Alef Logo
نص الأمس
              

حكاية معاوية والإعرابي من كتاب أخبار النساء لابن الجوزي

ألف

2010-03-28


أعوذ بعدلك يا أمير المؤمنين
منجور مروان
ذكر أنّ معاوية بن أبي سفيان جلس ذات يومٍ بمجلسٍ كان له بدمشقعلى قارعة الطّريق، وكان المجلس مفتّح الجوانب لدخول النّسيم، فبينما هو على فراشهوأهل مملكته بين يديه، إذ نظر إلى رجلٍ يمشي نحوه وهو يسرع في مشيته راجلاً حافياً،وكان ذلك اليوم شديد الحرّ، فتأمّله معاوية ثمّ قال لجلسائه: لم يخلق الله ممّنأحتاج إلى نفسه في مثل هذا اليوم. ثمّ قال: يا غلام سر إليه واكشف عن حاله وقصّتهفوالله لئن كان فقيراً لأغنينّه، ولئن كان شاكياً لأنصفنّه، ولئن كان مظلوماًلأنصرنّه، ولئن كان غنياً لأفقرنّه. فخرج إليه الرسول متلقياً فسلّم عليه فردّ عليهالسّلام. ثمّ قال له: ممّن الرّجل؟ قال: سيّدي أنا رجلٌ أعرابيٌّ من بني عذرة،أقبلت إلى أمير المؤمنين مشتكياً إليه بظلامةٍ نزلت بي من بعض عمّاله. فقال لهالرّسول: أصبحت يا أعرابي؟ ثمّ سار به حتّى وقف بين يديه فسلّم عليه بالخلافة ثمّأنشأ يقول:
معاوي يا ذا العلم والحلم والفضل ... ويا ذا النّدى والجود والنّابلالجزل
أتيتك لمّا ضاق في الأرض مذهبي ... فيا غيث لا تقطع رجائي من العدل
وجدلي بإنصافٍ من الجّائر الذي ... شواني شيّاً كان أيسرهقتلي
سباني سعدىوانبرى لخصومتي ... وجار ولم يعدل، وأغصبني أهلي
قصدت لأرجو نفعه فأثابني ... بسجنٍ وأنواع العذاب مع الكبل
وهمّ بقتلي غير أن منيّتي ... تأبّت، ولم أستكملالرّزق من أجلي
أغثني جزاك الله عنّي جنّةً ... فقد طار من وجدٍ بسعدى لهاعقلي
فلمّا فرغ من شعره قال له معاوية: يا إعرابي إنّي أراك تشتكي عاملاً منعمّالنا ولم تسمعه لنا! قال: أصلح الله أمير المؤمنين، وهو والله ابن عمّك مروان بنالحكم عامل المدينة. قال معاوية: وما قصّتك معه يا أعرابي. قال: أصلح الله الأمير،كانت لي بنت عمٍّ خطبتها إلى أبيها فزوّجني منها. وكنت كلفاً بها لما كانت فيه منكمال جمالها وعقلها والقرابة. فبقيت معها يا أمير المؤمنين، في أصلح حالٍ وأنعمبالٍ، مسروراً زماناً، قرير العين. وكانت لي صرمةً من إبلٍ وشويهات، فكنت أعولهاونفسي بها. فدارت عليها أقضية الله وحوادث الدّهر، فوقع فيها داءٌ فذهبت بقدرةالله. فبقيت لا أملك شيئاً، وصرت مهيناً مفكّراً، قد ذهب عقلي، وساءت حالي، وصرتثقلاً على وجه الأرض. فلمّا بلغ ذلك أباها حال بيني وبينها، وأنكرني، وجحدني،وطردني، ودفعها عنّي. فلم أدر لنفسي بحيلةٍ ولا نصرةٍ. فأتيت إلى عاملك مروان بنالحكم مشتكياً بعمّي، فبعث إليه، فلمّا وقف بين يديه، قال له مروان: يا أيّهاالرّجل لم حلت بين ابن أخيك وزوجته؟ قال: أصلح الله الأمير، ليس له عندي زوجة ولازوجته من ابنتي قط. قلت أنا: أصلح الله الأمير، أنا راضٍ بالجّارية، فإن رأى الأميرأن يبعث إليها ويسمع منها ما تقول؟ فبعث إليها فأتت الجّارية مسرعةً، فلمّا وقفتبين يديه ونظر إليها وإلى حسنها وقعت منه موقع الإعجاب والاستحسان، فصار لي، ياأمير المؤمنين خصماً وانتهرني، وأمر بي إلى السّجن. فبقيت كأني خررت من السّماء فيمكانٍ سحيقٍ، ثمّ قال لأبي بعدي: هل لك أن تزوّجها منّي، وأنقدك ألف دينارٍ، وأزيدكأنت عشرة آلاف درهمٍ تنتفع بها، وأنا أضمن طلاقها؟ قال له أبوها: إن أنت فعلت ذلكزوّجتها منك.
فلمّا كان من الغد بعث إليّ، فلمّا أدخلت عليه نظر إليّ كالأسدالغضبان، فقال لي: يا أعرابي طلّق سعدى. قلت: لا أفعل. فأمر بضربي ثم ردّني إلىالسّجن، فلمّا كان في اليوم الثّاني قال: عليّ بالأعرابي. فلمّا وقفت بين يديه،قال: طلّق سعدى. فقلت: لا أفعل. فسلّط عليّ يا أمير المؤمنين خدّامه فضربوني ضرباًلا يقدر أحدٌ على وصفه، ثمّ أمر بي إلى السّجن؛ فلمّا كان في اليوم الثّالث قال: عليّ بالإعرابي، فلمّا وقفت بين يديه قال: عليّ بالسّيف والنّطع وأحضر السيّاف، ثمّقال: يا أعرابي، وجلالة ربّي، وكرامة والدي، لئن لم تطلّق سعدى لأفرّقنّ بين جسدكوموضع لسانك.
فخشيت على نفسي القتل فطلّقتها طلقةً واحدةً على طلاق السّنّة، ثمّأمر بي إلى السّجن فحبسني فيه حتّى تمّت عدّتها ثمّ تزوّجها، فبنى بها، ثمّ أطلقني. فأتيتك مستغيثاً قد رجوت عدلك وإنصافك، فارحمني يا أمير المؤمنين. فوالله يا أميرالمؤمنين لقد أجهدني الأرق، وأذابني القلق، وبقيت في حبّها بلا عقلٍ، ثمّ انتحبحتىّ كادت نفسه تفيض. ثمّ أنشأ يقول:
في القلب منّي نارٌ ... والنّار فيهالدّمار
والجّسم منّي سقيمٌ ... فيه الطّبيب يحار
والعين تهطل دمعاً ... فدمعها مدرار
حملت منه عظيماً ... فما عليه اصطبار
فليس ليلي ليلٌ ... ولانهاري نهار
فارحم كئيباً حزيناً ... فؤاده مستطار
اردد عليّ سعادي ... يثيبكالجبّار
ثمّ خرّمغشيّاً عليه بين يدي أمير المؤمنين كأنّه قد صعق به قال: وكان في ذلك الوقت معاويةمتكّئاً، فلمّا نظر إليه قد خرّ بين يديه قام ثمّ جلس، وقال: إنّا لله وإنّا إليهراجعون. اعتدى والله مروان بن الحكم ضراراً في حدود الدّين، وإحساراً في حرمالمسلمين: ثمّ قال: والله يا أعرابي لقد أتيتني بحديثٍ ما سمعت بمثله. ثمّ قال: ياغلام عليّ بداوةٍ وقرطاسٍ فكتب إلى مروان: أمّا بعد، فإنّه بلغني عنك أنّك اعتديتعلى رعيّتك في بعض حدود الدّين، وانتهكت حرمةً لرجلٍ من المسلمين. وإنّما ينبغي لمنكان والياً على كورةٍ أو إقليمٍ أن يغضّ بصره وشهواته، ويزجر نفسه عن لذّاته. وإنّما الوالي كالرّاعي لغنمةٍ، فإذا رفق به بقيت معه، وإذا كان لها ذئباً فمنيحوطها بعده. ثمّ كتب بهذه الأبيات:
ولّيت، ويحك أمراً لست تحكمه ... فاستغفرالله من فعل امرئٍ زاني
قد كنت عندي ذا عقلٍ وذا أدبٍ ... مع القراطيس تمثالاًوفرقان
حتّى أتانا الفتى العذريّ منتحباً ... يشكو إلينا ببثٍّ ثمّأحزان
أعطي الإله يميناً لا أكفّرها ... حقّاً وأبرأ من ديني ودياني
إن أنتخالفتني فيما كتبت به ... لأجعلنّك لحماً بين عقباني
طلّق سعاد وعجّلها مجهّزةً ... مع الكميت، ومع نصر بن ذبيان
فما سمعت كما بلّغت في بشرٍ ... ولا كفعلك حقاًفعل إنسان
فاختر لنفسك إمّا أن تجود بها ... أو أن تلاقي المنايا بينأكفان
ثمّ ختم الكتاب. وقال: عليّ بنصر بن ذبيان والكميت صاحبيّ البريد. فلمّاوقفا بين يده قال: اخرجا بهذا الكتاب إلى مروان بن الحكم ولا تضعاه إلاّّ بيده. قالفخرجا بالكتاب حتّى وردا به عليه، فسلّما ثمّ ناولاه الكتاب. فجعل مروان يقرأهويردّده، ثمّ قام ودخل على سعدى وهو باكٍ، فلمّا نظرت إليه قالت له: سيّدي ما الذييبكيك؟ قال كتاب أمير المؤمنين، ورد عليّ في أمرك يأمرني فيه أن أطلّقك وأجهّزكوأبعث بك إليه. وكنت أودّ أن يتركني معك حولين ثمّ يقتلني، فكان ذلك أحبّ إليّ. فطلّقها وجهّزها ثمّ كتب إلى معاوية بهذه الأبيات:
لا تعجلنّ أمير المؤمنين فقد ... أوفي بنذرك في رفقٍ وإحسان
وما ركبت حراماً حين أعجبني ... فكيف أدعى باسمالخائن الزاني
أعذر فإنّك لو أبصرتها لجرت ... منك الأماقي على أمثالإنسان
فسوف يأتيك شمسٌ لا يعادلها ... عند الخليفة إنسٌ لا ولا جان
لولاالخليفة ما طلّقتها أبداً ... حتّى أضمّنّ في لحدٍ وأكفان
على سعادٍ سلامٌ منفتىً قلقٍ ... حتّى خلّفته بأوصابٍ وأحزان
ثمّ دفعه إليهما، ودفع الجّارية علىالصّفة التي حدّث له. فلمّا وردا على معاوية فكّ كتابه وقرأ أبياته ثمّ قال: واللهلقد أحسن في هذه الأبيات، ولقد أساء إلى نفسه. ثمّ أمر بالجّارية فأدخلت إليه، فإذابجاريةٍ رعبوبةٍ لا تبقي لناظرها عقلاً من حسنها وكمالها. فعجب معاوية من حسنها ثمّتحوّل إلى جلسائه وقال: والله إنّ هذه الجّارية لكاملة الخلق فلئن كملت لها النّعمةمع حسن الصّفة، لقد كملت النّعمة لمالكها. فاستنطقها، فإذا هي أفصح نساء العرب. ثمّقال: عليّ بالأعرابي.
فلمّا وقف بين يديه، قال له معاوية: هل لك عنها من سلوٍ،وأعوّضك عنها ثلاث جوارٍ أبكارٍ مع كلّ جاريةٍ منهنٍ ألف درهمٍ، على كلّ واحدةٍمنهنّ عشر خلعٍ من الخزّ والدّيباج والحرير والكتّان، وأجري عليك وعليهنّ ما يجريعلى المسلمين، وأجعل لك ولهنّ حظاً من الصّلات والنّفقات؟ فلما أتمّ معاوية كلامهغشي على الأعرابيّ وشهق شهقةً ظنّ معاوية أنّه قد مات منها. فلّما أفاق قال لهمعاوية: ما بالك يا أعرابي؟ قال: شرّ بالٍ، وأسوأ حالٍ، أعوذ بعد لك يا أميرالمؤمنين من جور مروان. ثمّ أنشأ يقول:
لا تجعلني هداك الله من ملكٍ ... كالمستجير من الرّمضاء بالنّار
أردد سعاد على حرّان مكتئبٍ ... يمسي ويصبح فيهمٍّ وتذكار
قد شفّته قلقٌما مثله قلقٌ ... وأسعر القلب منه أيّ إسعار
والله والله لا أنسى محبّتها ... حتّى أغيّب في قبري وأحجاري
كيف السّلوّ وقد هام الفؤاد بها ... فإن فعلت فإنيغير كفّار
فأجمل بفضلك وافعلفعل ذي كرمٍ ... لا فعل غيرك، فعل اللؤموالعار
ثمّ قال: والله يا أمير المؤمنين لو أعطيتني كلّ ما احتوته الخلافة مارضيت به دون سعدى. ولقد صدق مجنون بني عامر حيث يقول:
أبى القلب إلاّ حبّ ليلوبغّضت ... إليّ نساءٌ ما لهن ذنوب
وما هي إلاّ أن أراها فجاءةً ... فأبهت حتّىلا أكاد أجيب
فلمّا فرغ من شعره، قال له معاوية: يا أعرابي؟ قال: نعم يا أميرالمؤمنين. قال: إنك مقرٌّ عندنا أنّك قد طلّقتها، وقد بانت منك ومن مروان، ولكننخيّرها بيننا. قال: ذاك إليك، يا أمير المؤمنين. فتحوّل معاوية نحوها ثمّ قال لها: يا سعدى أيّنا أحبّ إليك: أمير المؤمنين في عزّه وشرفه وقصوره، أو مروان في غصبهواعتدائه، أو هذا الأعرابي في جوعه وأطماره؟ فأشارت الجّارية نحو ابن عمّهاالأعرابي، ثمّ أنشأت تقول:
هذا وإن كان في جوعٍ وأطمار ... أعزّ عندي من أهليومن جاري
وصاحب التّاج أو مروان عامله ... وكلّ ذي درهمٍ منهم ودينار
ثمّقالت: لست، والله، يا أمير المؤمنين لحدثان الزمان بخاذلته، ولقد كانت لي معه صحبةجميلة، وأنا أحقّ من صبر معه على السّرّاء والضّرّاء، وعلى الشّدّة والرّخاء، وعلىالعافية والبلاء، وعلى القسم الذي كتب الله لي معه. فعجب معاوية ومن معه من جلسائهمن عقلها وكمالها ومروءتها وأمر لها بعشرة آلاف درهمٍ وألحقها في صدقات بيتالمسلمين.

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

نقد كتاب إشكالية تطور مفهوم التعاون الدولي

31-كانون الأول-2021

نيوتون/جانيت ونترسون ترجمة:

22-أيار-2021

الـمُـغـفّـلــة – أنطون بافلوفتش تشيخوف‎

15-أيار-2021

قراءة نقدية في أشعار محمد الماغوط / صلاح فضل

15-أيار-2021

ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين

01-أيار-2021

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow