كثيرة أنتٍ .. لسوزان ابراهيم جواز مرور إلى سدة الشعر / ياسين رفاعية
2010-03-22
الشعر الجيد يأخذ بيدنا الى الاستيقاظ النفسي فنتطهر به كلياً من ادران الحياة، مبارك يهطل علينا براعم من شجرة الحياة، يظهر كاشراقة نبيلة مضاءة مانحاً اياناً سعادة لا توصف، لماذا اذا سمي "الشعر" لأنه تعبير عن الشعور الصادق النابع من أعماق النفس بل انه اللحظة الحاضرة بأن يجعلنا نشعر بأننا أحياء، وان الحياة... رغم كل شيء ـ نقاش حتى الطفاف، ولحظة الشعر تشع كاملة، وهاجة، عميقة بالفهم، لحظة بالكاد، لكنها كافية، اكتشاف مفاجئ، موجة كالاحمرار الذي نود ايقافه، والذي نذعن له من ثم ونحن نشعر به يمتد، اننا نركض فيه حتى الطرف الأقصى، وهناك نتردد، نشعر ان العالم يصبح قمراً مضيئاً بارهاصات مدهشة، بانسحار ينمو، ويحطم الغلاف الرقيق، ينبجس ويفيض على التمزقات التي يعانيها الشاعر كي يكتب قصيدة جيدة. وعلى الجروحات التي تنزف، ليس من الحبر بألوانه، بلمن اعصابه ودمه وخفقان قلبه. لا يمكن ان يخرج شعر الا من هذه الطقوس الحارة والباردة في آن، والمتفجرة والهادئة في وقت واحد. فعندما تختفي الحياة لبرهة خاطفة يظهر لنا حقل التجربة الشعرية في احتكاكها بالواقع، بالذات، والعام، والتخيل، بحثاً عن امتداد أفق رحب حتى ليتوهم الشاعر، أو الشاعرة، كلاهما معاً انه يتجول في سهول ووديان وجبال، وعلى أطراف الينابيع والأنهار والبحار بشواطئها الزرقاء. بهذا النوع من الشعر ننعم بالسلام، واحساس حاجتنا الى البقاء، ملفحين بأحلامنا وأمانينا، ليس من شيء آخر يفعل ذلك الا الشعر، انه هذا الجزء من الحياة، الوحيد والثمين، هذا القطب، هذا الانسحار المنتصر على الشر، لأن الشعر من يغم الحياة، ولأن الشاعر يمتلك نبوءة الزمان القادم، بعد ان ترك وراء ظهره كل هذه الموبقات. وهذا الفساد الذي يستشري في العالم، الشعر نقطة مضاءة في وردة أو وجه طفل عذب، أو امرأة ساحرة الجمال. في هذه النقطة الساكنة في قلب الأشياء. هناك، في الشعر، في التجربة الأصيلة يمكن لنا ان نتحرك، النقطة الساكنة التي اشار اليها إليوت في رباعياته، انها جميلة مثل ضوء المنارة التي تهدي المراكب الى المرافئ الآمنة، والتي مع الشاعر تحترم نفسها لأنها هي واياه شيء واحد، لكن هذا لا يحمل الشاعرة على الغرور لأن الشعر الجيد يدل على التواضع والترفع عن الغرور مقتلة الشاعر، ونتعجب كيف ان الشاعر يشعر في العزلة باتحاده مع الاشياء الجامدة.. الأشجار. والعواصف والزهور، التي تندمج معاً في كل شامل.. هذا الكلام أوحى لي به مجموعة شعر لشاعرة شابة من سوريا، ليست معروفة جيداً خارج سوريا، لكن هذه المجموعة ستضعها في المقدمة مع شعراء النثر هي سوزان ابراهيم، وعنوان مجموعتها، كثيرة أنت...الصادرة عن دار التكوين في دشق، شاعرة تحب الناس والكون بحنان كأنها عروس تنتظر عاشقها. وتظل رانية الى تلك المنارة لعل اشرعة المركب التائه يصل اليها، مخدرة بجاذبية مغناطيسية. وكأن أناملها التي بها كتبت هذا الشعر أصابع من فضة مسلطة على كل البحار لتتأكد ان قصيدتها عرفت السعادة الحقيقية. وأن الغبطة تطفح من عينيها، وأن أمواج النشوة الخالصة تغمرها من كل جهة حتى ليصرخ قارئها من أعماق قلبه ووجدانه: كفى, كفى.
انني احتفي بهذه الشاعرة من كل قلبي، ولا أعرفها شخصياً، لكن شعرها جعلني أعرفها جيداً، كأنني حضرت يوم ولادتها انها الحدث المفاجئ، ينقلنا، احياناً، الى رسوخ الأبدية حيث تمنحنا هذه الشاعرة احساساً بالتعبد والكمال والنظام الذي ينتصر على الفوضى ويرغب في وضع مصيره بين يدي الله، ليبيد في حضوره الآسر، ويفنى في نفسه وعن نفسه، بينما تتراءى لحظة الأبدية ان كل شيء ممكن وحسن لكنه ـ للأسف ـ لا يستطيع ان يدوم طويلاً. لأن لحظة السعادة كنيزك في السماء يشتعل، ثم سرعان ما ينطفئ.
مرفأ
في شعر سوزان ابراهيم، رغم حزنه الشفيف، وكبرياء الشاعر فوق صلف الزمان، نبلغ به مرفأ الأمان ونحلّق به كنسر حديث الولادة، فتضفي علينا سوزان ابراهيم هالة من نور تنبثق من أعماق السكون، الذي يصبح معقولاً ومقبولاً، ومنسجماً ومتجانساً، ومتحرراً من عوامل التغير، ومشرقاً في وجه الفناء كقطعة من الياقوت، حتى ليمكن لسوزان ابراهيم ان تقول عن لحظات كهذه انها ترفع الى سدة الشعر بكل اطمئنان. وأن قلبها ينمو حتى ليصبح بحجم قمر يبزغ في كل حناياه لتثبت الضوء والحرارة، حتى ليتسع الحب الجميع. انه شعر بلا ماض ولا مستقبل أيضاً، لأنه يعيش في قلوبنا لحظة بعد لحظة. في ذروة النشوة التي لا مناص منها ونحن في قلب هذه التجربة الفنية.
"على أرصفة مدينتك وقفت
لم يكن في جيبي كلام كثير
لأمشط وقتك الأشعث
ومترف بالبحر وقتي
ليس لي اسم ولا رقم قيد
في السجلات المعتمدة للملائكة، أو للشياطين
اسمي على قارعة كل كون..
هذا الكبرياء الذي تدافع عنه سوزان ابراهيم، بالشعر، لأن الشعر اقوى من كل فذلكات الخطباء، على منابرنا المزيفة، كبرياء تحافظ عليه دون توقف من قصيدة الى قصيدة:
"لأنني كالأطفال
أعابث وجهه
خلف باب يقضم الوقت أظفاره غيظاً
لأنني كالأطفال
لا أحتاج جواز سنين لأعبره عنوة
لأنني كالأطفال
لا أحفل كثيراً بمقدسات اللعبة
أسكب رمل ساعاته
وسم عقاربه
الخانقة من اكسير أصابعي"
و:
"بكل ما لمست مني
أواجه الصراط المستقيم"
احتجاج
شعر احتجاج وغضب أحياناً، ينأى كثيراً عن الكلام الملول في الحب والعشق، لأن منحاه أعلى من ذلك بكثير، انه يدوم فوق تزحلقات اللغة، الى استنباطها من داخل بصعوبة الى السهل الممتنع.
ومع ان الشاعرة اصدرت من قبل ثلاث مجموعات قصصية ومجموعة شعر، الا ان "كثيرة انت" بمثابة جواز مرور الى الشعر بامتياز وتفوّق، فاستبشروا بها.
المستقبل - السبت 20 آذار 2010 - العدد 3600 -
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |