الحلاج : الفصل السادس من كتاب الدعاة لوجيه فارس الكيلاني
2009-11-30
كثيرة في تاريخنا العربي الرموز التي لعبت على أوتار المعارضة ضد مفاهيم أرثوذوكسية و غير ديالكتيكية كانت تتبناها السلطات.
و إذا كان اسم جبران خليل جبران هو علامة في منعطف القرن الماضي بحيث أنه لم يتوقف عند شن الحرب على المغامرة الفكرية للتخلف و بنيته ، كان المتنبي هو العلامة التي سبقته و مهدت له الطريق. لقد كان كلاهما في زمرة الأنبياء الفاشلين ، الذين حاولوا ملكا ( بتعبير محمد عمران و علي الجندي ) ، ثم انسحبوا ، أو بالأحرى تقهقروا ليحاولوا أن لا يموتوا ( بتعبير الشاعرين كذلك ). و لم يجد هؤلاء من طريقة لتصعيد رسالتهم النبوئية غير العودة القهقرى إلى أساليب التعبير البياني ( الشعر و الهجاء منه خاصة ) أو النثر ( الذي يتداول مفردات تعاني من قلق واضح في السياق ،) و بلغة دريدا إنها تلجأ إلى التكثيف الفرويدي ثم الإزاحة الدلالية.
و في هذا الإطار يمكن أن نصنف تراجع الحلاج ( و ربما صمته أو سكوته) عن إطلاق دعوات إلى رسالة لها طقوس و تعاليم مغايرة جهارا ، نحو ممارسة نصية لها كل علامات النقض البياني و الأسلوبي ، و سرا : كل علامات تفكيك و استئناف الوحي. و من هنا استحق هذا الشيخ الجليل و المغامر أوسمة البغضاء و الانتقاد اللاذع ، و حتى التشهير ، كما نرى في المقتطفات التالية ، و هي فصل من كتاب : الدعاة للأستاذ وجيه فارس الكيلاني ، منشورات المطبعة العربية و مكتبتها بمصر ، عام 1923 ، ص 19 – 26 .
ألف
بدء أمره : هو الحسين بن منصور. و يكنى : أبا المغيث.أصله مجوسي من أهل فارس يلبس الصوف و المسوح تارة ، و الثياب المصبغة تارة. و العمامة الكبيرة و الدراعة تارة ، و القباء و زي الجند تارة. طاف البلاد و قدم بغداد فبنى بها دارا. و اختلفت آراء الناس و اعتقاداتهم فيه و ظهر منه تخليط و تنقل من مذهب إلى مذهب و استغوى العامة بمخاريق كان يعتمدها. منها أنه كان يحفر في بعض قوارع الطرقات موضعا يضع به زقا فيه ماء ثم يحفر في موضع آخر و يضع فيه طعاما. ثم يمر بذلك الموضع و معه أصحابه فيحتاجون هناك إلى ماء يشربونه و يتوضؤن به فيأتي هو إلى ذلك الموضع الذي حفره و ينبش فيه بعكاز فيخرج الماء فيشربون و يتوضأون ثم يفعل كذلك في الموضع الآخر عند جوعهم فيخرج الطعام من بطن الأرض يوهمهم أن ذلك من كرامات الأولياء . و كذلك كان يصنع بالفواكه يدخرها و يحفظها و يخرجها في غير وقتها فشغف الناس به و تكلم بكلام الصوفية. و كان يخلط بما لا يجوز ذكره من الحلول المحض ، و له أشعار منها :
حبيبي غير منسـوب إلى شـــــــيء من الحيف
سقاني مثلما يشــــر ب فعل الضيف بالضيف
فلـــما دارت الكــأس دعا بالنطع و الســــــيف
كذا من يشرب الراح مع التنين في الصـــــيف
و كان يقول لأصحابه أنتم موسى و عيسى و محمد و آدم انتقلت أرواحهم إليكم ( 1 ).
و قال ابن العماد ( في شذرات الذهب ) : تصوف الحلاج و تعبد فبالغ في المجاهدة و الترقب ثم فتن ، و دخل عليه الداخل من الكبر و الرياسة فسافر إلى الهند و تعلم السحر فحصل له به حال شيطاني ثم بدت منه كفريات أباحت دمه. و اشتبه على الناس السحر بالكرامات.
و قال البيروني : دعا الحلاج إلى المهدي أولا و زعم أنه يخرج من الطالقان الذي بالديلم و أدخل مدينة السلام مشهرا و حبس ، فاحتال حتى تخلص من السجن. و كان رجلا مشعبذا و متصنعا مازجا نفسه بكل إنسان على حسب اعتقاده و مذهبه. ثم ادعى حلول روح القدس فيه و تسمى بالإله.
جال هذا الرجل بخراسان و ما وراء النهر و الهند و زرع في كل ناحية زندقة ، فكانوا يكاتبونه من الهند : بالمغيث ، و من بلاد الترك : بالمقيت ، و من خراسان : بأبي عبدالله الزاهد . و من خوزستان : بالشيخ حلاج الأسرار. و سماه أتباعه ببغداد : المصطلم ، و بالبصرة المحير. ثم سكن بغداد و اشترى أملاكا و بنى دارا ، و أخذ يدعو الناس إلى أمور فقام عليه الكبار. فقال ناس : ساحر فأصابوا. و قال ناس : به مس من الجن فما أبعدوا. و قال ناس : بل هو رجل عارف ولي الله صاحب كرامات. و قال أبو يعقوب الأقطع : زوجت بنتي الحلاج فبان لي بعد أنه ساحر محتال.
و قال الصولي : جالست الحلاج فرأيته جاهلا يتغافل. و فاجرا يتزهد. و كان ظاهره أنه ناسك فإذا علم أن أهل بلد يرون الاعتزال صار معتزليا ، أو يرون التشيع تشيع ، أو يرون التسنن تسنن ، و كان يعرف الشعبذة و الكيمياء و الطب و يتنقل في البلدان و يدعي الربوبية. و يقول للواحد من أصحابه : أنت آدم. و لذاك : أنت نوح. و للآخر : أنت محمد و يدعي التناسخ و أن أرواح الأنبياء انتقلت إليهم.
و قال الصولي أيضا : قبض عليّ االراسبي أمير الأهواز على الحلاج و كتب إلى بغداد أن البينة قامت عنده على أن الحلاج يدعي الربوبية و يقول الحلول. فحبس مدة. قال : و كان في كتبه أنه مغرق قوم نوح و مهلك عاد و ثمود ( 2 ) .
و روى عمرو بن عثمان ، فقال : كنت أماشي الحلاج يوما فقرأت شيئا من القرآن ، فقال : يمكنني أن أقول مثل هذا. و ذكر أنهم ظفروا بكتب له إلى أتباعه عنوانها : من الهو هو ، رب الأرباب ، المتصور في كل صورة ، إلى عبده فلان. و ظفروا بكتب أتباعه إليه و فيها : يا ذات اللذات ، و منتهى غاية الشهوات ، نشهد أنك المتصور في كل زمان بصورة ، و في زماننا هذا بصورة الحسين بن منصور ، و نحن نستجير بك ، و نرجو رحمتك يا علام الغيوب !. و عن أبي بكر ، جمشاد ، قال : حضر عندنا بالدينور رجل و معه مخلاة فما كان يفارقها لا بالليل و لا بالنهار. ففتشوا المخلاة فوجدوا فيها كتابا للحلاج عنوانه : من الرحمن الرحيم إلى فلان بن فلان، فوجه إلى بغداد فأحضر الكتاب و عرض عليه. فقال : هذا خطي و أنا كتبته . فقالوا له : كنت تدعي النبوة فصرت تدعي الربوبية ؟ فقال : ما أدعي الربوبية. و لكن هذا عين الجمع عندنا. هل الكاتب إلا الله و اليد فيه آلة ؟ فقيل له . هل معك أحد ؟ فقال نعم: ابن عطاء. و أبو محمد الجريري.. و أبو بكر الشبلي. و أبو محمد الجريري يتستر. و الشبلي يتستر. فإن كان فابن عطاء. فأحضر الجريري و سئل. فقال : قائل هذا كافر. يقتل من يقول هذا . و سئل الشبلي. فقال : من يقول هذا يمنع. و سئل ابن عطاء عن مقالة الحلاج. فقال بمقالته فكان سبب قتله.
سأل حامد بن العباس الوزير بنتا للسمري عن الحلاج – و كانت زوجته – فقالت : كنت ليلة نائمة على السطح فأحسست و قد غشيتني فانتبهت مذعورة ، فقال إنما جئت لأوقظك للصلاة ، فلما نزلنا قالت ابنته : اسجدي له. فقلت : أو يسجد لغير الله ؟ فسمع كلامي ، فقال : نعم إله في السماء و إله في الأرض !.
قالوا : و كان يمد يده في الهواء و يطرح الذهب في أيدي الناس. و قال أبو عمر بن الحيوة : لما خرج الحلاج للقتل مضيت في جملة الناس فلم أزل أزاحم حتى رأيته قال لصحابه : لا يهولنكم هذا فإني عائد إليكم بعد ثلاثين يوما ( 3 ) و كان يركب الأسد و يتخذ الحية سوطا و يأتي بفاكهة الشتاء في الصيف و بفاكهة الصيف في الشتاء و يخبر الناس بما أكلوه و ما صنعوه في بيوتهم ، و بما في ضمائرهم فافتتن به خلق كثير و اعتقدوا فيه الحلول . فقال بعضهم : حل فيه جزء إلهي. و قال آخرون : إنه مشعبذ و ساحر كذاب و متكهن. و كان يشير إلى جبته و يقول : ما تحت هذه الجبة إلا الله ! يعني نفسه. و قال القزويني : لما ظهر قوله : أنا الحق. أنكره الناس و تكلموا فيه و سمع منه في مثل ذلك :
عجبت منك و مني أغنيتني بك عني
أدنيتني منك حتى ظننت أنك أني
و حكي أنه قال له بعض منكريه : إن كنت صادقا فيما تدعيه فامسخني قردا. فقال : لو هممت بذلك لكان نصف العمل مفروغا له. و وجد له كتاب حكى فيه : أن الإنسان إذا أراد الحج و لم يمكنه أفرد من داره بيتا لا يلحقه شيء من النجاسات و لا يدخله أحد ، فإذا حضرت أيام الحج يطوف حوله ، و يفعل ما يفعله الحاج بمكة ، ثم يجمع ثلاثين يتيما و يعمل أجود طعام و يطعمهم في ذلك البيت و يخدمهم بنفسه فإذا فرغوا كساهم و أعطى كل واحد منهم سبعة دراهم. فإذا فعل ذلك كان كمن حج ! فلما سأله القاضي : من أين لك هذا ؟ قال : من كتاب الإخلاص للحسن البصري. فقال له القاضي : كذبت يا حلال الدم. فاتفق علماء العصر على إباحة دمه. و الإجماع دليل معصوم من الخطأ ( 4 ).
و في الآثار الباقية للبيروني : إنه صنف كتبا في دعواه مثل كتاب نور الأصل. و كتاب حم الأكبر. و كتاب حم الأصغر. عثر عليه المقتدر بالله في سنة 301 هـ فضربه ألف سوط و قطع يده و رجليه و ضرب عنقه ثم زرقه بالنفط حتى احترقت جثته. و رمي برماده إلى دجلة. و لم يتكلم بحرف فيما فعل به ! و لم يقطب وجهه. و لم يحرك شفته. و قيل إنه سمع و هو مصلوب على الخشبة يقول :
طلبت المسـتقر بكل أرض فلم أر بأرض مـــــستقرا
أطعت مطامعي فاستعبدتني و لو أني قنعت لكنت حرا
و كان الناس يقولون له عند ذلك : يا رجل ! قل لا إله إلا الله فيقول :
إن بيتا أنت ساكنه غير محتاج إلى السرج
أي أنه إذا كان هو الله لا حاجة إلى قوله لا إله إلا الله لأنه يكون توحيدا لنفسه و ما زال يكرر هذا البيت إلى أن مات .
و من كلامه قوله :
سبحان من أظهر ناسوته ســـر ســـنى لاهـوته الثاقب
ثم بدا محـتـجبا ظاهـرا في صورة الآكل و الشارب
حتـى لقـد عـاينه خلقـــــه كلحظــــة الحاجب بالحاجب
و قال أيضا :
أنا من أهوى و من أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصـرتني أبصــرته و إذا أبصرته أبصرتنا
و من كلامه لمن تابعه : من عذب نفسه في الطاعة و صبر عن اللذة و الشهوة و صفا حتى لا يبقى فيه شيء من البشرية حل فيه روح الإله كما حل في عيسى و لا يريد إذ ذاك شيئا إلا كان كما أراده. و يكون جملة فعله فعل الله ( 5 ).
و قال للذين قتلوه : أتظنون أنكم إياي تقتلون ؟. إنما تقتلون بغلة المادراني. و إن البغلة وجدت في إصطبلها مقتولة ( 6 ). و كثر شغف الناس به و ميلهم إليه حتى كانت العامة تستشفي ببوله ( 7 ).
و للحلاج مؤلفات ذكرها ابن النديم في الفهرست منها : كتاب طاسين ، و كتاب الوجود الثاني. و كتاب لا كيف. و كتاب الكيفية بالمجاز. و غير ذلك. و لم يصلنا منها شيء ، و قد ضاعت سوى كتاب طاسين فإنه موجود في المكتبة الظاهرية بدمشق.
هوامش المؤلف :
1 – الفخري لابن طباطبا.
2 – شذرات الذهب لابن العماد.
3 – تلبيس إبليس لابن الجوزي ( خط ).
4 – ابن خلكان.
5 – غرر الخصائص للوطواط.
6 – رسالة الغفران للمعري.
7 – الفخري لابن طباطبا.
توضيح آخر من ألف :
بالعودة إلى الهامش رقم 6 . يبدو لنا هذا الكلام غير دقيق. لم يكن أبو العلاء يتحرى في رسالة الغفران أخبار الحلاج. و لكنه كتب ردا على رسالة لابن القارح فنّد فيها آراءه. و هنا تناول الحلاج بذكر مختصر. و من جملة أقواله : أن هناك افتراءات على الحلاج ، و أما بالنسبة لهذه العبارة التي تتعلق بمقتله ، اعتبر المعري أنها مما افتعل عليه. و لكنه من جانب آخر هو يصنفه بين الجهلاء. بمعنى العصاة و غير الملتزمين بتصاريف العقيدة الإسلامية. و يضيف ( في الصوفية من يرفع شأنه ، و يجعل النجم مكانه ، و أن قوما ببغداد ينتظرون خروجه ). انظر الرد على الرسالة. تحقيق إسماعيل اليوسف . إصدار دار كرم بدمشق . ص 240 و ما بعد.
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |