Alef Logo
ابداعات
              

قصة / يسلملي البنفسجي - بقلم سهى صبّاغ

2009-11-22

الوحة للكاتبة
كانا يمرّان على الرصيف نفسه حين التقت نظراتهما. ابتسما أحدهما للآخر، فرحَين بهذا اللقاء المصادفة. اقترب منها بخفّة وهو بكامل هدوئه وأناقته، مبتسماً لها ابتسامة عريضة:
- كيف حالك؟!
رفع لها شالها الزهري الذي كاد أن يقع أرضاً وهي منهمكة تبحث في حقيبة يدها عن مفتاح سيارتها. لفّ الشال حول عنقها بعناية. نظر إليها متأملاً انهماكها، أما هي فتابعت حركة يده التي تلفّ الشال، لتعود منسحبة إليه. أجابت عن سؤاله بالهدوء نفسه وهي تنظر في عينيه:
- لا أزال أعيش منذ أسبوع نشوة آخر لقاء لنا.
أمسك نظّارتيه برصانة، مسترقاً النظر ومتفحّصاً المبنى الذي يضمّ مكتبه. ضاقت ابتسامته ثم عادت الى إشراقتها من جديد حين عاود النظر إليها. هي تعلم شدة انشغاله، لذا انسحبت بخفّة وودّعته بكلمة ملتبسة النبرة بين الوداع والسؤال:
- نلتقي؟!
- لا شك، أليس كذلك؟
أجابت بالإيجاب في اشارة من رأسها ورفعت يدها مودّعة وتوجهت نحو سيارتها المركونة الى جانب الرصيف، وهو من مكانه كان يرافقها بنظراته.
استقلّت السيارة. أدارتها، ووضعت حزام الأمان، ثم فتحت النافذة لتهمس من بين المارّة:
- اقتربْ قليلاً.
أيضاً من بين المارة، ومن دون أن يقترب شبراً واحداً، أجابها بنبرة لا تخلو من اللطف الرصين:
- نحن في الشارع.
انطلقت بسيارتها وهي ترمقه بنظرة وداع وضحكة، مردّدةً مع نفسها بمرح: يا لذكائك يا رجل. كيف علم أنني كنت سأقبّله.
توجّه نحو مكتبه، يده على جبينه، مدارياً ابتسامة، وتعابير التعجّب بادية عليه حيال جنون هذه المرأة. كان يفكّر في موكّله. لو أنه رآه يدعها تذهب وحدها بسبب انشغاله بقضيته، لكان سخر منه، بل لربما كان سحب التوكيل منه واعتبره محامياً غبياً.
كان يتمنى فعلاً لو ألغى ارتباطه في المكتب ولحق بها، رامياً ربطة عنقه التي لا شك تجعل منه إنساناً رصيناً وجدياً، زيادة على اللزوم.
قالت له يوماً حين لاحظت التباين الكبير بينهما:
- أنت مكويّ جيداً، أنت وثيابك معاً. نحن لا يشبه أحدنا الآخر البتة. ألا يزعجك هذا الامر؟
أجابها ضاحكاً: بالعكس. أفضّل ذلك.
هي ايضاً كان لديها الفضول لمعرفة تلك الشخصية المختلفة عنها. لم يكن لديها أي مشكلة مع ربطة عنقه التي لفتت انتباهها في هذا اليوم بالذات، بلونها البنفسجي مع البدلة ذات اللون الاسود.
كانت تكلّم نفسها وتقول:
- يسلملي البنفجسي.
ثم أوقفت سيارتها فجأةً الى جانب الرصيف وأضاءت الاشارات كأنها تذكرت شيئاً ما. تناولت هاتفها الخليوي، وكتبت له رسالة. رجف قلبه حين رجّ الهاتف معلناً وصول الرسالة، فسحبه ليقرأ مضمونها قبل بدء الاجتماع الذي وصل اليه للتوّ. كبس على زرّ الرسائل. الرسالة منها. لكن السكرتيرة دخلت مستأذنةً إياه لدقيقة واحدة.
هناك أمر تريد أن تذكّره به.
أعاد الهاتف الى جيبه كطفل يخفي شيئاً عن والدته. اقترب منها، وما إن لفظت الكلمة الاولى، حتى فهم ما أرادت تذكيره به، فأجابها بهزّة من رأسه شاكراً. عاد الى طاولة الاجتماع محاولاً سحب هاتفه من جديد، لكن هاتف المكتب رنّ، فأسرع ليجيب. السكرتيرة مرةً أخرى. قال بنبرة مهذّبة وحاسمة:
- والله فهمت. نعم، لن أنسى.
أقفل السماعة وتوجّه الى طاولة الاجتماع من جديد. من جديد أيضاً وضع يده في جيبه فإذا بالهاتف نفسه يرنّ. لا، لن يسلّمه الى السكرتيرة لتجيب. لربما قرأت الرسالة. أفّ. لكن هذا المتصل سيطيل الكلام حول قضية معقدة يريد توكيله بها، وعلى السكرتيرة أن تؤدي دورها كسكرتيرة، فتعتذر منه وتؤجل الاتصال الى وقت تحدّده بنفسها.
أصبح حائراً بين الانضمام الى الموظفين المنتظرين بدء الاجتماع وبين الرد على المتصل، وهذا ما فعله أخيراً:
- عذراً منكم أيها السادة، فلن أطيل الكلام. آلو، نعم أنا بخير، وأنت. أنا الآن في اجتماع، فأرجو منك المعذرة وسوف أتصل بك لاحقاً. حسناً، شكراً جزيلاً.
تأمل ما قام به فوجد ذلك لطيفاً، هو الذي كان يعتقد أن عمل السكرتيرة مسألة عويصة.
قرّر قراءة الرسالة المكتوبة على هاتفه الخليوي بعد استئذان أخير من الموظفين، لكن مساعده دخل على عجل قائلاً:
- إسمح لي أن أطلعك يا أستاذي على أمر لا يتحمّل التأجيل. شركة الطيران التي نتعامل معها، تعلمك بناء على طلبنا الملحّ منذ أمس، ان هناك احتمالاً لإيجاد مكان لك على متن الطائرة هذه الليلة، لكن عليك التوجّه حالاً الى المطار. اسمك أصبح على لائحة الانتظار، وإذا حُلّت مشكلة السفر الليلة، فستستطيع الالتقاء بشاهدك الأهمّ هذه الليلة أيضاً. فقد سوّيتُ المسألة وحدّدتُ لك موعداً عاجلاً معه، بحيث تأخذ منه كل الاثباتات وتقنعه بمرافقتك غداً ليدلي بشهادته أمام المحكمة.
وقف المحامي اللامع متأهباً للمغادرة، مرجئاً الاجتماع الى ما بعد عودته.
حزم أغراضه وهاتفه لا يزال في يده. حمل حقيبة العمل وتوجّه الى المصعد.
وضع هاتفه في جيبه وتوجّه نحو السيارة التي ستقلّه الى المطار. أما هي فكانت تجلس في أحد مقاهي الرصيف، تدخّن سيجارتها شاردةً، متناسيةً عدم ردّه على الرسالة. يبدو أنه مشغول كثيراً، هذا ما قالته لنفسها.
صديقة لها جلست قبالتها، ثم قالت معاتبة:
- ما بالك، ألم تسمعيه؟
- مَن...؟
ثم هبّت لتفقّد هاتفها الملقى أمامها على الطاولة.
- لا أقصد الهاتف. أصحيح أنك لم تسمعيه؟
أجابت، وهي تتعثر بكلماتها: لا. لا. الب... بنفسجي؟
- أي بنفسجي يا مجنونة. بماذا تخرّفين؟ شاب مثل القمر، صديق لي، صادفته هنا قبل لحظة، أمامك. كلّمني وهو ينظر اليك وحين علم أنك صديقتي وأني آتية لملاقاتك، حيّاك وكرّر التحية مرتين، فلم تجيبي، فانسحب.
ردّت على صديقتها ضاحكة وكأنها تعاطفت معها فجأة.
- يا حزينة، هل خيّبت أملك أمام صديقك؟
- انه وسيم بل ساحر، يا حمارة.
- هيه، ألا تعتقدين ان اكتشافك جاء متأخرا؟
- آه، ألا تزالين تعيشين في الاوهام؟
- ولِمَ الاصرار على الواقع، هل هو الذكاء؟
- لكنك لا ترينه الا قليلا. هو كما غيره. اسأليني. يدّعي أنه مشغول. أيتها المجنونة لا أمل في شفائك!


***


وصل اخيراً الى الطائرة، وضع اشياءه في مكانها ورتّب جلسته. ثم خطرت صديقته على باله.
كم كانت جميلة اليوم، راح يكلّم نفسه. أضاف بتأنيب ذاتي: لماذا لم تقل لها ذلك؟! ولماذا لم تقترب منها حين طلبت منك الاقتراب، بل وقبل ان تطلب؟ لماذا لم تفتح باب سيارتها وتجعلها تترجل من جديد، فتقبّلها في الشارع؟ نعم، لمَ لا؟ ما مشكلتك مع الشارع؟! آه منك ايها الغبي! بل أنت ستّون غبياً كمان. جميل منها أنها لم تتوقف عند مسألة غبائك. لكن ماذا لو فعلت في يوم ما؟ انت لا تفكر جلياً وصحيحاً الا حين تكون معلّقا بين السماء والارض.
انتبه أنه لم يقرأ الرسالة بعد. سحب هاتفه، وكبس على زر الرسائل. في الحال، جاءت المضيفة تسأله أن يضع الحزام ويقفل الهاتف لأن الطائرة بدأت بالتحليق. ردّ بالايجاب، لكنه لم يستجب رغبتها. فتح الرسالة اخيرا، لكنه ما لبث ان اعاد غلقها خوفا من ان تكون قد بعثتها في لحظة غضب. اكيد أنها غاضبة منه ومن تصرفاته الغبية والجدية زيادةً على اللزوم. حين طلبت منه ان يقترب، كان عليه ان يفعل. نعم. نعم كانت ستقبّله، ويا لذكائه لأنه اكتشف الامر، ويا لغبائه لأنه لم يلبّ الدعوة.
جعل يردد هذه الكلمات بينه وبين نفسه بسخرية وتهكم: يا لذكائك أيها الرجل. بل يا لغبائك ايها الرجل.
اعاد الهاتف الى جيبه واعداً نفسه بقراءة الرسالة فور انتهائه من اجتماعه الذي سينعقد مباشرة بعد نزوله من الطائرة، والافضل أن يحاول التركيز على موضوع القضية.
انهى عمله ورجع الى الفندق الذي عليه ان يتركه بعد ثلاث ساعات ليقفل عائداً الى الوطن. استحمّ واستلقى في السرير بعدما اقفل الرسالة للمرة الثانية منذ وصوله الاخير. وضع السيناريو الآتي لنفسه. عند الوصول سوف يذهب اليها سريعاً. لا همّ، فسوف يجعل شاهده يأتي معه. سوف يجلسه في غرفة الاستقبال، فلربما يحتاج اليه في شهادة اخرى. سوف يدخل معها الى المطبخ ليصنع قهوة الصباح ويعترف لها بأنه مهمل في حقها واحمق، وها هو آتٍ قبل موعدهما مساء على رغم انه في حياته لم يتأخر او يخلف في موعد. سوف يخبرها عن سبب عدم ردّه على رسالتها، فهو يريد الكلام معها بشكل مباشر ووجها لوجه والاعتذار عما سبق. لن يسمح لنفسه بأن يخرب علاقة هي اجمل ما حصل معه في حياته.
ارتدى ملابسه وقبل ان يضع ربطة العنق، خطر بباله وبشكل حاسم ان يقرأ الرسالة، حتى يتسنى له التفكير في كيفية مواجهة المشكلة وحلّها. فتحها للمرة الاخيرة. وقف جامداً وعلامات الدهشة على وجهه. فكّر قليلاً، ثم تقدم من الكرسي الذي رمى عليه ربطة العنق. أمسكها في يده مبتسماً وعقدها جيداً حول عنقه، لتعود الى وجهه تعابيره الرصينة من دون التخلي عن الابتسام ومحادثة نفسه: فعلاً، انا في حاجة الى تناول القهوة معها.
أعاد قراءة الرسالة المؤلفة من كلمتين اثنتين: يسلملي البنفسجي...
اما هي فكانت تغط في نوم عميق حاضنةً وسادتها. الموسيقى كانت لا تزال تصدح، وصوت شجي يغني: "ليه يا بنفسج بتبهج وانت زهر حزين/ العين تتابعك وطبعك محتشم ورزين/ ليه با بنفسج... ليه يا بنفسج..." ¶
عن ملحق جريدة النهار

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow