حظر المآذن: علمانية ضاربة الجذور في الكثلكة / صبحي حديدي
2009-12-05
التصويت على حظر بناء المزيد من المآذن جرى في سويسرا، ولكنّالسجالات والأصداء انتقلت سريعاً إلى معظم أرجاء أوروبا، وهي أرض الكون المسيحي كمايتوجّب القول تحرّياً لدقّة أكبر، ما دمنا في المصطلح الديني، وفي مدلولاته. وهكذا،في فرنسا على سبيل المثال، قال استطلاع متعجّل أجرته مؤسسة 'إيفوب' إنّ 46' منالفرنسيين يؤيدون حظر المآذن، وقبلت بها نسبة 40'، ورفضت نسبة 14' الإفصاح عنالرأي. لكنّ المغزى الاهمّ للإستطلاع كان التالي: نسبة 19' فقط هي المؤيدة لبناءالمساجد، وهي النسبة الأضعف منذ ثلاثة عقود، بل هي أضعف حتى من نسبة ما بعد تفجيرات 11/9 سنة 2001 ، إذْ بلغت 22'، وهي اليوم 41'.
كذلك وجدنا وزيرة سابقة تنتمي إلىاليمين المسيحي، كريستين بوتان، تقول إنّ 'المئذنة ترمز إلى الديانة الإسلامية،ونحن لسنا في دار الإسلام'، متجاهلة تماماً أنّ الأمر ليس تناظراً بين الإسلاموالمسيحية، بل يخصّ واحداً من حقوق الإنسان الجوهرية، أي حقّ المعتقد وممارستهوالتعبير عنه بالوسائل التي يكفلها القانون. فماذا يمكن أن تقول، وسواها، لو أنّاستفتاء معاكساً جرى في القاهرة أو بغداد أو دمشق أو الرباط، وهي عواصم مسلمةبامتياز، فأفضت نتيجته (بنسبة 57.5'، كما في المثال السويسري) إلى حظر تزويدالكنائس بالأجراس، وحظر قرعها أيام الآحاد والمناسبات الدينية؟ ألا يشكل استفتاءكهذا اعتداءً على حرّية المعتقد المسيحي، في ديار الإسلام؟ وهل ستقول ردود الأفعالفي الغرب إنّ الإستفتاء خطوة ديمقراطية مشروعة، يتفق المرء معها أو يختلف؛ أمستعتبره ممارسة أصولية متشددة، منتظَرة تماماً من ديانة تعسفية لا تحترم عقائدالآخرين؟
والحال أنّ النسبة العالية للـ'نعم' السويسرية فاجأت مختلف النُخبهناك، على مستوى الساسة والمعلّقين ورجال الدين، دون أن ينسى المرء رجال المالوالأعمال والمصارف الذين أخذتهم خشية من أن يلجأ الأثرياء العرب والمسلمون إلى سحبودائعهم الخرافية كخطوة ثأرية. والمفاجأة تلك، مثل مفاجأة الإستطلاع الفرنسي، نجمتببساطة عن ذلك الشرخ المتزايد في النظر إلى الإسلام، بين تفكير النخبة ورأي الشارعالعريض، أو بالأحرى بين ما اقترفته بعض تلك النُخب ذاتها في شحن الرأي العامالشعبي، والشعبوي، وتبدو اليوم مندهشة من طبيعته ونطاقاته. كانوا على ثقة من أنّالـ'لا' هي النتيجة المرجحة منطقياً، وتناسوا أنهم كانوا طيلة السنوات الأخيرةيزرعون مشاعر الـ'نعم' في النفوس، وهم اليوم أمام الحصاد... المنطقي، بدوره.
هذهديار مسيحية لا ريب، ومن المفهوم أن يشعر المسيحيّ المتديّن البسيط ـ التقليدي أوالعصري، سواء بسواء في الواقع ـ بأخطار تتهدد ديانته، من ديانة لا يكفّ أهل النخبة،في المذياع والتلفاز والصحيفة والكتاب، عن وصفها بالمتشددة والمتطرفة والمنغلقة،فضلاً عن كونها صانعة الإرهاب. بيد أنّ هذه أيضاً، ولا ريب، بلاد ديمقراطية تعددية،وموطن أكثر من شرعة كونية لتعزيز حقوق الرأي والتعبير والمعتقد، بالإضافة إلى مااشتهرت به من حياد في الحرب كما في السلام. هل ثمة تناقض موروث ومتأصل ومستعصٍ،إذاً؟ وكيف، ومن أين ينبثق؟ وإذا كان طراز الديمقراطية السويسري، أي الاعتمادالدائم على استفتاء الشعب، قد أماط اللثام عن حقائق ذلك التناقض، فكيف يمكن أنتتكشف حقائق مماثلة في طراز آخر من الديمقراطية، في فرنسا مثلاً؟
الأكاديميالفرنسي جان ـ بول ولايم، الأخصائي في علم اجتماع الأديان، يرى أن المجتمع الفرنسيتَعَلْمَن، لكنه لم يتجرّد البتة من تديّنه، و'بقي المخيال الوطني ضارب الجذور فيالمسيحية'، بدليل ذلك الملصق الذي اختاره فرنسوا ميتيران، الرئيس الإشتراكي الوحيدفي الجمهورية الخامسة، أثناء حملته الإنتحابية: صورته واقفاً أمام كنيسة عتيقة، فيعمق الريف الفرنسي. ولهذا فإنّ المئذنة، في رأي ولايم، 'تخدش المشهد الثقافي، لتفرضتعددية دينية لا تبدو يسيرة القبول. والفرنسيون، مثل الأوروبيين، لديهم ردّ فعلسيادي، وضِيْق من العولمة الاقتصادية والثقافية والدينية. وتطرح عليه صحيفة 'فيغارو' الفرنسية ـ اليمينية، للتذكير المفيد ـ السؤال التالي: البعض يرى فيالمئذنة رمزاً سياسياً ـ دينياً، وعلامة اجتياح'، فيجيب: 'إنّ الصروح الدينية هيصيغة تعبير عن تحدّيات حيازة السلطة، إذْ كان الكاثوليك في القرن التاسع عشرمخوّلين ببناء الكنائس في الشوارع الرئيسية، وتُرك للبروتستانت أن يبنوا معابدهم فيالشوارع الخلفية والجانبية فقط'.
وبالفعل، ألم تعتبر المستشارة الألمانية أنغيلاميركل أنّ من الممكن بناء المآذن، شرط أن لا ترتفع أعلى من برج الكنيسة، حيث يُقرعالجرس؟ أليس في جوهر هذه المواقف ما يطلق عليه ولايم، دون تردّد، تسمية 'الكاثو ـعلمانية'، نسبة إلى تَكَثْلُك أو كَثْلَكة الحياة اليومية التي تبدو علمانية فيالمظهر، ولكنها في الباطن تواصل تديّنها القديم، بدليل التقويم المسيحي، والأعيادالدينية، وعادات المأكل والمشرب؟ أليست جميع الأديان التوحيدية مشتركة في صفةالأداء الشعائري للعبادات والمناسك، وبالتالي من غير الممكن بلوغ تعددية دينيةفعلية، وتعايش مشترك صادق، دون احتمال الجميع للجميع؟
بيد أنّ السجال الراهنالذي أطلقه الإستفتاء السويسري حول حظر بناء المآذن، ليس سوى تتمة هذه الأيام منسجال الحروب الثقافية وصدام الحضارات، الذي اندلع على يد صمويل هنتنغتون، واستقرّوتنامى كالفطر حتى بعد رحيله، رغم مراجعة الكثير من آرائه، وبطلان خلاصاتها. ونتذكرأنّ روسيا بوريس يلتسين، التي كانت مدججة بالفودكا السامّة والسلاح النوويوالمافيات الوحشية والفقر الرهيب، بدت في نظر هنتنغتون أقلّ خطورة بكثير من الإسلامالمعاصر، لا كدين وديانة وشعائر، بل كثقافة مرشحة أكثر من سواها لتدشين صراعالحضارات. لماذا انفرد الاسلام، وما الذي ميّزه عن سواه من الحضارات الستّ الأخرى (الصينية، اليابانية، الهندية، الغربية، الأمريكية اللاتينية، والأفريقية) التيستتصادم وتتصارع في قادم العقود؟ باختصار، أجاب هنتنغتون، لأنّ 'الإسلام حضارةمختلفة عن سواها، وأهلها على قناعة تامة بتفوّق ثقافتهم على سواها، ولأنهم مهووسونبفكرة تدنّي قوّة أبناء هذه الحضارة عن سواهم'. سواها، سواهم، وسوانا... نحن (أبناءالغرب) بطبيعة الحال.
ليس مدهشاً، إذاً، أن يعود التفكير الغربي إلى أطروحاتهنتنغتون كلّما ثارت خصومة بين الإسلام والغرب، أو بالأصحّ بين المؤسسات التي تحسنإدارة هذه المعارك وتتقن فنون تأجيجها، في الغرب كما في الشرق، وفي المسجد كما فيالكنيسة. كانت أطروحة هنتنغتون قد نهضت على القول بأنّ الثقافة والهويات الثقافيةهي التي تصنع اليوم أنساق التجانس والتنافر، والتصالح والتنازع، والسلام والحرب، فيعالم ما بعد الحرب الباردة. وثمة، هنا، خمسة تشخيصات للأنماط القادمة من حروبالبشر:
ـ السياسة الدولية، وللمرّة الأولى في التاريخ، باتت متعددة الأقطابومتعددة الحضارات في آن معاً. فالحداثة لم تعد سمة مقتصرة على الغرب، والتحديث لميعد قرين 'التغريب' أو 'الغَرْبَنة'، وبالتالي توقف عن إنتاج حضارة كونية ذاتمعنى.
ـ هنالك انتقال لتوازنات القوّة بين الحضارات: الغرب يضمحل تأثيره،والحضارات الآسيوية تتوسع في جانب اقتصادياتها بصفة خاصة، ولكن في جبروتها العسكريوالسياسي أيضاً، والإسلام ينفجر ديموغرافياً ويترك عواقب تهدد استقرار البلدانالمسلمة وجيرانها أيضاً. باختصار، الحضارات غير الغربية تعيد التشديد على قيمثقافاتها، والحضارة الغربية تتلكأ أو تتباطأ.
ـ لا مناص من أن يفضي هذا التشخيصالأخير إلى النبوءة، واحتمالات انبثاق نظام عالمي جديد (نعم: نظام عالمي جديد، غيرذاك الذي انتظرناه بعد حرب الخليج الثانية!) قائم على أسس حضارية. وأما معادلتهالمركزية فهي التالية: المجتمعات التي تشترك في الخصائص الثقافية تتعاون مع بعضهاالبعض، والبلدان هذه تتمحور حول البلد أو المركز الذي يمثّل قلب الحضارة ورمزها،وفي غمرة ذلك كله سوف تبوء بالفشل جميع الجهود لرأب الصدع بين الحضارات وتقريبالخصائص الثقافية المبعثرة.
ـ لا مناص، أيضاً وبالتوازي، من تكاثر الدينامياتالتي تحتّم اصطدام الكونية الثقافية الغربية (بوصفها المركز الأفضل لرأب الصدع بينالحضارات) مع الكونيات الثقافية لحضارات أخرى، في طليعتها الإسلام بطبيعة الحال. أكثر من هذا، سوف ينفرد الإسلام بإطلاق تلك الصراعات الداخلية الدامية، أي تلك التيلن تدور بين ثقافة إسلامية وأخرى غربية أو صينية أو أمريكية ـ لاتينية مثلاً، بلبين الإسلام وحده من جهة، والثقافات 'اللا ـ إسلامية' أياً كانت، من جهةثانية.
ـ التشخيص الخامس هو بيت القصيد، لأنه في الواقع لائحة نصائح سردهاهنتنغتون ليس فقط من أجل أن لا ينهزم الغرب في معركة الحضارات الطاحنة (وهذه يفهمهاالمرء، فالرجل أمريكي، غربي، ابن التراث اليهودي ـ المسيحي كما يتقابل مع تراثاتأخرى إسلامية أو صينية أو هندية)؛ ولكن أيضاً من أجل أن... يهزم سواه (وهذه يصعبفهمها، في ظلّ دعوة هنتنغتون إلى مركز ثقافي كوني يتسع لجميع الحضارات وجميع أبناءالبشر). والمثير هنا أن نجاة الغرب بأسره تعتمد على مدى نجاح الولايات المتحدة فيتأكيد هويتها الغربية من جانب أوّل، ونجاحها في جعل الغربيين يقتنعون بأن هويتهمالحضارية فريدة Unique وليست كونية Universal من جانب ثانٍ، قبل الإنتقال إلىالخطوة اللاحقة الطبيعية: التحالف الأمريكي ـ الغربي لمواجهة الحضاراتالأخرى.
ومن نافل القول إن تشخيصات هنتنغتون تلك محقت عدداً من النظريات التيسادت ذات يوم وراجت، ونهضت على هذه الصيغة أو تلك من فكرة العوالم المتقابلة: الغربأمام الشرق، الشمال أمام الجنوب، الأغنياء أمام الفقراء، العالم المصنّع أمامالعالم ما قبل الصناعي، الدول المتقدمة أمام الدول النامية، المركز أمام الأطراف،وأخيراً 'دار الحرب' أمام 'دار السلام'. أيضاً، هي تشحيصات نسفت نظرية انقسامالعالم إلى 'مناطق سلام' و'مناطق اضطرام' (زبغنيو بريجنسكي)، ونظرية الجحيم في قلبالفردوس المفقود (دانييل باتريك موينيهان)، ونظرية سيناريو الكابوس الروسي ـالأوكرايني (جون ميرشايمر)؛ وكانت، أصلاً، قد نسفت نظرية انتهاء التاريخ (فرنسيسفوكوياما)...
فإذا كان الإسلام، مثل اليهودية والمسيحية، نتاج المشرق وعقيدةمئات الملايين في مشارق الأرض ومغاربها؛ فإنّ الفاشية نتاج أوروبي صرف، انفلت منعقاله الفكري والفلسفي ذات يوم، فامتدّت عواقبه الكارثية إلى مشارق الأرض ومغاربها. ألم يكن كافياً أن يستعير الغرب وحدهم، والإسلام حصراًمصطلح 'الأصولية' من التراث الديني والفقهي اليهوديـ المسيحي الغربيّ، لكي يصبح مقتصراً على تشدّد المسلمين ؟ألا يقول سياسي يهودي مثل دانييل كوهن ـ بنديت، أحد أبرز زعماء الخضر في ألمانياوفرنسا، إنّ على سويسرا إعادة التصويت، وإنّ النقاش الفرنسي حول هوية وطنية خالصةهو مدخل إلى الفاشية؟ وفي المقابل الجدلي، ألا يقول التصويت السويسري إنّ قِيَمالحقّ والحرّية والتعدد والاختلاف أمر؛ وبناء مئذنة أخرى في زيورخ ـ واستطراداً: فيباريس وبرلين وبروكسيل... ـ أمر آخر مختلف، كلّ الاختلاف؟
' كاتب وباحث سورييقيم في باريس