والمهزوم يكتب التاريخ أيضاً
خاص ألف
2010-01-10
تثير اليوم بعض الكتب المؤرٍّخة للمنطقة الشرقية حفيظة العديد من المثقفين والعارفين بخفايا هذا التاريخ كما تثير تساؤلاتهم حول المنهج والدوافع التي يُكتب بها هذا التاريخ منذ العديد من السنوات، وقد كان لدى هؤلاء ملاحظات هامة ومنطقية، يصل بعضها إلى حد الاستهجان إزاء سذاجة التأريخ لدى بعض العاملين في هذا المجال وقبولهم الحادثة التاريخية دون تدقيق، وكذلك محاولات بعضهم الآخر تزييف الوقائع أو المبالغة بها وصناعة بطولات وأساطير في النضال والرجولة، خدمة لأغراض عائلية أو عشائرية أو مادية.
ما لا شك فيه أن هذه المنطقة قد شهدت، عبر تاريخها الطويل، مآثر وبطولات لا تحصى، وكان إسهامها الوطني والقومي عفوياً وأصيلاً، بل كان أهلها دائماً في قلب المعارك الدائرة حول هوية الوطن وكرامته، كما يمكن اعتبار الكثير من أبنائها من طينة الأبطال، ولكن علينا في الوقت نفسه أن لا نقع بخطأ تحويلهم، أثناء الكتابة عنهم، إلى أيقونات وأساطير وملاحم شعبية، فهم بشر، وكانت لهم أخطاؤهم وهفواتهم ونزواتهم.
بالمقابل لم يخلُ الأمر من كتابات نزيهة، اجتهدت كثيراً لنقل التاريخ بأمانة ومنهجية، متخففة إلى حد بعيد من الأهواء والمصالح، وعليه فقد كان هناك من يتروى في تقديم الحادثة التاريخية ويعمل عليها تمحيصاً وتقليباً قبل إعلانها للناس، وكان عبد القادر عياش أحدهم.
للأسف بقي هؤلاء المؤرخون قليلو العدد وبقيت تأثيرات كتاباتهم محدودة ولم تصبح بعدُ عادة أو تقليداً في التوثيق، إذ ما زال (التأريخ التجاري) هو السائد، وما زلنا نطالع كتباً وأبحاثاً لا تحتاج إلى جهد كبير ليكتشف قارئها عدد المرات التي وقع فيها الكاتب بالفخاخ العشائرية أو العائلية أو غيرها.
من هنا فقد بات الكثير من المهتمين بالشأن العام، ثقافة وتاريخاً، يستقبلون بحساسية خاصة ما يؤرخ له اليوم، فدروس التأريخ السابقة علمتهم كيف قد قام بعضهم بالتجوال على شخصيات عشائرية لإقناعها بدعم مشاريعهم (التاريخية)، مالياً، مقابل كتابة ما يريدونه أن يُكتب.
كذلك عمد آخرون إلى صنع تاريخ خاص بهم، في السياق العام لتاريخ المنطقة، فجعلوا من عشائرهم وعائلاتهم أسياد وشيوخ هذا البلد، والمحزن أن منهم من كان يتشدق بالعلمانية ويرفض، في الطالع والنازل، فكرة التخندق وراء المذهب والعشيرة والطائفة.
ثمة أيضاً من حوّل بعض البطولات الفردية، العفوية والنابعة من ردود الفعل، أثناء مقاومة الاستعمار، إلى حركة ثورية ناضجة لا تنقصها الأهداف والبرامج السياسية، وهو بهذا كان يكتب التاريخ بطريقة (عاطفية) تفتقر إلى المنهج العلمي الذي كان يعمل عليه ابن خلدون قبل ما يقارب الألف عام.
كل هذا، وغيره، بات معروفاً للكثيرين، أفلا يستدعي وقفة، منا ومن غيرنا، لتفحص ما يؤرخ له عن هذه المنطقة؟
ثمة من سيعترض على هذا الكلام، وعلى تشكيكنا بالمادة التاريخية التي يقدمها لنا بعض الكتّاب، وهذا من حقه، ولكن حجتنا ستتمحور حول السؤال التالي:
كيف أستطيع قبول مادة تاريخية بعينها، فيما هي نفسها ترد على لسان الناس بأكثر من رواية، وبأشكال وأسماء ووقائع مختلفة؟
بمعنى آخر، لماذا يُطلب منا أن نقبل المقترح التاريخي الذي يتقدم به فلان من الناس، حتى وإن كان كاتباً، فيما تعج الذاكرة بمقترحات تاريخية أخرى؟
الإشكالية الكبرى التي تعترض كتابة تاريخ المنطقة الشرقية هو اعتمادها في أغلب الأحيان على الشفاهية، إذ أن تدوين الأخبار والوقائع لم يكن حتى وقت قريب عادة (شرقية)، لذا كان على الباحثين والمؤرخين التقاط مادتهم التاريخية من شفاه وذاكرة الناس، وهذه الفترة أسميها بمرحلة (النقل)، وهي مرحلة هامة جداً، ولكنها تحتاج منا اليوم إلى تفحص وغربلة.
منذ سنوات كنت شاهداً على محاولة قام بها أحد الأصدقاء لتوثيق حادثة سياسية جرت في دير الزور في الخمسينيات من القرن الماضي (وما زال معظم شهودها أحياء)، فوجه سؤالاً محدداً لعشرة من هؤلاء الشهود، وكانت المفاجأة، بعد إجراء التقاطع بين الإجابات، أن الشهود العشرة لم يتفقوا مع بعضهم إلا بنسب قليلة، بل كانت هناك رائحة (شخصية) في معظم إفاداتهم..
هذا مثال عن محاولة لتأريخ حادثة جرت منذ وقت قريب، فكيف هو الحال عندما نتصدى لتأريخ ما هو أبعد من ذلك زمناً، سيما وقد مات جميع شهودها؟
يروي أحد (المتربصين بالتاريخ) كيف اتصل أحد (كتبة التاريخ) بإحدى الشخصيات العشائرية البارزة طالباً منها سيارة ومالاً ليجوب المحافظات محاضراً في بطولات جدّه، وكيف أقدم هذا الكاتب نفسه، في أحد أبحاثه، على شطب شخصية عشائرية بارزة من سجل إحدى المآثر الوطنية ليثبت بدلاً عنها شخصية أخرى، هي الجدّ المباشر لأحد المسؤولين في ذلك الحين.!!
قيل بأن التاريخ يكتبه المنتصر، وهذه حقيقة لا جدال فيها، ولكن ألا يحق لنا، نحن المهزومين أمام هؤلاء الكتبة، أن ندقق ونشكك في هذا التاريخ، وأن نكتبه، ذات يوم، وإن على طريقتنا المزعجة؟
بشير عاني
×××××
نقل المواد من الموقع دون الإشارة إلى المصدر يعتبر سرقة. نرجو ممن ينقلون عنا ذكر المصدر.
في المستقبل سنعلن عن أسماء جميع المواقع التي تنقل عنا دون ذكر المصدر
ألف
08-أيار-2021
12-آذار-2016 | |
21-تموز-2012 | |
05-تموز-2012 | |
05-حزيران-2012 | |
24-آب-2011 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |