Alef Logo
نص الأمس
              

من مقامات الحريري / المقامة المعَرّيَّة

ألف

2010-02-08

أخبرَ الحارِثُ بنُ هَمّامٍ قال: رأيتُ منْ أعاجيبِ الزّمانِ. أن تقدّم خَصْمانِ. الى قاضي مَعرّةِ النّعمانِ. أحدُهُما قدْ ذهَبَ منْهُ الأطْيَبانِ. والآخَرُ كأنّهُ قَضيبُ البانِ. فقال الشيخُ: أيّدَ اللهُ القاضيَ. كما أيّدَ بهِ المُتقاضيَ. إنّهُ كانَتْ لي مَمْلوكَةٌ رَشِقَةُ القدّ. أسيلَةُ الخدّ. صَبورٌ على الكدّ. تخُبّ أحْياناً كالنّهْدِ. وترقُدُ أطْواراً في المهْدِ. وتجِدُ في تمّوزَ مَسَّ البَرْدِ. ذاتُ عقْلٍ وعِنانٍ. وحدٍ وسِنانٍ. وكفٍّ ببَنانٍ. وفمٍ بلا أسْنانٍ. تلْدَغُ بلِسانٍ نَضْناضٍ. وترْفُلُ في ذيْلٍ فضْفاضٍ. وتُجْلى في سَوادٍ وبَياضٍ. وتُسْقَى ولكِنْ منْ غيرِ حِياضٍ. ناصِحَةٌ خُدَعَةٌ. خُبَأةٌ طُلَعَةٌ. مطْبوعَةٌ على المنفَعَةِ. ومطْواعَةٌ في الضّيقِ والسَّعَةِ. إذا قطَعَتْ وصَلَتْ. ومتى فصَلتَها عنْكَ انفَصَلَتْ. وطالَما خدَمَتْكَ فجمّلَتْ. وربّما جنَتْ عليْكَ فآلَمَتْ وملْمَلَتْ. وإنّ هذا الفَتى استَخْدَمَنيها لغرَضٍ. فأخْدَمْتُهُ إيّاها بِلا عِوَضٍ. على أن يجْتَنيَ نفْعَها. ولا يُكلّفَها إلا وُسْعَه. فأوْلَجَ فيها مَتاعَهُ. وأطالَ بها استِمْتاعَهُ. ثم أعادَها إليّ وقدْ أفْضاها. وبذَلَ عنْها قيمَةً لا أرضاها. فقال الحَدَثُ: أمّا الشيخُ فأصدَقُ منَ القَطا. وأما الإفْضاءُ ففَرَطَ عنْ خَطا. وقدْ رهَنْتُهُ. عن أرْشِ ما أوْهَنْتُهُ. ممْلوكاً لي مُتناسِبَ الطّرَفَينِ. مُنتَسِباً الى القَينِ. نقِيّاً منَ الدّرَنِ والشَّينِ. يُقارِنُ محلُّهُ سَوادَ العينِ. يُفْشي الإحْسانَ. ويُنْشي الاسْتِحْسانَ. ويُغْذي الإنْسانَ. ويتَحامَى اللّسانَ. إنْ سُوّدَ جادَ. أو وَسَمَ أجادَ. وإذا زُوّدَ وَهَبَ الزّادَ. ومَتى اسْتُزيدَ زادَ. لا يستَقِرّ بمَغْنى. وقلّما ينكِحُ إلا مَثْنى. يسْخو بمَوجودِه. ويسْمو عندَ جودِهِ. وينْقادُ معَ قَرينَتِهِ. وإنْ لمْ تكنْ منْ طينَتِهِ. ويُستَمْتَعُ بزينَتِهِ. وإنْ لمْ يُطْمَعْ في لينَتِه. فقال لهُما القاضي: إمّا أن تُبينا. وإلا فَينا.فابْتَدَر الغُلامُ وقال:








أعارني إبرَةً لأرفـوَ أطْـمـا


راً عَفاها البِلـى وسـوّدَهـا

فانخرَمَتْ في يَدي على خطَـإٍ


منّيَ لمّا جذَبْتُ مِـقـوَدَهـا

فلمْ ير الشيخُ أن يُسامِحَـنـي


بإرْشِـهـا إذْ رأى تـأوُّدَهـا

بلْ قال هاتِ إبرَةً تُماثِـلُـهـا


أو قيمَةً بعْدَ أن تـجـوّدَهـا

واعْتاقَ ميلي رَهْناً لـدَيْهِ ونـا


هيكَ بـه سُـبّةً تَـزوّدَهــا

فالعينُ مَرْهَى لرَهْـنِـه ويدي


تقصُرُ عنْ أن تفُكّ مِروَدَهـا

فاسبُرْ بذا الشّرْحِ غوْرَ مسكَنتي


وارْثِ لمنْ لم يكُنْ تعـوّدَهـا


فأقبلَ القاضي على الشيخِ وقال: إيهٍ. بغَيرِ تمْويهٍ! فقال:










أقسَمْتُ بالمَشْعَرِ الحَرامِ ومنْ


ضمّ منَ الناسِكينَ خَيْفُ مِنى

لوْ ساعَفَتْني الأيّامُ لمْ يرَنـي


مُرتَهِناً مِيلَهُ الذي رَهَـنـا

ولا تصدّيتُ أبتَـغـي بـدَلاً


منْ إبرَةٍ غالَها ولا ثَمَـنـا

لكِنّ قوْسَ الخُطوبِ ترْشِقُني


بمُصْمِياتٍ منْ هاهُنا وهُنـا

وخُبْرُ حالي كخُبْرِ حالـتِـهِ


ضُرّاً وبؤساً وغُربَةً وضَنى

قد عدَلَ الدهْرُ بينَنـا فـأنـا


نظيرُهُ في الشّقاء وهْوَ أنـا

لا هُوَ يسْطيعُ فـكّ مِـروَدِهِ


لمّا غدا في يَدَيّ مُرتَهَـنـا

ولا مَجالي لِضيقِ ذاتِ يَدي


فيهِ اتّساعٌ للعَفْوِ حينَ جَنـى

فهَذِهِ قصّتـي وقـصّـتُـه


فانْظُرْ إلَيْنا وبينَنـا ولَـنـا



فلمّا وعَى القاضي قَصَصهُما. وتبيّنَ خَصاصَتَهُما وتخَصُّصَهُما. أبرَزَ لهُما ديناراً منْ تحْتِ مُصَلاُّه. وقال لهُما: اقْطَعا بهِ الخِصامَ وافِصلاهُ. فتلقّفَهُ الشيخُ دونَ الحدَثِ. واستَخلَصَهُ على وجهِ الجِدِّ لا العبَثِ. وقال للحدَثِ: نِصْفُه لي بسَهْمِ مَبَرّتي. وسهْمُكَ لي عنْ أرْشِ إبْرَتي. ولستُ عنِ الحقّ أميلُ. فقُمْ وخُذِ الميلَ. فعَرا الحدَثَ لما حدثَ اكتِئابٌ. واكفَهَرّ على سَمائِهِ سَحابٌ. وجَمَ لهُ القاضي. وهيّجَ أسَفَهُ على الدّينارِ الماضي. إلا أنّهُ جبَرَ بالَ الفتَى وبَلْبالَهُ. بدُرَيْهِماتٍ رضَخَ بها له. وقال لهُما: اجْتَنِبا المُعامَلاتِ. وادْرآ المُخاصَماتِ. ولا تحْضُراني في المُحاكَماتِ. فما عِندي كيسُ الغَراماتِ. فنَهَضا منْ عِنْدِه. فرِحَينَ برِفْدِه. مُفصِحَينِ بحَمدِه. والقاضي ما يخْبو ضجَرُهُ. مُذْ بضَّ حجَرُهُ. ولا ينْصُلُ كمدُه. مُذْ رشَحَ جَلمَدُهُ. حتى إذا أفاقَ منْ غشيَتِه. أقبلَ على غاشِيَتِه. وقال: قدْ أُشرِبَ حِسّي. ونبّزني حدْسي. أنهُما صاحِبا دَهاء. لا خَصْما ادّعاء. فكيفَ السّبيلُ الى سبرِهِما. واستِنْباطِ سرّهِما? فقال له نِحْريرُ زُمرَتِه. وشِرارَةُ جَمرَتِه: إنّه لنْ يتِمّ استِخراجُ خَبْئِهِما. إلا بهِما. فقَفّاهُما عَوْناً يُرْجِعُهُما إليْهِ. فلمّا مَثَلا بينَ يدَيهِ. قالَ لهُما: اصْدُقاني سِنّ بَكْرِكُما. ولكُما الأمانُ منْ تبِعَةِ مَكْرِكُما. فأحْجَمَ الحدَثُ واسْتقالَ. وأقدَمَ الشيخُ وقال:








أنا السَّروجـيُّ وهـذا ولَـدي


والشّبْلُ في المَخْبَرِ مثلُ الأسَدِ

ومـا تـعــدّتْ يدُهُ ولا يَدي


في إبرَةٍ يوْماً ولا في مِـرْوَدِ

وإنّما الدهرُ المُسيءُ المُعْتَـدي


مالَ بِنا حتى غدَوْناً نجْـتَـدي

كلَّ نَدي الرّاحةِ عذْبِ المَـوْرِدِ


وكلَّ جعْدِ الكفّ مغْلولَ الـيَدِ

بكُلّ فنٍ وبـكـلّ مـقْـصَـدِ


بالجِدّ إنْ أجْـدَى وإلاّ بـالـدَّدِ

لنَجلِبَ الرّشْحَ الى الحظّ الصّدي


ونُنْفِدَ العُمْرَ بـعـيشٍ أنْـكَـدِ

والموتُ منْ بعْدُ لَنا بالمَرصَـدِ


إنْ لمْ يُفاجِ اليومَ فاجَى في غَدِ


فقال لهُ القاضي: للهِ دَرُّكَ فما أعذَبَ نفَثاتِ فيكَ. وواهاً لكَ لوْلا خِداعٌ فيكَ! وإني لكَ لمِنَ المُنْذِرِينَ. وعليْكَ منَ الحَذِرينَ. فلا تُماكِرْ بعْدَها الحاكِمينَ. واتّقِ سَطْوَةَ المُتحكّمينَ. فما كُلّ مُسيْطِرٍ يُقيلُ. ولا كُلّ أوانٍ يُسْمَعُ القِيلُ. فعاهَدَهُ الشيخُ على اتّباعِ مَشورَتِه. والارْتِداعِ عن تلْبيسِ صورتِهِ. وفصَلَ عن جِهتِهِ. والختْرُ يلمَعُ من جبهتِهِ. قال الحارثُ بنُ همّامٍ: فلمْ أرَ أعجَبَ منْها في تصاريفِ الأسْفارِ. ولا قرَأتُ مِثلَه في تصانيفِ الأسْفارِ.


































































































تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

نقد كتاب إشكالية تطور مفهوم التعاون الدولي

31-كانون الأول-2021

نيوتون/جانيت ونترسون ترجمة:

22-أيار-2021

الـمُـغـفّـلــة – أنطون بافلوفتش تشيخوف‎

15-أيار-2021

قراءة نقدية في أشعار محمد الماغوط / صلاح فضل

15-أيار-2021

ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين

01-أيار-2021

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow