النبي والسياسي والفيلسوف والمربي
2008-05-18
" ان المشكل ليس في تغيير وعي الناس أو ما يوجد في أذهانهم بل تغيير النظام السياسي والاقتصادي والمؤسسي لإنتاج الحقيقة"
ميشيل فوكو
ليس هناك حقيقة واحدة عند فوكو واحد من مفكري ثورة طلاب سنة 1968 بفرنسا بل عدة حقائق والسبب هو وجود عدة استراتيجيات تقف وراء إنتاج هذه الحقائق، إذ أن كل حقيقة من إنتاج سلطة وكل سلطة وراءها نظام للخطاب ، كما أنه يوجد اقتصاد سياسي للحقيقة والمسألة السياسية هي الحقيقة ذاتها وليست الوهم أو الإيديولوجيا.
ويحدد فوكو خمس خصائص للاقتصاد السياسي للحقيقة:
- الحقيقة تنتجها المؤسسات ومتمركزة في الخطاب العلمي الرسمي الذي يدعي الموضوعية .
- الحقيقة موضوع تحريض من طرف السلطة السياسية واستثمار من طرف السلطة الإنتاجية الاقتصادية.الحقيقة موضوع بث واستقبال ونشر واستهلاك وتعليم وتداول بين المربين والمتعلمين وبين المؤسسات والمستفيدين من خدمات هذه المؤسسات ضمن النظام التأديبي الانضباطي.
- إنتاج الحقيقة ونقلها وإيصالها يخضع لنظام من الرقابة والانتقاء والتوجيه والتأطير من طرف الأجهزة الاقتصادية والسياسية من أجل استخدامها في السيطرة وتحقيق المصلحة.
- الحقيقة تظل موضوع صراع اجتماعي ومجال للتنافس السياسي من طرف مختلف الفئات والشرائح من أجل توظيفها واستعمالها لأغراض غير معرفية.
هذه الخصائص تسمح بتعريف الحقيقة من طرف فوكو على النحو التالي:" نعني بالحقيقة مجموعة من الطرائق المنظمة من أجل الإنتاج والقانون والتوزيع والتداول واشتغال المنطوقات".
لكن المشكل هو من يقول الحقيقة ومن ينتجها والى من يوصلها وهل يوصلها الى المتقبل على نحو حقيقي؟
ان إرادة الحقيقة بوصفها إرادة قوة هي الأمر الذي قلما يتحدث عنه حسب فوكو رغم كونه واضحا وضوح الشمس لأن التاريخ بأسره يعلمنا أن المؤسسات هي التي تقف وراء منظومات الانتقاء والإبعاد والاستعمالات النفعية للمعرفة. لكن من هي الذات التي تقدر على قول الحقيقة؟ وألا ينبغي أن تتحلى بالشجاعة حتى تظل وفية لقول الحقيقة مهما كانت المخاطر ومهما ارتفع الثمن المدفوع؟
يعدد فوكو علاقة الحقيقة بالذات مميزا بين القول الحق والقول الصريح وقول كل شيء عن الذات القائلة ويرى أن قول الحقيقة الى الآخر عادة ما يعصف بالعلاقة مع هذا الطرف الأخير ويؤدي الى نتائج عكسية وكأن قول الحقيقة عن الذات هو اعتراف للآخر بالذنب وطلبا للبراءة الأصلية.
لكن ماهي الشروط التي تجعل من الذات قائلة للحقيقة بالفعل وليس بالمجاز؟ وماذا ينبغي أن تفعل أمام الآخرين لكي يعترفوا لها بأنها قائلة للحقيقة؟
فوكو يرى أن النبي والمربي والفيلسوف والسياسي هم الذين يقولون الحقيقة ولكن كل بطريقته ومن أجل مصلحته ومقاصده ضمن منطق سياسة المعرفة وبالتالي يميز مفكر ثورة 68 بطريقة بارعة بين قول الحقيقة النبوية وقول الحقيقة الفلسفية وقول الحقيقة السياسية وقول الحقيقة التعليمية.
*النبي هو وسيط بين الله والناس وبين الحاضر والمستقبل وهو إنسان يقول الحقيقة ولكن لا يتكلم باسمه الخاص بل يخاطب الناس بخطاب الهي ويعبر عن صوت آخر وهو صوت الماوراء وأيضا يقوم بالكشف والتوضيح ويعري الأكاذيب ويحطم الأوثان ولكن يستعمل أحيانا أسلوب رمزي غامض يحتاج بدوره الى توضيح وإبانة حتى تفهم رسالته.
كما يرى أنه لكي تكون الذات النبوية قادرة على رؤية الحقيقة وقولها ينبغي أن تقطع مع عالم الخطأ والوهم تبلغ عالم الجواهر الخالصة والماهيات الخالدة وتنتقل من عالم الظلمات والفناء الى عالم النور والصواب.
*الفيلسوف يتكلم باسمه هو كجزء من عالم البشر ويعتمد على الشك والنقد والوعي بالجهل والجدل والممارسة ليفسر ماهو كائن بالفعل ويهتم بفهم ماهو موجود ويأتي بشكل متأخر عند حلول الليل يتعقب التاريخ ليقول حقيقة ماحدث وبالتالي يختلف عن النبي لكونه لا يتكلم باسم غيره وليست مهمته منحصرة في أن يقول ما ينبغي أن يكون ولا يستعمل لغة غامضة ورمزية بل يتكلم بوضوح وبشكل مباشر بحيث تعبر ذاته عن قدرتها على قول الحقيقة الفلسفية.
* السياسي يغامر ويمتلك الشجاعة ليقول الحقيقة التي يراها صحيحة من وجهة نظره هو ويرى فوكو أنه يختلف عن النبي الذي يتكلم باسم الله بينها هو يتكلم باسم المدينة، كما أنه يختلف عن الفيلسوف الذي يكتفي بتفسير ماهو كائن بل هو مطالب بأن يقول ما ينبغي أن يكون وأن يحدد الحقيقة الجمهورية التي ترسي النظام الذي يحقق الصالح العام والخير المشترك للمدينة.
* المربي يقول الحقيقة وهو الأستاذ والملقن وكل من يملك معارف ومهارات وله القدرة على تعليمها للآخرين ومن واجبه التبليغ والتلقين ويجب أن يقيم علاقات صداقة وتعاطف تصل الى حد إبهار وإعجاب مع مريديه من أجل أن يتقاسم معه المعرفة المشتركة.
نستخلص اذن أن الذات القادرة على قول الحقيقة النبوية والفلسفية والسياسية والتعليمية هي التي تتحلى بصفة الشجاعة والاستطاعة والالتزام والوفاء للحقيقة وأن سقراط هو الشخصية الفريدة التي جمعت بين خصال النبي والفيلسوف والسياسي والمربي والمدهش أن سقراط لم يكتب,
اللافت للنظر أن النبي يمكن ان يكون مربيا وسياسيا ناجحا مثل الرسول محمد صلعم بينما الفيلسوف قد يمارس السياسة ويفشل وتثور نظرياته أحيانا ضد منطق التربية والانضباط والتأديب كما هو الشأن مع فوكو نفسه، ويقوم الفيلسوف بتشخيص الواقع ونقده ويعمل على تغييره لأنه سيحدد سياسات المعرفة والاقتصاد السياسي للحقيقة وسيقوم بالتشريع لنفسه والتكلم بلسانه عن الوجهة الممكنة للتاريخ.
فهل معنى ذلك أن الدين والفلسفة والسياسة والتربية هي أنماط مختلفة لقول الحقيقة؟ الى أي مدى تكون الفلسفة هي الحقيقة الحقيقية والتي يمكن لها أن تقول حقيقة كل من الدين والسياسة والتربية؟ ألم يعترف فوكو أن منزلة الفيلسوف تفوق من حيث الدرجة منزلة النبي والسياسي والمربي؟ لكن اذا كان الأمر يستقيم مع السياسي باعتبار أن السياسة هي فن الكذب والخداع فكيف يستقيم مع الدين والنبوة باعتبارها موضع قداسة واصطفاء؟ ألا تذكرنا هذه المقارنة بين النبي والفيلسوف بما قام به الفارابي في آراء أهل المدينة الفاضلة عندما جعل مرتبة الفيلسوف أفضل لأنه يتلقى الأنوار بالعقل ويبين الحقيقة بالبرهان والحجة الواقعية بينما يتلقى النبي الوحي عن طريق المخلية ويستعمل المحاكاة والتمثيل للتوضيح والتفهيم ونحن نعلم أن العقل أشرف من المخيلة؟
لكن ما سبب فشل الفلاسفة عندما يمارسون السياسة؟ وفي المقابل لماذا نجح العديد من الأنبياء في بناء الحضارة ونشر روح التمدن وإخراج مجتمعاتهم من الظلام الى النور؟ واذا كان العرب والمسلمون يعيشون في عصر ما بعد ختم النبوة وملوا من السياسوية التي يتبعها حكامهم فماذا عساهم ينتظرون؟ هل ينتظرون قدوم الفيلسوف الغائب الذين فقدوه منذ ابن رشد أم المشرع المربي الذي يتيح لهم عملية العود على بدء والاستئناف الحضاري؟
* كاتب فلسفي
08-أيار-2021
05-تشرين الأول-2019 | |
10-آب-2019 | |
13-شباط-2010 | |
12-تشرين الأول-2009 | |
23-أيلول-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |