كان السؤال الملح عليّ بقوة: لماذا ظن، وآمن، وكتب أجدادنا الذين عاشوا في القرون الوسطى بأنَّ مَن بنى العمائر العظيمة في هذا الشرق كانوا من الجان، ما الذي جعلهم يفكرون ويكتبون بأنَّ مَن بنى الأهرام العظيمة لم يكونوا من البشر، بل كانوا من تلك المخلوقات الغامضة، مطلقة القوة والفعل، والتي أسموها بالجن، أي بالخفيين، المخلوقات التي لا نراها ولكننا نرى أفعالها. وهكذا رأينا مَن كتب أنَّ مَن بنى تدمر العظيمة بآثارها الهائلة، وعواميدها الشامخة ومعبدها الضخم.. .. لا. ليسوا من البشر، إنهم من الجان، أما مَن بنى معبد بعلبك الهائل الحجم، والعواميد، والصخور والهندسة فلا بد أنه كان من الجن!!! كان الناس من المحرومين من الإدارة المركزية العظيمة، ومن الحرية في الفعل، والحرية في الخيال، والحرية في الحلم يرفضون تصديق أنَّ أناساً مثلهم: مثلي ومثل جاري أبو علي وأبو محمد. أعوذ بالله لا. لا يمكن لأناس مثل هؤلاء أن يبنوا عمائر كهذه. وإذاً.. .. لا بد أنَّهم الجان!!!
الغريب أنَّ صينياً واحداً حتى في أشد أزمان الانحطاط الصيني، وفي أشد التفسخات التي تعرضت لها الصين حتى لتتقدم جزيرة في أقصى الأرض اسمها إنكلترا بحربها وهزيمتها، وإجبار إمبراطورها على سحب القانون الذي منع فيه شعبه من تعاطي الأفيون وتجبره على السماح للشعب الصيني بتعاطي المخدر الذي سيشلّ أكبر شعب سكانياً في العالم في ذلك الحين. الغريب أن صينياً واحداً لم يعلن أو يكتب أنَّ مَن بنى سور الصين العظيم كانوا من الجان، أو أنَّ مَن بنى المدينة الإمبراطورية المحرمة كانوا من الجان، بل كانوا يهزون رؤوسهم في أسى ويقولون: كان أجدادنا أقدر منا على الفعل، لأن دولتهم المركزية كانت أكثر حكمة.
ونعود إلى شرقنا العربي والذي يريدون تغيير هويته إلى الأوسط وإلى سؤال: لماذا أنكر الناس الذين عاشوا في العصرين المملوكي والعثماني على الأجيال السابقة لها قدرتها على العمارة الهائلة.. .. بل لماذا نسوهم تماماً، فكتب التاريخ العربي كالطبري والمسعودي حتى ابن خلدون: لا تعرف شيئاً عن الآشوريين أو الأكاديين، أو البابليين عموماً، وحتى مصر الفرعونية، كانت بالنسبة إليهم لغزاً غامضاً من الأفضل عدم التفكير فيه، والتساؤل عنه إذ ليس من جواب.
فالطبري حين كان يقدم التاريخ الكلاسيكي كان يقدمه حسب قراءة التوراة المغلوطة له، فعدو اليهود هو عدو التاريخ الماضي والمستقبل، وليس له من صفات إلا ما أراد الحاخامات كتَّاب التوراة قوله عن تلك الشعوب.
ولكن.. .. أن يتطرف الكتَّاب الصغار، كتاب العصور الوسطى لينفوا عن الأقوام العربية الكلاسيكية عظمتها وعمارتها وينسبونها للجان، فهذا سؤال يحيرني منذ زمن طويل.
ثم أخذ التفسير اللغوي نفسه يحل محل الروايات الشعبية، فالجان، والجن في اللغة العربية هم الخفيون، وجُنَّ أي اختفى، ومنه الجنة أو الجنينة، وهي التي أخفتها كثافة الشجر والخضرة عن العيون، ومنه المجنون الذي جُنَّ أي اختفى عقله وإدراكه، فهل حاول أولئك الكتَّاب العاجزون، في مجتمع عاجز أعجزته السلطة العاجزة حضارياً في ذلك الحين أن يقول: صحيح أنَّا نحن المعاصرين لا نستطيع بناء مدينة هائلة كتدمر، أو البتراء، أو بعلبك.. صحيح أنَّا لا نستطيع بقوانا الظاهرة العاجزة بناء شيء في أهمية الأهرام وآثار الأقصر، ولكن قوانا الخفية، الجنِّية، المكتومة.. قادرة على فعل الأعاجيب. كانوا يكتمون القول: أعطونا الإدارة المركزية القوية ومريدة الفعل فنتحول إلى جن كما فعل بناة الأهرام وتدمر وبعلبك. كانوا يريدون قول كل هذا، ولكن وعيهم وقف عند: نحن لا نستطيع بناء مدن كتدمر وبعلبك، فالجان مَن فعلوا، ولكنهم لم يستطيعوا وعي النصف الثاني من الجملة. فالجان هم نحن حين تديرنا دولة مركزية موحدة عظيمة راغبة في الفعل والحضارة كمصر الفرعونية، وتدمر الآرامية التي أوصلت حدودها الشامية إلى مصر، والبتراء النبطية التي غطت حضارتها الشام كلها.
محاولة متواضعة للاعتذار عن أولئك الذين نفوا عن أجدادهم عظمة الفعل ونسبوها لقوى غامضة أسموها الجان، كما سيحاول كثير من الغربيين المعاصرين أن يقولوا: إنَّ مَن بنى الأهرام وتدمر وبعلبك هم أناس جاؤوا من الفضاء!!! لأنهم حين ينظرون إلى المفتَّتين العاجزين من حولهم يقولون: لا يمكن لأناس كهؤلاء أن يصنعوا معجزات، فالمعجزات تحتاج إلى مجتمعات أكثر تنظيماً وإرادة على الفعل.
دمشق
صحيفة تشرين
آفاق
الأربعاء 3 آذار 2010