ما السبيل الذي يلجأ إليه الموهوب في هذا الزمن - أديباً أو فناناً - ليوازن بين مهنة تخص موهبته وبينَ حريته الشخصية في ممارسة هذه المهنة؟ وكيف تؤثر المهنة على الموهبة؟

كثير من أدبائنا وفنانينا ومبدعينا امتهنوا مهناً أخرى لكي يؤمِّنوا ما يكفل لهم عيشهم، فكيف أثرت هذه المهنة على حريتهم في كتابة ذواتهم أو رسم عوالم فنهم بريشة الحلم الشفافة؟

هناك موهوبون يتعذبون على أرصفة العالم، جميعنا نعلم ضرورة القلق كعامل للإبداع، ولكن ماذا عن قلق الخبز؟ موهوب لديه عالم سحري يعيشه بإحساسه وأحلامه ويريد أن يبحر فيه عبر الورق أو اللوحة أو غيرهما، هذا الموهوب لا يجد المادي من الحياة! فهل يحيا الحلم دائماً دون المادة دونَ راحة جسدية واطمئنان إلى أنه سيصحو في اليوم التالي ليجد قهوته وطعامه وخروجه مع من يحب، في هذه الحالة، إما سيتقوقع على نفسه ويدخل في اكتئاب يحرمه المادي والحلم معاً، أو يعدم الحلم بمشنقة الحاجة والجوع أو يستخدم طريقة ما توازن له الاثنين معاً في عالم لم يعد متوازناً، لكن لا بد أن يؤثر أحدهما على الآخر على الرغم من التوازن المفترض، لأنه ما من شيء في الكون لا يؤثر أو يتأثر بآخر.

على طاولة هذا الواقع الصعب، سألنا العديد من كتابنا ومبدعينا، فكان بوح المعاناة باختلاف مستوياته.

أفضِّّل العمل ناطوراً:

عبد القادر الحصني - شاعر ومدير تحرير مجلة الموقف الأدبي - يرى أن مهنته كصحفي أثرت سلباً على موهبته كشاعر، فلو أنه لم يكن صحفياً لاشتغل على مشروعه الشعري أكثر، وقال لي بحزن: (أتمنى أن أعمل ناطوراً في قلعة مهجورة أفضل من عملي في الصحافة، إلا أن الصحافة تؤمن لنا علاقات تساعدنا على النشر والاحتكاك بالأوساط الأدبية).

لا تؤثر الصحافة دائماً:

رئيس تحرير مجلة يرى أن الصحافةَ لا تتعارضُ مع الموهبة، بل على العكس، فإذا نجح الإنسان في مجالٍ من مجالاتِ الحياةِ، فإن هذا النجاحَ يتيحُ نجاحاً لموهبته، ويضيف: (أما المهنة الآلية البعيدة عن الكتابة أو عن طبيعة الموهبة تتيح للمبدعِِ أن يفصل بين عمله وموهبته وتأمله بسهولة، بل إن هذه المهنة البعيدة عن الموهبة تتيح له مزيداً من التأمل الذي يخدمه في مزاولته لعمله الإبداعي بشكل حر).

عدم الشعور بالخسران:

نضال بشارة - شاعر وصحفي يعمل في صحيفة تشرين، ويكتب لصحف عربية أخرى - صدر له ديوانان: (صباحات متأخرة) و(تحنو على نفسها) - تحدث عن هذه المعاناة بين الصحافة والشعر: (أول ما نقرأ في تأثير الصحافة على الموهبة الشعرية أو على ما تنجزه هذه الموهبة، أنها تأخذ من صاحب الموهبة الشعرية حيزاً كبيراً من وقته لما يتطلبه العمل فيها من جهد ومتابعة، لأن طبيعة العمل الصحفي تتطلب الإنجاز السريع للمواكبة، الأمر الذي يستدعي من الشاعر الصحفي أن يخصص معظم وقته للعمل وينأى لا إرادياً عن تخصيص الوقت للتأمل وقراءة الشعر وكتابته. وإشغال المرء لقدراته الذهنية بالعمل الصحفي سيخفف تلقائياً من حضور الهاجس الشعري عند الشاعر، وطغيان الهاجس الصحفي، خصوصاً وأن مناخ العمل الصحفي لدينا غير مستقر في كثير من نواحيه ولا يساعد أحداً على تنظيم وقته، فضلاً عن ضرورة العمل مضاعفاً لتحقيق دخل مادي يفي بضرورات العيش، كالكتابة في أكثر من منبر إعلامي. وعلى الرغم من ذلك لم يعد لدي هذا الشعور بالخسران منذ سنوات، لأنني بت أعتقد أن العمل الصحافي إن لم يغن نصي الشعري، فهو يتقاطع كثيراً مع هدف الشعر الذي غايته تجميل الحياة ومحاولة للارتقاء والسمو بنا كبشر، وهل غير هذا ما نريده من العمل الصحفي؟ لكن الفارق أننا في الشعر نقوم به من وجهة نظرنا فقط، وفي الصحافة نقوم به بمشاركة الآخرين وجهة نظرهم، أو بمحاولة تقويم مساهماتهم، طبعاً وفق معرفتنا دون أي ادّعاء).

الآني والعابر:

القاصة والصحفية في جريدة الثورة سوزان إبراهيم تقول: (الصحافة لهاث وراء الآني العابر، والأدب يكتب ليبقى. تدعوك الصحافة للانخراط بالواقع أكثر مما يحبذ الأدب، إن لم تتقن حساب تكافؤ طرفي معادلة الأدب والصحافة، فإن للصحافة قدرة كبيرة لجر قلمك إلى شواطئها، خاصة وأنها أسرع من الأدب في الوصول إلى القارئ، أما الأديب فيتحصن خلف منبر لإغراء الجمهور، وبسبب الوقت العصيب الذي يعانيه الكتاب لتسويقه، تبقى الصحافة الفائز في السباق. الصحافة الأدبية أقرب مجالات الصحافة إلى الأدب، ولعل ذلك ما حدا بي للتوجه كلياً إليها قبل وقت ليس بقصير. القارئ السوري يتابعني كصحفية أكثر مما يفعل معي كأديبة).

مهنة مفروضة:

في تكية السلطان سليم في دمشق، حيث تنتشر الدكاكين التي تبيع اللوحات الفنية ذات الصبغة الدمشقية القديمة، والتي يقبل عليها السياح بكثرة، رسام شاب اسمه (دوسيان) فوجئت بجلوسه منهكاً على حافة البحيرة الجميلة التي تتوسط المكان، فسألته:

هل أنت موظف هنا أم متدرب أم تقوم بالرسم كهواية؟

لا، بل الرسم مهنتي الوحيدة.

لاحظت أن لوحاتك كلها متشابهة - كلها عن الحارات الدمشقية القديمة - هل الأمر يتعلق بذائقتك التي لا تخرج عن هذا النمط؟

هذا هو المطلوب في السوق.

إذاً أنت لا ترسم ذاتك وما تحبه دائماً؟

لا، بل لأن مرتادي محلاتنا يرغبون بهذا اللون دون غيره.

إذاً لم تتح مهنة (دوسيان) الفنية حرية إطلاقه لموهبته ليكون حراً، وهو ككل الشباب الجدد يبحث عن فرصةٍ تؤمن له دخلاً مادياً حتى يملك مرسماً في المستقبل يطلق فيه العنان لموهبته دون إرشاد أحد.

إعدام الموهبة:

القاص ورئيس تحرير جريدة شرفات الشام ومدير المكتب الصحفي في وزارة الثقافة (نجم الدين سمان) يرى أن الصحافة تقوم بما يشبه الإعدام لموهبته الخاصة، وكتاباته الذاتية، ويقول: (لا سبيل أمامنا، فالأدب لا يطعم خبزاً، الصحافة هي التي تطعم الخبز، والصحافة تحرمني من أن أزاول كتابتي الحرة).

الصحافة ثم الشعر:

الصحفي والشاعر عمر الشيخ يقول: (تؤثر الصحافة على مشروعي الشعري، فالكتابة الصحفية تستنزف كتابة الشاعر، وبالنسبة لي سأترك الصحافة لو تهيأ لي دخل مادي مناسب لأتفرغ للشعر، أما في الوقت الراهن فالصحافة أولاً ثم الشعر بالنسبة لي).

تعددت المواقف والواقع واحد:

في النهاية يبقى الأمر شخصياً، ويختلف بين مبدع وآخر، كما لاحظنا من خلال الآراء السابقة، صحيح أن الواقع القاسي يرفض المبدعين، ويفرض عليهم ما يريده في عصر الآلة والأرقام، لكن يستطيع الإنسان بسبب طبيعته النفسية والبيولوجية أيضاً أن يتأقلم مع الواقع ويرفض ويفرض ما يريد، لأن الصحافة أو احتراف الفن يصبحان مع مرور الوقت أمراً روتينياً بحيث يفصل المبدع بحنكته وذكائه وصبره بينهما بدليل أن من المبدعين العالميين عملوا في الصحافة لسنوات طويلة مثل ماركيز وسيفيريس (الشاعر اليوناني) وكلاهما حاز جائزة نوبل، ومحمود درويش وأحمد دحبور وممدوح عدوان ومحمد عمران وغيرهم.

المهم أن يكون المبدع هو هو، ولا بد أن يعيش تجاربه كلها مهما كانت قاسية، أن يعيش حياته كمبدع حياة لا مبدع أرقام دون تكلف، لا بد أن يحب نفسه وإبداعه وحياته.

ترى من سيكسب الرهان؟ المهنة أم الفن؟ الواقع أم الموهبة؟ ليكن ما يكون، فالفن موجود وسيبقى، مهما عمل المبدعون.

مجلة أبيض وأسود

العدد: 342