث وأستاذ جامعي في علم الاجتماع ومترجم متميز، عندما تقرأ ترجمة له تشعر بأن هذا الكتاب من تأليف مبدع يعشق لغته ويكتب بعفوية وسلاسة بعيدا عن التعقيد والاضطراب كما هي الحال في كثير من الترجمات، وهو يرى كلمة تعريب تعني النقل إلى العربية، أما كلمة ترجمة فهي كلمة أوسع وتعني النقل من لغة إلى أخرى، فهو بهذا المعنى يعمل في التعريب والترجمة، لأنه يترجم من العربية إلى الفرنسية، كما عمل على تعريب العديد من كنوز الفكر الفرنسي. ولادة الدكتور خليل ونشأته في الجنوب اللبناني من أسرة مكافحة وجذوره الممتدة إلى فلسطين وتحصيله العلمي العالي وإطلالته الموسوعية على التاريخ كل هذه المزايا تجعله قريبا من القلب والفكر في حديثة وتحليله العميق ونظرته المتفائلة إلى المستقبل.
وكان لنا معه هذا اللقاء:
*لنتحدث عن البدايات وكيف توصلت إلى دراسة علم الاجتماع وخاصة أنه علم حديث نسبياً، هل هو الجو العائلي أو توجيه الأساتذة أو طموح شخصي مولع بالبحث عن جديد؟
** هذا الهاجس العلمي نشأ معي بحكم المجتمع الذي ولدنا فيه بجنوب لبنان. كنا بحاجة لنفهم ماذا يحدث في هذا المجتمع، لنحاول أن نفسر كيف نعيش؟ ومن نحن؟ وكيف نحن؟ وطبعاً في الوقت نفسه كانت العلوم الإنسانية أو الإنسانيات قد بدأت، وأنا بطبيعتي أحب أن أفهم البشر، فهذا ما استهواني. لا تعنيني كثيراً الآثار، استهوتني بشكل أكبر الأشياء الحية بدءاً من النباتات ثم الحيوانات ثم البشر.
الآن، بعد هذه التجربة الطويلة في الحياة، إذا خُيرت كيف أحيا، سأتحاشى وأستبعد البشر بعدما درست وفهمت أنهم لا يعرفون ما يريدون.
أحب الشجر جداً وبعض الحيوانات. تبدأ الحياة من احترام الشجرة، لأن الشجرة روحها في جذورها، الشجرة لا تموت من أغصانها إذا قطعناها.
هذه البيئة شبه الأمية التي كنا نعيش فيها بحاجة إلى تفسير: لماذا هي هكذا؟ لماذا مجتمعنا بلا مدارس، بلا تعليم؟ بلا طبابة؟ هذه الأسئلة شغلتني طويلا، وخاصة وأنا صغير ماتت لي اثنتان من أخواتي بسبب فقد الأدوية، هذا في الحرب العالمية الثانية، فكل هذه الأمور أتساءل عنها ولا أجد أجوبة لها.
كنا مثلاً دائماً ننتظر جواباً سوسيولوجياً فتأتينا أجوبة إيديولوجية، مثلاً لماذا نحن هكذا؟ يقال لنا إن هناك أناسا يكرهوننا، وان هناك استعماراً. ولكن لماذا نحن بالذات؟ ولماذا قصة اغتصاب فلسطين 48؟ أنا جدي من الجليل من (أكزن) في فلسطين، كنت أحاول أن أفهم لماذا نحن هنا في هذا المكان، وبهذا المعنى فإن علم الاجتماع يحيل الأمور إلى المكان. هنا سؤال كبير: أين أنت؟ أين نحن؟ هذه الـ (أين نحن) جعلتني أتوجه أكثر فأكثر، وخاصة عندما حسمت أمري وذهبت إلى فرنسا لدراسة علم الاجتماع. كانت رغبة أمي وأبي طبعاً، نظراً لمأساة موت أخوتي ومأساة الناس، في أن أعمل طبيباً، واعتذرت منهم ولكنهم لم يقتنعوا، كانوا يتمنون أن أعمل طبيبا حيث أن الطبيب أول شيء يعالجهم وثانياً يأتي بالمال.
*بدأت بالشعر وكان اختصاصك الفلسفة وعلم الاجتماع، وأيضاً الترجمة، فأين يرى الدكتور خليل نفسه؟
** أنا بدأت حياتي في الطبيعة، لم يخلق الإنسان في الجنة ولا يمكن أن يكون شاعرا هكذا برغبته، لذلك أتذكر أنني كنت في البستان في عام سبعة وخمسين، حيث كانت هناك أحداث بعد العدوان الثلاثي على مصر، وثورة الجزائر. وفي هذا الجو قلنا إننا نريد أن نعمل ونكون ثوريين. نحن خلقنا بهذا الجو. خلقنا في المناخ الثوري، مثلما خلقنا في طبيعة فيها بساتين وأشجار. وبدأت أكتب، نشرت لي (النهار) أول مرة قصيدة: ربما الأبواب تذكرني، وفي ذات يوم يقول لي أحد أساتذتي من بيت نمور (جاي تتفلسف علينا؟ أنت الحاج كتب عنك صفحة في جريدة ' النهار') وأنا عرفتها بالصدفة. أما التفلسف فهو معي ضمن الشعر. لذلك انطبعت كتاباتي الشعرية بشيء اسمه الصيغة الفلسفية، والأمور الاجتماعية، أمور الناس وأموري أنا، أجد نفسي فيها، وكما وصفوني بغرفة لها عدة شبابيك يأتيها الهواء من كل الاتجاهات ولا تمتلئ، طالما الهواء يتغير فليس هناك امتلاء. وكما أعتقد أن الإنسانيات بالنهاية، ومهما حاولوا، لن تصل بسهولة إلى ما هو الإنسان. فأنا كإنسان أحب ثيابي القديمة، أحب رفاقي القدامى، أحب التراب لا أبدل التراب بشيء، لذلك لا يمكن أن يفكروا أنه ببيوت أجدادنا (بأكزن) يعني بيت جدي الشيخ مسعود الماضي سوف أنساه أو أتخلى عنه، وجيلا ً بعد جيل يقول سوف نظل متشبثين بالأرض. نحن وطننا الأرض وثقافتنا الأرض.
أنا أتذكر أبي عندما وقع هجوم على جنوب لبنان، وكنا نحن في البيت، فقال لي: خذ أخواتك الصغار وأبعدهم عن هذا المكان، قال لي: (هذا العدو، يعني شو بدو يعمل؟ يعني يقتلني هون؟ أنا أمنيتي الوحيدة أن أدفن في أرضي). فإذا لم يكن هناك إمكانية لوطن بدون أرض. الوطن شعب زائد الأرض، الآن الأرض عندنا مشكلة لأرض الوطن المحتل، ولكن عندنا مشكلة الإنسان المحتل التي هي أخطر، عندما تحتل نفوس الناس وأذهانها وأخلاقياتها وعاداتها. هذا هو الاحتلال الخطير، لأن النفوس تغير ما على الأرض.
تظل أرض فلسطين رابحة وتظل فلسطين، هم غيروا أسماء القصة ولكن القصة ليست كلمات بل وقائع.
*في محاضرتك ' اللغة والهوية' أشرت إلى محطات عديدة: شغلتك نكبة 48 وهزيمة حزيران ( يونيو)، كيف يرى أحمد خليل كارثة احتلال العراق؟
** كارثة احتلال العراق لم تكتمل بعد فصولها، يعني تقول لي إذا كان عندكم سنة 48 فلسطين واحدة الآن أمامكم 25 فلسطيناً حسب حجم العراق وعدد سكانه وثرواته، والخطر الذي هدد الركن الأساسي من أركان العروبة، لأنه ليس بإمكاننا أن نحكي عن العروبة إذا كان هناك عدد من البلدان العربية إما تحت احتلال وإما مهددة بالاحتلال، ولكن هذا أيضاً يعود إلى وهم السياسة الأمريكية لأن الأمريكيين منذ ورثوا الاستشراق الأوروبي وراحوا يفكرون أن هؤلاء العرب لا توجد طريقة للتعامل معهم إلا بالقوة لأنهم أموات سياسياً، اعتبروا أن المنطقة ميتة سياسياً لأنها لم تقاوم، وهم قادرون على أن يحتلوها مثل ما عملوا في العديد من المناطق، وأن تجربة إسرائيل أمامهم نجحت وهي أثبتت وجودها، ولم يروا أن إسرائيل لم يمر عليها يوم من دون حرب، وما مر عليها يوم من دون مقاومة، ولكنهم ما أخذوا بعين الاعتبار مقاومة الشعوب لهذا الاحتلال وهذه الاعتداءات. فالكارثة أن العراق مؤشر إلى ولادة جديدة للمنطقة، لأنه إذا كان الإنسان لا يستطيع أن يغير ماضيه فكيف يستطيع أن يغير مستقبله؟ أنا أرى أن انطلاق الثقافة الجديدة، الثقافة الإنسانية بين العرب، يأخذ مداه أكثر فأكثر رغم الحدود والرقابة، يعني بوليس الكتب، بوليس الكلمات.. وهذا لن يدوم.
هذه التحولات التي تكون عندنا هي بمستوى الإنسان وتجدده وعولمته. مثلاً عندما ننظر إلى هذا الجيل الجديد من الفلسطينيين، أقول لنفسي: لماذا نسينا أن نقول إن (فلسطين هي العالم). إذا أنت يا إسرائيل تعتبرين أن الجزء الذي أخذته من فلسطين أغلى فأنا أقول لك شيئا آخر، مثل ما قال الراهب لكازانتزاكي عندما ذهب ليتصوف بالدير، قال له الراهب: (اذهب إلى العالم.. العالم هو الدير).
وأنا أقول لأهلي: اذهبوا إلى العالم.. العالم هو فلسطين.
في جواز السفر: خليل موسى الماضي، من نسل الشيخ مسعود الماضي الذي استشهد سنة 1834 في فلسطين، لأنه كان من الدولة العثمانية عندما جاءت حملة إبراهيم بـاشا والمير بشير، وقد حمى المير بشير لفترة، وبعدها أعدم وتشتتوا.. فقسم ذهب إلى اسطنبول، والآخر مثل جدي معين، وهو الذي سبق جدي خليل، كان من الناس الذين توجهوا إلى الجنوب. لهذا فإن أكثرية هذه العائـلة موجودة في مزارع شبعا وما زالت تحمل نفس الاسم، هناك أناس يتخفون ويغيرون أسماءهم، وهناك قسم من بين الجاد والجردي بالشويفات.
وهناك من العائلة من ذهبوا باتجاه مصر مثل بيت أبو المجد، مثلاً. كنت بالصدفة في صنعاء عام 1987 والتقى بي شخص وقال لي: ألست أنت فلسطينياً من بيت الماضي؟ فقلت له : أنا لبناني من بيت الخليل وقلت بنفسي: لـنـرَ ما يريده مني، فقال لي: أقسم بالله أنك أنت من بيت الماضي.
فقلت له: ماذا تعني بقولك أنني من بيت الماضي؟ فقال لي: عندهم شكل وشخصية معينة. عندما ترى الشخص منهم تعرف أنه من بيت الماضي. قلت له: أنا لا أعرف هذا الشيء، وتظاهرت بذلك. لكنه لم يصدق وأعطاني عنوان صالح الماضي وقال إنه بدولة الإمارات تستطيع أن تتصل به، فاتصلت وحكيت له ما حصل معي وبدأنا نتراسل، بعدها حصلت معي ظروف سياسية وهددت بالاغتيال وتخفيت خمس سنوات في لبنان. انقطعت المراسلة مع الأستاذ صالح ولا أعرف إن كان ما زال موجودا أم لا لأنه كان كبيرا في السن وعمره أكثر من ثمانين سنة.
*بعض الأدباء يخافون من تمزق الأمة لدرجة أن نصبح أمماً مثل أوروبا عندما تمزقت بعد الإمبراطورية الرومانية ولغتها اللاتينية، فأين ترى أنت هذا الخوف؟
** أعتقد أن هذه مقاربة خيالية عن وضعنا، وأنا أقول بأننا تمزقنا منذ زمن. نحن الآن نتطور وأنا أرى أمتي كما هي، يعني أنني عندما أرى أننا خلقنا في قرى ليست فيها مدرسة والآن لدينا مدارس وكهرباء وطرقات وبيوت وفلل، هذه البيئة التي عشت أنا فيها، أرى كيف هذه الأمة حررت نفسها بعد أن تركها الاحتلال العثماني من دون أي شيء.
كان البعض منا يعتقد أننا نعيش بالإمبراطورية العربية بالعصر العباسي.
وما زلنا نتحدث عن التمزق، التمزق حصل.. وحصل طويلاً وعميقاً وموجعاً. لكن النهضة بدأت في القرن التاسع عشر وما زالت تسير في مسارات متعددة، ونحن الذين يفهمون حضارات الأمم الكبرى، ونحن من الأمم الكبرى في العالم، ليس فقط بلغتنا وإسلامنا وأرضنا، نحن أيضاً أمة كبرى بإبداعاتنا، وبما نستطيع أن نبدع في المستقبل، نحن لا نتكبر على أحد أيضاً، نحن نكبر بالأمم الأخرى أيضاً.
الأمم الكبرى بطبيعتها، لتقوم بدورة حضارية حول نفسها، تحتاج إلى 200 أو 300 سنة على الأقل، ومن يتوهم غير ذلك لا يعرف أن هذه الأمة شاسعة وأن ذلك لا بد من ارتكاسات في بعض أجساد هذه الأمة، ارتكاسات فلسطين كم سنة. هناك توازنات ستورث في العالم وفي المنطقة ستجعل الإسرائيلي إما أن يستعرب وإما أن يهرب.
السلاح النووي لا يبقى، السلاح النووي يقتل صاحبه أيضاً، لأن هذا ليس امتيازاً، الامتياز هو الزراعة.. الماء.. النفط، نحن عندنا مقومات البقاء كالأمم الكبرى ولأعوام طويلة جداً.
هناك مرضان أصابا هذه الأمة. هناك أمراض تعالج ويعالجها أصحابها بحكمة وبعلم لأن الحكمة والعلم يتلازمان، فإذاً هذه الأمة تسير وتتقدم ببطء، ولكنها تتقدم. مثلاً، ما بقي بفلسطين 48 أعني غزة والضفة والقدس، شيء مهم أن نتأمل ماذا فعل الفلسطيني تحت الاحتلال الإسرائيلي؟ كم جامعة أسس؟ أكثر من 15 جامعة وتحت الاحتلال؟ أليس هذا شكلا من أشكال المقاومة العظيمة؟
التقدم العلمي والفكري والثقافي والتراثي، أنا اليوم أسمع قناة موسيقى وأغاني فلسطينية أكثر من أي وقت مضى، بينما لا توجد أغنية إسرائيلية أو يهودية استطاعت أن تخترق الأذن العربية.
*هل هذا لأنهم بلا جذور وثقافة؟
** لأن الأذن لا تعشق دون العين، لأن الإسرائيلي الصهيوني هو الذي فرض عداوته على العرب، العرب من شيمهم التسامح، ويمكن من نكباتهم أنهم متسامحون أكثر من اللازم، عندما نعود إلى قضية فلسطين سنفهم أن التسامح الفلسطيني لعب دوراً أيضاً في تسهيل عودة (أبناء العم) الذين لنا معهم تاريخ مشترك في الأندلس، عندما كان ابن ميمون وابن رشد يعملان بعقلانية، ونحن جئنا ضيوفاً إليكم، لأنه لا يوجد أرحم من العرب بالنسبة إلى اليهود، فقلت له: وماذا فعل اليهود بأبناء عمهم الآخرين؟ ولماذا يعذبونهم كل هذا العذاب من أجل ماذا ؟ أين طردوا اليهود من العالم العربي؟ أنا أطالب بحق عودة اليهود إلى البلاد العربية، وعندئذٍ لا داعي لأن أطالب الفلسطينيين العرب بالعودة إلى ديارهم لأن الآن توجد 450 قرية فلسطينية مدمرة داخل إسرائيل وليس فيها مستوطنة، وبإمكان الفلسطينيين أن يعودوا إليها بكل بساطة ويعمرونها، وما المانع؟ الغرب هو الذي يستثمر الأداة الإسرائيلية لتمزيق هذه المنطقة مجددا ولكنه سيفشل.
*كيف ترى إلى مسألة فصل الدين عن الدولة أو السلطة السياسية، خاصة وأن حضور رجال الدين في الوقت الحاضر أكثر من حضور السياسيين في كل المجالات؟
** إن كان المقصود الإسلام في البلاد العربية، الإسلام أسس مجتمعا في التاريخ، أسس مجتمعاً دينياً وبالتالي أسس مجتمعا سياسياً، ومن المنافي للحكمة القول بالفصل بين المُؤسِّس والمُؤَسَّس، يعني بين الدين والمجتمع، عند المسلمين هذا الشيء وهمي، ومن الوهم أن نصف الدين الإسلامي بأنه وهم.
هناك مستويان لهذه المسألة، الإسلام المصدري الوحيد: النبي.. القرآن، هذا السقف المشترك بين كل المسلمين في العالم، وهناك الإسلام التاريخي الذي تقع في نطاقه المسألة التي نطرحها. الإسلام التاريخي، هناك مشكلة، مشكلة إدارة المجتمع بوهم لا بعلم، المشكلة الحقيقية في بلادنا هي كيف نفصل العلم عن الوهم، وليس عن الإسلام المصدري الذي هو عقيدة جامعة لمئات الملايين من البشر، لا يوجد في العالم العربي والإسلامي دولة واحدة تدار دينياً إلا إيران مؤخراً. ولو تأملنا في تجربة إيران لوجدنا أنها تدار إيديولوجياً إعلامياً وبنسبة 5 ' فقط بالفقه المذهبي. ما تبقى يدار بإدارة قومية، الآن القومية الإيرانية في ذروتها.
إن الملف الإيراني وكل مواقف إيران تدار في منطق الدفاع القومي عن النفس، فهي لا تندرج في موقع الدفاع عن مذهب وعن نظرية أو عن رجل دين، أين نجد موقعا في نظام عربي واحد يحكمه رجال الدين حتى نفصل الدين عن الدولة؟ رجال الدين وظيفتهم في المجتمع تحريك وتجديد الخلايا الاجتماعية فيه، هذا التجديد يتم في إطار فراغات سياسية، يستغلها بعض رجال الدين عموماً لجمع الأموال والثروات، وأحياناً لاستعمال العنف، لأن العنف ليس متأصلا عند العرب ولا عند المسلمين، وإن تسامح العرب في تاريخهم أكثر من أعمالهم العنيفة، وإن فتوحاتهم التي وصفها بعض الحكام بأنها استعمار، أعتقد أن هناك من يفتري على العرب عندما يقول الاستعمار العربي. مثلما نحن اليوم نتكلم عن الاستعمار العثماني بأنه كان إمبراطورية، كذلك نحن كنا سكان إمبراطورية هي بالنسبة للآخرين استعمار.
مثلاً اليوم هناك أمريكيون يقولون إن مستعمرتهم أمريكا، وهذا القول بذاته ينطبق على الإمبراطورية العثمانية. أنا لم ألحق بذلك الزمن ولم أكن من رعاياها، لكن جدي حاصل على الجنسية التركية وبإمكاني أن أحصل عليها بالتالي.
يقول شاعرنا المرحوم ندرة الحداد وهو مهاجر سوري في أمريكا وابنه جورج صار من رؤساء الجامعة الأمريكية، عندما وقف في الجامعة الأمريكية في بيروت ليلقي خطابه بالإنكليزية طبعاً، وزع مطبوعا وفيه بيتان من شعر أبيه باللغة العربية، يقول فيها ندرة الحداد:
لا ذاق جفني الكرى، لا هزَّني الطرب/ إن كنت يوماً لغير العرب أنتسب
هذا بعد مئتي سنة، الابن يستذكر الأب، وهو أمريكي. فإذاً، ما نحن فيه يستدعي الفصل بين العلم والوعي. إن الوعي كما نرى عبر الأبراج والسحر والتنجيم والخزعبلات والفتاوى المضادة.. إلى آخره، هذه الأوهام كلها هجمت على عقول الجماعات تؤخر التقدم العلمي. ونرى أن ما ينجز علمياً في الجامعات في تقدم ثم يأتي المجتمع المتوهم أو المستوهم ويبتلع هذا التقدم ويؤخره، إذاً أنا لا أرى أي مشكلة سياسية في العالم العربي، المشكلة هي علمية، أو إذا أردنا أن نقول علمانية أو مدنية أو حضارية، هي كيف ننظر إلى أنفسنا أو إلى عالمنا، أن ننظر إلى ذلك بعلم عن رؤى. طبعاً هناك رجال دين علماء لا نستطيع إنكار ذلك ويمكنهم أن يكونوا رياضيين وأطباء ومهندسين. أنـا بتجربتي هناك أذكر أن طالبا كوريا جاء إلى الإسلام بالثقافة، لأنه هو مولود من أب بوذي وأم مسيحية، جاء إلى الإسلام ودرس علم الاجتماع عندنا في الجامعة وكان من الأوائل. كوري جنوبي يتخرج من كلية علم الاجتماع بالعربية وكذلك درس الإسلام عند المرحوم الشيخ كفتارو بدمشق، يتنقل بين دمشق وبيروت وهو لا يريد أن يكون رجل دين ويلبس الزي، ولا يريد أن يبشر بالإسلام مقابل شيء ولا أن يمارس الشعائر الإسلامية مقابل شيء.
هو يعمل في الجامعة يعيش من الجامعة ويخدم الإسلام بثقافته كما يعتقد هو، أنا أعتقد أن مثل هذه الظاهرة هي مؤشر لما سيكون عليه الإسلام في الغد، لأن الإسلام الآسيوي يدلنا على طريق الغد، والتهذيب الآسيوي هو جزء من التهذيب الروحي الإسلامي الذي تفتقر إليه البشرية الآن أشد الافتقار، وهذا ما أشار إليه توينبي بكتابه (الغرب على المحك) والذي يقول فيه: نحن في الغرب نحتاج إلى الإسلام مرتين، مرة لأن الإسلام غير عنصري، ومرة ثانية لأنه يحمي من الموبقات.
هذا لا يعني أن المجتمعات الإسلامية ليس فيها مشكلة، ولكن يعني أن الإسلام يحمي وهو جاد تجاه هذا المرض الخطير الذي يهدد البشرية.
فإذاً، علينا أن نفرق بين الإسلام المصدري والإسلام التاريخي، الإسلام التاريخي هو سياسي وهو اجتماعي، وهو قابل للبحث والنقاش ولا يجوز أن يكون النقاش حاداً كما يحدث في معظم الأحيان، طالما أنه لا يدور حول الإسلام المصدري، وليس هناك خلاف حول الإسلام المصدري، مثل علم الاجتماع حيث لا ندعي أننا ندرس الوحي مثلاً، أو أننا ندرس الإسلام المصدري، نحن ندرس الإسلام كما تأسس في المجتمع، كما حدث وكما يحدث. نحن لا نذهب أبعد من ذلك لأن الوحي ليس موضوع اختبار.
*لنعد إلى أوضاع الأمة، كيف نتخلص برأيك من حالة التمزق، وأنت اعتبرت أن التمزق الكبير قد حدث وهذا ما نعانيه من العولمة في العصر الحديث؟
** طبعاً التعولم يقتحم العالم العربي ومؤثر بشكل كبير على النسيج الاجتماعي، النفسي والاجتماعي. أنا أدعي أن عيب التمزق عندنا ليس في الأزياء كما يشاع بل هي في القوانين، فلو كان عندنا في هذا العالم العربي من ينتج له قوانين فسوف يقينا مخاطر التمزق الخارجي، لأن الاستعمار يجتاح الأمم مثل العواصف. ليس باستطاعتك أن تقولي أنا لا أريد عاصفة تمر من فوق رأسي ولا أريد زلزالا. كل ما تستطيعين أن تفعليه هو أن تعملي على حماية نفسك.
إذا صار هناك اجتياح على أي قطر عربي، ماذا نفعل؟
علينا إذاً أن نخطو خطوة كبيرة نحو العلوم الإنسانية أولاً، وجعل العرب يعتبرون أن مشاكلهم هي مشاكل بشرية وليست عيوبا أخلاقية، وبالتالي عليهم أن يخفوها، لأننا إذا لم نشخص مشاكلنا بما هي مشاكل وبما هي مسببات للتمزق الذي هو طبيعي، لأنه ليس هناك مجتمعات جدارية بل فيها دينامكية ومتحركة، فإذا كان فيها تمزقات وانقطاعات وتحولات من دون هذا التشخيص السوسيولوجي للجماعات، لا يمكن أن نقول إننا قريباً سنعالج هذه التمزقات، ومن الوهم أيضاً ونحن نرى الأمور بعيني الغرب والشرق.
الغرب حيث درسنا، والشرق حيث نعيش ونجرب. إن لدى الغرب أجوبة جاهزة أو حلولاً جاهزة لمجتمعات لم يدرسها ولا ندرسها نحن لا من بعيد أو من فوق، أنتروبولوجياً لم تعد فاعلة اليوم.
البعض يحكي لك عن الجلباب والحجاب والحريم، وهي بالأصل ليست من أصل عربي، هي من أصول فارسية أو تركية، وخاصة الحجاب، هنا أقول للذي يهمه الأمر وأنصحه بالعودة إلى أطروحة الدكتور عبد الله اليافي - يرحمه الله ـ أول أطروحة لمسلم في كلية الحقوق في السوربون سنة 1926 عنوانها: الوضع الخاص للمرأة في الشرع الإسلامي.
وهذه أجمل دراسة مقارنة عن المرأة، لأن العالم العربي يحتاج إلى مراكز أبحاث، وليس إلى مركز واحد ، إلى مراصد لتحيط بالتحولات. العالم العربي مـُترام ٍ، والمؤسف أنه لا ينتج من داخله، هذه المراكز العلمية الجديرة لتطبيقه بمنطق ورياضيات وحسابات تجعل نسيجه الاجتماعي تحت المراقبة حتى يتحرك.
الآن العالم العربي مع ذلك يرى نفسه في كل المرايا والزوايا، وهذا حدث ولكن ينقصنا الشيء الذي نسميه النظرة المرآوية أو البانورامية، لأن الدكتور عبد الله العلايلي رأى أن كلمة بانوراما تعادل مرآة.
وهناك كتاب جديد سيصدر قريباً لـ (أركون) أتمنى أن يكون له رواج في العالم العربي هو (الإسلام والأنسنة ) بعد أطروحته الأولى عن الأنسنة عن أبي حيان التوحيدي، وهو عمل كتاب (جديد الأنسنة الآن) 2006 بالفرنسية، والآن في سنة 2009 (يصدر عن دار الطليعة) ليس نحن بهذا الوقت نتغير كثيراً، يمكن القول بأنه في القرن الرابع عشر كان هناك ابن خلدون واحد، الآن هناك عشرة آلاف ابن خلدون عربي، إذا لم يكن أكثر وأنا أقول هذا على مسؤوليتي أنا أتابع وأرى أن المبدعين يتكاثرون.
عن القدس العربي
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |