نسويات
2010-03-13
تأنيث الشتيمة
لماذا كلما أراد رجل شتم آخر استعار أمّه أو أخته أو واحدة أخرى من "نسائه"؟ الجواب واضح طبعاً: حتى تكون الشتيمة شتيمة، يجب أن تطعن الرجل في أعزّ ما "يملك"، وهو ما يسمى في مجتمعاتنا الذكورية بالعِرض أو الشرف.
القضية، إذن، أكبر من مجرد طرق التعبير عن الإهانة. إنها قصة ثقافة تعتبر المرأة ملكاً من ممتلكات الرجل يتوجب عليه صونه والدفاع عنه؛ قصة لغة تعتبر المرأة طارئاً أو حالة خاصة، كما تدل على ذلك "تاء التأنيث" و"نون النسوة" وغيرها. لكن في الوقت الذي تمتلئ فيه مكتبات اللغات الأخرى بأطنان من الدراسات عن هذه الأمور، تكاد لغتنا العربية -وأجرؤ على القول إنها من أكثر اللغات تمييزاً ضد المرأة- تكاد تخلو من أي تناول للموضوع. وكأننا نصرّ (أو نتواطأ) على إبقاء الحال على ما هي عليه.
سيكون موضوع تأنيث الشتيمة أيضاً أصعب على التطرق بسبب التابو الاجتماعي-الثقافي المحيط بـ"اللغة البذيئة" بشكل عام؛ بسبب الرقابة والرقابة الذاتية، ومخافة أن نخدش حياء القارئ المحترم - هذا الحياء ذاته الذي يتستر على ملايين النساء اللواتي ينسحقن كل يوم تحت جسده ولسانه المثقلين بالحياء.
باستثناء الشتائم التي تشبّه المشتوم بحيوان أو تلك التي تستخدم المواد الإطراحية (وكلاهما لا يخلو من غبن وتمييز تجاه أداة الشتم)، تكاد الشتائم الأخرى كلها تكون جنسوية، وهي عادةً الأكثر بذاءة وتجريحاً. فمجرد ذكر العضو التناسلي لأخت أو أم شخص آخر قد يكفي لإيصالك إلى المستشفى، رغم أن هذه الطريقة في السبّ هي الأكثر رواجاً واستخداماً.
يمكن أن يكون الشتم أيضاً عن طريق اتهام المشتوم بأن أمه أو أخته داعرة أو عاهرة، كأن تقول “ابن الشرموطة”، مثلاً. فهذه أكثر المهن جلباً للعار لكل الرجال المعنيين عن قريب أو بعيد، بغض النظر عن عدم شعورهم بأي عار حين يكونون هم الزبائن.
الصيغة الثالثة للشتم الجنسوي هي فعل "النيك" مطبقاً على الرجل، باعتبار أنه من المهين جداً أن يكون الرجل، المعتاد على أن يكون فاعلاً، مفعولاً به.
بالطبع، يتفنّن الناس في التلحين على هذه الصيغ الأساسية، فالشتائم الجنسوية بصيغها المختلفة أكثر من أن تحصى. صادفتُ مرة موقعاً إلكترونياً مخصصاً للتصويت على "أفضل" السباب وأكثرها رواجاً في اللغة الإنكليزية. أتساءل أي الشتائم العربية سيكون الرابح.
من الجدير بالذكر أن أكثر الكلمات النابية المستعملة اليوم، في اللغات الأوروبية على الأقل، يعود تاريخياً، وفقاً لباختين وآخرين، إلى تقليد "الطوائف الكوميدية" في العصور الوسطى، التي كانت تستخدم هذه الإهانات عن الله وأجزاء جسده المختلفة.
وبعيداً عن "كلام الشارع"، لا شك أن هناك الكثير في الأدب العربي مما تجدر دراسته بهذا الصدد، من غزل امرئ القيس، مروراً بهجائيات المتنبي وفحش أبي نواس ونقائض جرير والفرزدق، وصولاً إلى شتائم مظفر النوّاب السياسية. تحضرني مجموعة المبدع المصري الراحل "كس أميّات نجيب سرور"، وهي هجائية سياسية بالعامية المصرية "تعرّي أعراض سرطان الدعارة" في الوسطين الفني والسياسي المصريين. بقدر ما أحببت هذه المجموعة (التي لم تزل الى يومنا هذا مخطوطة لم تُنشر ولم تجرؤ أية مؤسسة نشر عامة أو خاصة داخل العالم العربي أو خارجه على نشرها، وحين نشرها ابن الشاعر شهدي على الإنترنيت، اعتقلته شرطة الآداب المصرية وحُكم عليه بالسجن بتهمة "الإساءة إلى الأخلاق العامة") بقدر ما أزعجني هذا التأنيث المفرط للسبّ والهجاء (ولا أقصد الشتائم المستخدمة فقط). بالطبع، لا ذنب لنجيب سرور في ذلك أكثر من أي منّا سوى أنه تجرأ على تدوينها والإبداع فيها.
يذكّرني ذلك بصديق محترم - محترم فيما خصّ قضايا المرأة، وهي عملة نادرة بين الرجال إذا استثينا الشعارات وحيل إثارة إعجاب البنات. لكن المسكين شخص شتّام ويعترف أنه، منذ بدأت اهتماماته النسوية، بات يخجل من ذلك، فصار كلما شتم أحداً في أمه أو أخته تخيل أمامه امرأة بريئة مكسورة. إنه أشبه، ربما، بشعور رجل اغتصب امرأة لا يعرفها للمرة الأولى ويؤنبه ضميره. المشكلة، طبعاً، أن الشتائم الأخرى، غير الجنسوية، لا تحمل تلك الشحنة القوية نفسها (بسبب ثقافتنا الذكورية). حاول صديقي أن يخترع بعض الشتائم الخاصة بتعداد أوصاف كثيرة متتالية لتعويض الشحنة العالية، لكنها، بسبب غرابتها، كانت غالباً ما تثير الضحك بدلاً من الإهانة، تماماً كما سيفعل ذكر العضو التناسلي للأب بدل الأمّ. إذ حتى تكون الشتيمة شتيمة، يجب أن تكون أيضاً مألوفة لدى المشتوم.
هل هي دعوة إلى "حظر" الشتائم الجنسوية والبدء باستخدام سباب أقل تمييزاً ضد ضحايا لا يفترض بالشتيمة أن تخصهم؟ لست بهذا التفاؤل، إذا أردتم الصراحة. فما زلنا أسيري ثقافة تحذف واحداً من الأسماء الستة في النحو ﻷنه "مسيء للإخلاق العامة"، لتصبح خمسة في المناهج المدرسية، بينما تمتلئ قصور خلفائنا وملوكنا، شاشات التلفاز ومجلات الشباب، أحلام الرجال وعقولهم بتلك الكلمة عينها.
أعربْ ما يلي: حجّبَ الرجلُ امرأتَهُ
حجّبَ: فعل ماضٍ، مبنيّ على الفتحة الظاهرة على آخره.
والأحرى أن نقول فعل ماضٍ مستمر. ماضٍ ﻷنه من مخلفات الماضي، لكنه ماضٍ في حضوره ويأبى المضيّ. وهو مبني على الفتح لأنه من فتوحات الرجل، كما كان الوأد والرجم والضرب والتعرية وغيرها. والفتح هذا ظاهر على آخر المرأة وأولها، على وسطها وأمامها وورائها.
الرجلُ: فاعل، مرفوع وعلامة رفعه الضمّة الظاهرة على آخره.
هو الفاعل دائماً، كما يحبّ أن يتصور نفسه، بل علّة كلّ فعل وغايته ووسيلته. يمضي مرفوعاً يسبّح بحمد نفسه، ويضمّ كلّ شيء إليه إلى أن يظهر على آخره. وهو فاعل لأنه فعل أكثر الأشياء قبحاً، من اغتصاب امرأة إلى اغتصاب شجرة وكوكب؛ من عراك في خان إلى حروب لا تنتهي.
امرأتَهُ: مفعول به، منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره. والهاء ضمير متصل، مبنيّ على الضمّ في محلّ جرّ بالإضافة.
المرأة، في الواقع، مفعول بها وفيها وعليها. وهي، كما تشير الهاء، مضافة إلى الرجل ومجرورة وراءه، لأنها في الأصل من ضلعه خُلقت، كما تقول لنا الأسطورة. والهاء تفيد الملكية أيضاً، فالمرأة كانت تُورث كالمتاع، وما زالت نكرةً لا تُعرّف إلا بنسبتها إلى رجل يملكها ويمنحها معنى وجودها: الأب والأخ والزوج والعشيق والابن إلخ إلخ.
إعراب جُمَل: جملة "حجّبَ الرجلُ امرأتَهُ" ابتدائية لا محلّ لها من الإعراب. والأحرى، بدائية لا محلّ لها من الإعراب، إنْ كان للإعراب كلّه محلّ أصلاً!
×××××
مجلة أصداء الالكترونية
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |