معلقة في شرفتي انتظر قدوم الريح, وشوارع المدينة من تحتي لاهية, تلتف مثل ثعبان حول خاصرة الجبل, والناس في سوق عجيب أشبه بالكرنفال.. لا يسمعون ما أسمع من آهات الجبل المشدوه بأفعال البشر..
صوت الريح ما أسمع يا صاحبي أم صوت الجبل.. الصوت يعبر خاصرتي إلى عين القلب يهجع:
- ما الذي يفعله الناس هناكَ! هل اعتزلوا عادات البشر؟!
لو تكرمتَ
ضع ما شئت عليكَ من أثوابك
افتح لي بابكَ
لا تسأل من قادني إليكَ
فأنا مثلك عالمي الوحدة والألم
فالفرج من زمن بعيد غادرني..
صوتك يحمله الريح يلتبس الحال عليَّ..ورأيتك على بساط الريح مقصوص الشفتين تضحك؟!
وقضيت الليل أغزل من صوتك خيوطا.. والقمر يسامر أصابعي على مغزل الوقت.. عند منتصف الليل وشوشني:
- لا تدعي الوقت يسرق منك الوقت يا أميره
- كيف يسرق الوقت الوقت يا قمر؟!
- أنتِ أمضيتِ نصف الليل في غزل الخيوط, جاء وقت شد الخيوط على النول لتصبح رقعة من نسيج ترصعه النجوم
خلف الستائر المرخاة
تسللت مع الريح عند شباكك
أترجي اللقاء
أتنصت خلف الجدران
لكن صمتك
مثل صمت الحجرة
عميق.. عميق
كان القمر يتوسط صدر السماء, يجلس على عرش أمير، والنجوم ترقص من حوله جواري عاريات.. سبقت نبضي إليكَ وأخذت أنسج من خيوطي شالا أطرزه بنجوم الأمنيات.. حتى إذا انبلج الفجر من سرة العتمة, كان وجهكَ مطبوعا على رقعتي, ترقص من حولك جواري ضاحكات راغبات.. سألنني:
- وأنتِ!!
زحفت إلى شرنقتي
وأحرقتُ خيوط الحرير
فتساقطت فراشات ضوئي
عند قلبك المتكسر
فوق حجر الطريق..
وأنا ما زلت معلقة في شرفتي, أنظر كيف تلتف شوارع المدينة على خاصرة الجبل, وأنتظر ريحا تحمل أميرا يبحث في براري الضياع عن أميرة
***
ها هي الريح تعلن عن بقايا غيث.. تعتذر عن شتاء غادر الديار بلا مطر يكفي لحنطة الصيف.. تذرف الريح دما على زرع زحفت نحوه صفرة الغياب, قبل أن تنهض على هاماته السنابل..
صيفنا يا سيدتي يأتي على عطش.. غاضت المياه في الآبار..لا بيادر.. لا حب .. ولا حتى قش يغري العصافير بالبقاء.. رجع صوتك تحمله الرياح القادمة من سفح الجبل..
عند ناصية الطريق
الليل يشتد فيه السواد
لنقتحم الليل يا صديقي
زادنا الأرق والقلق..
فكلانا يبكي حباإنطوى..
وما عاد
أه من وجع البعاد
أين ستبني عشها عصفورة قلبي في زمن الخسائر؟؟ والموت يمتطي أهازيج الوقت في عز الظهيرة, وأنا العاري إلا منكِ يشويني الصقيع, ويُنضج ليلي على ضوء قمر ضرير.. ينوح بما حملته الريح منكِ وعنكِ..
كلما أوهمت قلبي, أن يأخذني إلى مدارك
ونسجت من خيوط الحرير زناري وشالكَ
يلسعني جفاؤك
أني برحيلكَ قد أسدلت ستائري
وأطفأت قناديلي
ونسيت مذاق الوقت
هو الموت قبل الموت في زمن أسير, يعجن من دقيق الوهم انتصارات عظيمة, يعلن الأمراء فيه, قتل العصافير قادسية نصر فتموت بغداد الجميلة, ويعلن فيه الأدعياء موت أسراب الأجنة انتصار الفرقان!! فتنعي غزة آخر زهرة أورقت فى الخميلة
أه من وجعي فيكِ..
العصافير لا تصوم عن الحب وإن عز الطعام..
هل نسيتِ, أنك هوس ذاكرتي المشبوبة بالوله..
وِأنك فاتحة ممالك حزني..
وأقحوانة قلبي المدمى بالفرح!!
هل تدليني على موطئ، فدمي والليل أحلك من سواد الموت. هل تضئ دروبي.. آه حملتها الريح من شرفة أميرة تذرف لؤلؤ الدمع قناديل ترضع من زيت الوجع.. تهبط من أعلى الجبل إلى منبسط الوادي
أني على مدار الوقت أنزف قلبي من لهفي عليكِ..

***
هل تذكر يوم التقيت بكَ أول مرة.. كنت حينها صغيرة, كل ما أملكه بعض لهاث, وأطول ضفيرة عندما أفردها تصبح شال ليل ترصعه نجوم ضاحكات.. يومها رأيتك في السوق القديم تمشي وحيدا.. داهمني في غفلة مني نبضك, وظِل الحزن الساكن خلف وجهك, فتبعتك, وكأنك لست الغريب عني.. لاحقتك حتى ارتخى الضياء, وقبل المساء وجنة المغيب.. أرسلتُ صوتي مع الريح..
في مخدع الليل الذي أعرفه
سألوح لك في ضوء الشموع
وأمسح عن عينيكَ الدموع
وأهطل عليك كالنور
وأملأ الدروب بريقا
يومها وقفت في وجه الريح, ونزعت عن صدرك القميص, فلاح قلبك كالبلور يشع ضياءً, وأردفتني خلفك على حصان الريح, وطرت بي إلى البصرة وهبط بي عند حافة الماء حيث ينتظر السياب, وامتثلنا غريبان نغذ الخطى..نلحق بالحلم الجميل في حضرة الغياب..
نمر بالحقول حيث تموج السنابل
يصاحبنا همس العنادل
ويدندن سعف النجيل بانتشاء
وتنقر الريح الطبل
ويصدح الناي بالغناء
ووقفنا بين يدي السياب.. نرهف السمع له وهو يستعيد أغانيه عن مدينة الضباب, وعن بيروت الجميلة, وجيكور التي ترطب الشمس ثراها في آب..أنه عندما رآني أخرج من خاصرتك بكى فيكَ عسقلان الأسيرة, وتمنى لبغداد أن تنهض من بين أنقاض الخراب عفية..
هل نسيت يا لهفي؟! أم هو الوقت يسلبنا حتى بهجة الذكرى في زمن الخراب!!

***
جِئتٌ عرافة الوقت تقرأ حظي, بعد أن سلخوا جلد كفي, وسرقوا بصمتي..
نثرت العرافة ودعاتها على الرمل.. شهقت:
- أنت المحظوظ يا فتى,, أنت المعذب بها في زمن البوار!!
والتقطت ودعة, أشرعتها في وجه الريح.. نفخت الريح فيها الحياة وجاء صوتكِ من صوب الجبل:
صمت يهمس لصمت..
وليل ينتزع سر الأمس
وأقداح تشيخ
تثمل بحكايات بعيدة
وطيف خيال لفتى مر يوما بداري
ورحل..
قالت العرافة:
- هي لا زالت معلقة في شرفتها على خاصرة الجبل.. تنتظر
وأراحت رأسي على فخذها.. صار الفخذ مرآة أمس.. هدهدتني مثل رضيع هده صراخ الجوع.. نمت على جوعي إليكِ.. فرأيت الثلج الوارف في المدى ينبئ بكهولة الفصول, وجفاف الرحيق.. صار الثلج سدا يمنعني من الوصول..
وصحوت أتوسد حجرا تحت شجرة على حافة النهر, ما زالت تنتظر منذ استظل بظلها نبوخذ نصر قي زمن السبي البابلي..
يا إلهي
كيف أخذتني الغفوة إلى هناك!! هل كنتُ اقتفي وقع خطاكِ؟؟
قالت الريح:
- هي مرت من هنا..لِمَ تأخرت أنت يا فتى!!
وبقيت وحدي أنعي قلبي المدمى بحراب ذوي القربى.. ذبحوني في غزة فسبقني دمي الى ماء النهر هناك.. وبقيت أراقب النهر والمدى من حولي سكون.. فجأة جاءت غيمة ترجل منها اعرابي يسحب ناقة عفية على سنامها هودج عروس.. حدق الإعرابي في وجهي ..هتف:
- أنت هو.. أنت الفتى..
رقص الهودج. .ضحكت الناقة.. حلب ضرعها وسقاني حتى ثملت برائحتكِ.. هلل البدوي فرحا:
- هل شبعت, وأنت الصائم منذ خذلتك القبائل مثلما خذلتها فلاذت بالجبل..
- من أنتَ أيها البدوي؟!
- أنا حارس الحلم في زمن الجنون
- ما دليلك على أني هو؟
- مرسوم بين عينيك طيف أميرة تحمل بين عينيها وجه نورس عسقلان..
***
معلقة في شرفتي أنتظر قدوم الريح, والمدينة من تحتي لاهية, والبرد المتراشق من كبد السماء يمطرني جمر وحشة تلسع وجهي المتيبس.. أنفث مع زفيري رائحة تفاح مجرد من القشور فهل أصابتك الريح بطعم وحدتي..
لا بأس يا صاحبي
لن انشغل الليلة بالثلج الذي يطمر وجه المدينة
فالأكيد.. الأكيد
أن أحدا لن يحطم قلبي
مثل غيابكَ أنتَ..