ملف / آراء حول الطبعة العربيّة لرواية عاموس عوز، الصادرة عن «دار الجمل»
2010-04-02
لسنا ندري من أي منطلق كتبت هذه القراءات عن هذه الرواية ، ولكن لدينا تعليق وحيد يقول أن الترجمة لا يجب أن تتقيد بترجمة كتابات الأصدقاء وإنما أيضا عليها أيضا أن تعطينا فكرة عن الطريقة التي يفكر بها العدو، وإذا كان الإجماع في هذه المقلات يدعي أنها رواية معادية فلا بأس في أن نقرأ كيف يفكر كاتب كنا نظنه غير معاد لنا
ألف
كيف نقرأ قاتلنا؟
بيار أبي صعب
هل صحيح أن الأدب لا يعترف بالحدود، وأنه «جسر بين الشعوب» وإن فرّقت بينها أنهار الدم؟ الفكرة مغرية لوهلة. لكنّها أجمل من أن تُطبّق بسذاجة على كل أدب، في أيّ مكان وزمان. حين يترجم المقموع أدب قامعه، وحين تقرأ الضحيّة أدب جلادها، يصبح الأمر أكثر تعقيداً. وحين تُنشَر اليوم في بيروت رواية مترجمة من العبريّة، ويكون صاحبها من غلاة الصهيونيّة، يحقّ لنا أن ننظر بعين نقديّة إلى الخلفيّات الإيديولوجيّة للنص وكاتبه. وأن نسأل الناشر العربي عن كيفيّة اختيار هذا العمل من دون سواه في الأدب الإسرائيلي؟ هل من خطّة نشر يندرج هذا الإصدار في سياقها؟ من أيّ زاوية يُقدَّم النص وصاحبه إلى القارئ العربي؟
الطبعة العربيّة لرواية عاموس عوز، الصادرة عن «دار الجمل» في ترجمة أدبيّة جميلة، يهديها إلياس د. خوري (ليس هناك ما يعرّف به ويوضح علاقته بالكتاب) إلى ابنه الشاب جورج، الذي قتله فلسطينيان من «عصابة» كتائب شهداء الأقصى، ربيع 2004، ظنّاً منهما أنه يهودي، فيما كان يمارس الهرولة في القدس الغربيّة. من هنا يدخل القارئ العربي إذاً إلى «قصّة عن الحبّ والظلام» التي تقدّم الأسطورة الصهيونيّة لنشوء إسرائيل، في قالب مثالي حميمي منزّه، وسط تغييب كامل للذاكرة الفلسطينيّة.
ليس في ملفّنا هذا أيّ نزعة تخوينيّة أو تكفيريّة. إنّه محاولة لتوضيح بعض المسائل الأساسيّة، ودعوة هادئة إلى التفكير والنقاش، مع احترامنا لناشر تميّز بنوعيّة إصداراته التي تجرّأت غالباً على المحظور الفكري والاجتماعي. أما تجاوز الثوابت الوطنيّة فمسألة أخرى: هل المطلوب أن نقلع عن اعتبار إسرائيل عدوّاً؟ وأن نعيد قراءة تاريخنا من منظور الرواية الصهيونيّة؟
أدب تجميل «اليوتوبيا الـصهيونية» وإنكار الآخر
تيودور هرتزلأنطوان شلحت*
ولد الكاتب الإسرائيلي «الأكثر شهرةً ومكانةً» عاموس عوز في القدس عام 1939، باسم عاموس كلوزنر، ابناً لفانيا ويهودا ـــــ آرييه كلوزنر، اللذين كانا ينتميان إلى صفوف «الصهيونية التنقيحية» بزعامة زئيف جابوتينسكي. ووفقاً لما كتبه في سيرته الذاتية الروائية «قصة عن الحب والظلام»، فإنّه في الـ15 من عمره، «بعد انقضاء عامين على موت والدتي، أقدمت على قتل والدي وعلى قتل القدس كلها، وغيّرت اسم عائلتي، ويمّمت بمفردي شطر «كيبوتس حولده» كي أعيش هناك فوق الأنقاض». ويؤكد في سياق لاحق، أنّه قتل والده بمجرّد تغيير اسم عائلته.
كان هذا الانتقال بمثابة «نقلة» فكرية من صهيونية جابوتينسكي، التي رفعت لواء «إعادة المجد التليد إلى شعب إسرائيل في وطنه التاريخي، ما بين البحر والنهر، وإقامة الهيكل الثالث في تلك الرقعة الجغرافية» إلى صهيونية دافيد بن غوريون (حركة العمل) التي والفت بين الأوضاع الميدانية والظروف الموضوعية في فلسطين من جهة، والغاية الأيديولوجية من جهة أخرى. ومهّدت لإقامة الكيان الإسرائيلي بواسطة احتلال الأرض واحتلال العمل، بادئ ذي بدء.
منذ بداية الستينيات من القرن المنصرم، وتحديداً إثر حرب حزيران (يونيو) 1967، يُعدّ عوز أحد الوجوه البارزة في ما يسمّى «حركات السلام الإسرائيلية» التي ترفع لواء تقليص رقعة الاحتلال الصهيوني في فلسطين، في مقدّمها حركة «السلام الآن» (تأسست في عام 1977).
وفي عام 2003، كان عوز من بين المبادرين إلى «وثيقة جنيف». يومها، نشر في صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيليّة مقالاً طويلاً، مما جاء فيه: «قلتُ لياسر عبد ربه وبعض رفاقه: علينا أن نقيم ذات يوم نصباً تذكارياً مشتركاً للحماقة الفظيعة، حماقتكم وحماقتنا. ألم يكن في وسعكم أن تصبحوا شعباً حُراً قبل خمسة وخمسين عاماً وقبل خمس أو ستّ حروب وقبل العديد من القتلى ـــــ قتلاكم وقتلانا ـــــ لو وقَّعتم على وثيقة مماثلة عام 1948؟ أما نحن الإسرائيليين، فكان في وسعنا أن نحيا آمنين بسلام لو أننا عرضنا على الفلسطينيين عام 1967 ما تقترحه هذه الوثيقة الآن، ولو لم تتملكنا ثمالة المنتصر المغرور بعد احتلالات حرب الأيام الستة». وفي عام 2008، كان عوز في عداد المؤسسين لـ«حركة ميرتس الجديدة»، معترفًا بأنّ حزبه السابق (العمل) «أنهى دوره التاريخي».
إضافة إلى أعماله الأدبية، نشر الكاتب الكثير من المقالات في الشأن السياسي العام في وسائل الإعلام الإسرائيلية والفلسطينية. وفي هذه المقالات كلها، ظلّ يجاهر بصهيونيته «العمّالية» وتعارضه الشرس مع «اليسار المناهض للصهيونية». أما الحرب الإسرائيلية على غزة، فأعلن عوز تأييده لها في البداية، ثم دعا إلى إيقافها بعدما «لُقّن الفلسطينيون درساً»، مبدياً تحفّظه على بعض ممارسات إسرائيل خلالها. ومما كتبه في هذا الشأن: «لن تربح إسرائيل شيئاً من استمرار الهجمات على غزّة. فسكّان القطاع لن ينتفضوا على «حماس»، ولن تقوم في غزّة سلطة صديقة لإسرائيل، كما أنّه من شأن عملية عسكرية برية أن تؤدي إلى التورط والغرق في المستنقع الغزاوي الذي يعدّ أسوأ كثيراً من المستنقع اللبناني».
في إحدى مداخلاته عن «دور الكاتب في المجتمع»، قال إنّه ينبغي للكاتب «العمل لمصلحة الآخرين، وعدم غضّ الطرف عنهم. إذا ما صادف حريقاً، لا بُدّ من أن يحاول إطفاءه. وإذا لم يكن في حوزته دلو ماء، يمكنه استعمال كأس. وإذا لم يتعثر على كأس، يمكنه استعمال ملعقة كبيرة. وفي حال عدم توافر مثل هذه الملعقة في متناول يده، يمكنه استعمال ملعقة صغيرة».
غير أن معاينة سريعة لأدب عاموس عوز ـــــ بما في ذلك سيرته الروائية ـــــ سرعان ما تشي بأنّ الغاية الأهم المضمرة لعملية إطفاء الحرائق هي غاية متمحورة حول الذات، وفحواها تجميل الكينونة الإسرائيلية، ضمن وجهة «تأخذ في اعتبارها الحاضر أساساً، لا الماضي التاريخي فقط» مثلما قال. بكلمات أخرى، فإنّ هذا الكاتب الإسرائيلي يبدو الأكثر إخلاصاً لـ«اليوتوبيا الصهيونية»، وفق ما هجس بها مؤسِّس هذه الحركة تيودور هرتزل في أواخر القرن التاسع عشر، من خلال تجاهل وجود الآخر، أي الشعب الفلسطيني، وتجاهل حقوقه فيما بعد. وبذلك، فإنه يواصل تقاليد أسلافه من «أدعياء السلام» الذين سبق أن استأنفوا هذه «اليوتوبيا» من موقع الحماسة لها، لا من موقع البديل الراديكالي.
عند هذا الحد، تجدر استعادة ما قاله أكثر من باحث في تاريخ الصهيونية، من منظور اجتماعي ـــــ ثقافي، بشأن انعدام بديل راديكالي أو ثوري في إسرائيل لخطاب استعمار فلسطين، في احتمالاته القصوى. ولعل ما ينبغي الالتفات إليه، أكثر من سواه، أن النقاش في السمات الأساسية لليوتوبيا الصهيونية، جرى منذ البداية بين فريقين غير متكافئين: الفريق الأول ضمّ أولئك الذين شرعوا، على هدى من أفكار هرتزل بشأن عملية الاستعمار في فلسطين، اعتماداً على الإمبراطورية القائمة وقتئذٍ وصلاتهم بها، في تحقيق أهدافهم في أقصر فترة ممكنة. ورغم وجود اختلافات بين الصهيونية اليمينية واليسارية بشأن الأولويات والوسائل، إلا إنهما ألّفتا جزءاً من هذا الفريق الأول، وكانتا على اتفاق بشأن العقائد الأساسية للصهيونية السياسية. أما الفريق الثاني، فضمَّ طاقماً متنافراً من الليبراليين والاشتراكيين والشيوعيين الذين وجدوا طريقهم إلى فلسطين بسبب ما يسمَّى «العداء للسامية» في أوروبا، لا بسبب العاطفة الصهيونية المشبوبة.
ويؤكد الباحث والأستاذ الجامعي الإسرائيلي حاييم بريشيت، في سياق دراسته «صورة الذات والآخر في الصهيونية ـــــ فلسطين وإسرائيل في الأدب العبري الحديث» (ظهرت ترجمتها العربية في كتاب «هوية الآخر» من إعداد الكاتب والباحث الفلسطيني حسن خضر، 1995)، أن الصراع بين الفريقين المذكورين لم يكن صراعاً على الاتجاه بين السائد والبديل. ذلك أنه كان على البديل بالضرورة أن يوجد خارج الصهيونية، وألا يقدّم معارضة لها فحسب بل برنامجاً بديلاً أيضاً. لكنّ ذلك البديل لم يوجد داخل الطائفة اليهودية في فلسطين (الييشوف). ولم يوجد على الأقل كجماعة تحظى بأدنى نفوذ سياسي وثقافي حقيقيّين. ولذلك، جرت المناظرة، في أقصى حدودها، بين أشكال عدوانية صهيونية مهيمنة وفريق من النقاد، الذين بدلاً من النأي بأنفسهم عن الاتجاه الصهيوني ومحاربته على طول الخط، كانوا إصلاحيين ولم يكونوا راديكاليّين أو ثوريين. وقد أُطلقت على نقد من هذا النوع، تسمية «النقد التجميلي»، لأن خلافاته تركّزت على الطرق والوسائل لا على الغايات.
وثمة عرض واضح وصريح جداً للعلاقة غير المتضادة بين الاتجاه المهيمن ونقّاده في كتاب عاموس عوز «في ضوء السماء الساطعة الزرقة» (1977)، الذي راح في أحد مقالاته يشرح كيفية قيام شراكة بينه وبين دعاة «أرض إسرائيل الكبرى»، وخصوصاً «في العداء لأولئك الذين يترقبون الجهة التي ستهبّ نحوها الريح». ويرى بريشيت أن فعلة عوز هذه تعبّر عن وضع فريد حقاً لكل شخص يريد الإيهام بأنه حركي على جبهة اليسار. زد على ذلك أنّه بالنسبة إلى عوز وآخرين من أمثاله في الجماعات اليسارية الصهيونية (في الطيف الذي يبدأ من حزب «العمل» حتى حركة «السلام الآن»)، تبدو المشاعر التي تربطهم باليمين اليهودي المتطرف أقوى من أي ميول إيجابية لديهم تجاه الفلسطينيين. وهذا الإحساس بالانتماء لا إلى اليسار، بل إلى تقاليد خلفتها قوى رجعية يسيطر عليها الآن اليمين المتطرف، قد يفسِّر كل تلك الصوَر التي ينتجونها عن فلسطين والفلسطينيين.
الصهيونية واحدة، بيمينها ويسارها، رغم بعض الاختلافات على الأولويات والوسائل
كذلك فإن هذه العنصرية الكامنة، هي التي تفسّر عجز كفاح الإصلاحيين التجميليين (رغم أنه الأكثر مدعاة للتعاطف والقبول في منظومة قمعية)، عن تقديم أي خيار حقيقي أو مقاومة ثابتة للفكر المهيمن. إن مثل هذه السيرورة ليست مستمرة إلى يومنا هذا فحسب، بل راكمت ولا تنفك تراكم المزيد من «نقاط القوة» في الآونة الأخيرة، بحيث يمكن ترجمة المعادلات السالفة إلى «حقائق سياسية كاملة» على الأرض.
ولعل هذا ما يفسر أيضاً أن القلق المنثور بتورية في بعض نماذج الأدب الإسرائيلي، المجاهر بمشاعر الكمد جرّاء فقدان «اليوتوبيا الصهيونية»، وجرّاء الموقف من الإنسان العربي، لم يتجاوز سقف الافتراض بـ«وجود حلم صاف وبريء أصبح بطريقة ما ملطّخاً». ولذا لا يلقى اللوم، عادة، على ذلك الحلم، بل على طريقة تحقيقه «التي لم تكن في مستوى الجنة الموعودة». بينما الحقيقة البسيطة تقول إن ذلك الحلم ولد ملطّخاً، لأنّ هناك صدعاً مميتاً في صميم تكوينه... وهذا الصدع قام ويقوم على «إنكار الآخر»، إذا شئنا استعمال المصطلحات الحداثية و... المهذّبة!
* كاتب وناقد فلسطيني من عكا
أ
داعية السلام» الذي أيّد كل حروب إسرائـيل
حيفا ـــ فراس خطيب
لا نعرف من أين استقى «المحتفون» العرب بترجمة عاموس عوز إلى لغة الضاد معلوماتهم عن «يساريته»؟ ولا نعرف أيضاً كيف يتبرع عددٌ من النقّاد العرب بتصوير عوز على أنّه «داعية سلام»، مسجّلين بهذا موقفاً منقوصاً عن خلفية الرجل وفكره وموقفه. علماً بأنّ دعاة السلام الحقيقيين من اليهود الإسرائيليين هاجموا عوز في أكثر من مناسبة. ترجمة الأديب الإسرائيلي الأبرز إلى العربية حدثٌ يستدعي نقاشاً ضرورياً. لكن من الخطأ وضع الترجمة في سياق يبدو فيه الرجل كأنّه يستحق دخول الضاد من دافع «نشاطه السلمي». هذا أمر أبعد ما يكون عن الواقع، وخصوصاً أننا لا نعرف أيّ «داعية سلام» هذا الذي يدعم الخروج إلى الحروب الإسرائيلية كلها، أو على الأقل يَدعم حروباً «ذات أهداف محددة».
لقد انطلت «تقدميّة» عوز على بعض المثقفين العرب عن سذاجة في أفضل الأحوال، وقصور في الوعي ربّما... أو لأنّهم يسعون بكل الوسائل إلى أنسنة إسرائيل. انبهر بعضهم بتأييده «حل الدولتين» (معظم قادة الدولة العبرية يؤيدون حل الدولتين)، أو أُعجبوا بإدانته لـ«كذبة اليسار» (الإسرائيلي). علماً بأنّ عوز وأمثاله من الأدباء الإسرائيليّين أمثال أ. ب. يهوشوع، وديفيد غروسمان، هم «كذبة» اليسار أصلاً، إن لم يكونوا من مبتكريها. ويكفي العودة عاماً إلى الوراء، عشيّة العدوان على غزة، وقراءة مقالة عوز المؤيدة للحرب على الصفحة الأولى من «يديعوت أحرونوت»، الصحيفة الإسرائيليّة الأوسع انتشاراً.
لم تكن زمرة الجنرالات الإسرائيليين تحتاج إلى تصديق المرشح الأزلي لجائزة «نوبل للآداب» (ثمة من أراد ترشيحه لـ «نوبل السلام») على العملية العسكرية. إلا أنّ عوز اختار التبرّع بصوته لشرعنة «الحرب الدفاعيّة». تحوّل عوز إلى منظّر عسكري يدعو القوات الإسرائيلية إلى شنّ حملة عسكرية «محدّدة»، متناسياً أنّ جيشه يقصف منطقة هي الأكثر اكتظاظاً في العالم. وحين احترقت غزة، فهمَ «اليساري» أنّ عليه المطالبة بـ«وقف الحرب» بعدما هوت أخلاقياته أرضاً أمام العالم. راح يبرّر موقفه، لكن من دون الاعتذار عنه، وتذرع بأنّه أيّد «عملية عسكرية محددة» ولم يكن العدوان على غزة، الحرب الوحيدة التي أيّدها عوز: من يفتش أكثر، سيجده مؤيداً للحروب الإسرائيليّة كلها، لكنّه مصمّم ـــــ كالمحتفين به عربيّاً ـــــ على أنه «يساري يدين القتل». وهو يعرف أنّ «العملية العسكرية المحددة» تعني حرباً طاحنة في قاموس سلاح الجو الإسرائيلي.
من هذا المنطلق، لفتت اليهودية التقدّمية في حزب «التجمع الوطني الديموقراطي» وصاحبة «دار أندلس للنشر» ياعيل ليرر، إلى ضرورة وضع ترجمة عوز إلى العربيّة في سياقها الصحيح، عوضاً عن الاحتفاء المجاني بها و«تقديمها خدمةً للاحتلال والتطبيع معه». في رأي ليرر، هناك ضرورة إلى ترجمة عوز إلى العربية، كي يعرفه قرّاء الضاد ويفهموا مواقفه. «هذا هو النوع من الأدب الذي يحبه الإسرائيليون، وإذا أردنا أن نعرف المجتمع الإسرائيلي، فعلينا أن نعرف الثقافة التي يتربّى عليها، وفي طليعتها مؤلفات عوز»؟ كل المسألة تكمن في كيفيّة تقديم تلك الترجمات. وتستدرك ليرر: «بعض روايات عوز تنضح بعنصرية واضحة ضد العرب واليهود الشرقيين».
يعمل عوز اليوم محاضراً وباحثاً في مجال الأدب. الروائي القادم من قلب «الييشوف» اليهودي في فلسطين، ترعرع في بيئة محبّة ومختصة بالأدب. عندما كان في الثالثة عشرة من عمره، وضعت أمّه حداً لحياتها. وهذه الحادثة استرجعها في «قصة عن الحب والظلام»، الرواية المعرّبة عن «دار الجمل» ومناسبة هذا الملفّ. وذكر أنّه بعد عامين على وفاة أمّه، غيّر اسمه من عائلة كلوزنر إلى عوز. خدم في وحدة الناحل في الجيش الإسرائيلي. حصل على اللقب الأول من الجامعة العبرية في موضوعات الأدب والفلسفة. وبعدها، واصل دراسة الفلسفة في جامعة «أوكسفورد». وفي عام 1965 أصدر مجموعة قصصية، قبل أن يصدر بعدها بعام روايته الأولى «مكان آخر ربما». عام 1968، حقق قفزة نوعية من خلال رواية «ميخائيلي» (عرّبها رفعت فودة تحت عنوان «حنة وميخائيل»، وصدرت عن «الدار العربيّة للطباعة والنشر والتوزيع»، القاهرة ـــــ 1994). بعد هذه الرواية، تربّع عوز على عرش الأدب الإسرائيلي.
حين هوجم الكاتب المذكور على «فشله الأخلاقي» في عملية «الرصاص المصبوب»، من جانب عضو الكنيست دوف حنين في صحيفة «هآرتس» (30/1/2009)، قال في معرض رده للصحيفة ذاتها: «في مقالة نشرتها عشية الحرب، حذرّت من مخاطر القتل الجماعي في غزة، وأيّدت عملية عسكرية محددة، مركّزة، ضد «حماس» لا ضد آخرين». وأضاف إنّه لا يعتقد أنّ إسرائيل «ملزمة دوماً بمد خدّها الأيسر»، مضيفاً «طالبتُ بوقف العملية العسكرية بعد يومين على بدايتها، حين تبيّن أنّها لم تكن مركّزة ولا محدّدة». قد يليق هذا الخطاب بجنرال احتياط بعد خدمة عقود في الجيش. وبالتأكيد، لا يليق بـ«داعية سلام»، وخصوصاً أنّ هذا الأديب يدرك أنّ الدولة العبرية ـــــ في حروبها قاطبةً القصيرة منها والطويلة ـــــ قامت على ذبح المدنيين.
أيّد عوز «بدايةً» الحرب على لبنان عام 2006. وحين تورّط رئيس الحكومة الإسرائيليّة السابق إيهود أولمرت بنتائج الحرب التي لم تحقّق أهدافها، سعى المقرّبون منه إلى إطلاق حملة إعلامية كبيرة تهدف إلى «فضح» معارضي أولمرت، الذين أيّدوا الحرب قبل اندلاعها وهاجموه بعد نهايتها. هكذا، جمع المقربون من أولمرت اقتباسات عدّة أيّدت الحرب قبل اندلاعها. وكان عوز من بين هؤلاء المتذبذبين. حتّى إنّ أولمرت اقتبس عن عوز قوله: «لو أن إسرائيل لم تردّ رداً عسكرياً على هذا الاستفزاز (استفزاز «حزب الله»)، لكانت ستشرعن نظرية بيت العنكبوت، وستستدعي استفزازاً أكبر» (الخبر نشر في موقع «واينت» الإسرائيلي بتاريخ 30/4/2007).
هذه بعض مواقف عوز، كما وردت على لسانه، قبل أن يتبرّع النقّاد العرب بتنقية صورته. لقد تقمّص هذا الأديب أدواراً عدّة على مسرح الاحتلال. يؤيد الحرب في «يديعوت أحرونوت» ويدعو إلى السلام في صحيفة الـ«أندبندنت» البريطانية. لقد أتقن صورة «الوجه العقلاني» حاملاً نظرية «الجانبين» كأنّ طرفي الصراع مذنبان. هكذا يحتفي بعض العرب بكلامه المعسول والعقلاني والرزين كأنّ معاداة قتل الأطفال (بعد تأييد الحرب عليهم) هي «قيمة إنسانية». كأنّ الشعوب العالقة من وراء الجدران الإسمنتية، جانب في الصراع الذي يحلّله عوز، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الشعب الأعزل العالق منذ سنوات في سجنه غير المسقوف في غزة. أقحم عوز نفسه ـــــ وبرضاه التام ـــــ في الماكينة الترويجية الإسرائيلية التي تؤيد الحروب فعلياً وتدعم «السلام» لفظيّاً فقط.
تذهب ياعيل ليرر المقيمة في باريس أبعد من ذلك، إذ تصنف عوز بـ«الظاهرة الخطيرة، وأحد المسوّقين للبروباغندا الإسرائيليّة. هو ينتمي إلى هؤلاء الذين يظهرون في أوروبا كأنهم يريدون السلام، مع أنّهم يدعمون كل الحروب». وتلفت ليرر إلى أنّ «الخطر لا يكمن في دعوته إلى السلام وتأييده الحرب في الوقت نفسه، بل إن الخطورة تكمن أوّلاً في أنّ عوز من أكبر منتجي الدعم الأوروبي لإسرائيل. لأنه مثقف يمنح صورة للأوروبيين مفادها: نحن مثلكم، ونحن مثقفون مثلكم، ونتكلم بلغتكم، ونحمل قيمكم نفسها».
ورأت ليرر أنّ هناك مَن هم أحقّ بالترجمة إلى العربيّة من بين أدباء العبريّة. «هناك من هم حقيقيون وصادقون أمثال أهارون شبتاي، الذي رفض أن يكون جزءاً من ماكينة البروباغندا الإسرائيلية، حين رفض المشاركة في معرض الكتاب في باريس الذي أقيم في مناسبة مرور 60 عاماً على قيام إسرائيل» (المعرض الذي شارك فيه عوز إلى جانب 40 كاتباً إسرائيلياً مع شيمون بيريز). “هناك أيضاً شعراء وسينمائيون وفنانون إسرائيليون يقولون كلمتهم بصدق وهم من أصحاب المواقف الواضحة».
تكمن خطورة عوز في أنّه من أكبر منتجي الدعم الأوروبي لإسرائيل (ياعيل ليرر)
بالمختصر، فإنّ خطورة الدور الذي يؤدّيه عوز في البروباغندا الإسرائيليّة يكمن في كونه لا يلبس زياً عسكرياً، ولا يلقي خطابه من معسكرات سلاح الجو، بل من على منابر فكرية، يسمعها ويقتنع بها كثيرون لكونها صادرة عن أديب وكاتب «يساري» له وزنه، لا عن رجل سياسي. حين يؤيد عوز عدوان تموز على لبنان عام 2006، أو عدوان غزة عام 2009، فإنّ الرأي العام لا ينظر إليه كما ينظر إلى وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان. عوز ـــــ في نظر المتلقّين ـــــ دعايته أقوى كأنه رجل سلام.
ولا يخفي عوز مواقفه الصهيونية. إذ قال ذات مرة: «أنا مقدسي من «موديل» الأربعينيات. هذا يعني أنّني من أحفاد اللاجئين المنذهلين القادمين من شرق أوروبا، محمّلين بعلاقة حبّ وكره لأوروبا. وإذا كان ثمّة أمر يثير غيرتي لدى الجيل الشاب الجالس في شينكين (أحد شوارع تل أبيب)، فهو أنّه يمتلك مخاوف أقلّ، وربما كان هذا النجاح الأكبر للصهيونية. أمّا أنا، فلن أتحرّر من مخاوفي أبداً. أعيش دوماً مخاوف بأنّ هذه السفينة هي قشرة جوز في الأوقيانوس
«العوزي» اللبق و«هديل» الدبابات
القدس المحتلة ـــ نجوان درويش
غالباً ما يصوِّر عاموز عوز (1939) قضيّة الصراع العربي الصهيوني بتشبيهات أدبية طريفة وتبسيطية، يمكن أن تغرّ أصحاب المعرفة السطحية بالمشروع الصهيوني وبالقضية الفلسطينية. كأن يشبِّه «الصراع» بعلاقة طلاق تستدعي تقاسم البيت. وغالباً ما تخفي استعاراته التبسيطية منطقه الاستعماري ــــ حين تتجاهل الواقع الاستعماري وتسمّيه «صراعاً».
يردّد عاموس عوز الذي انتقلت روايته «قصّة عن الحبّ والظلام» أخيراً إلى المكتبة العربية عن «دار الجمل» (راجع البرواز أقصى اليسار)، أنّ «الصراع» هو بين الحق اليهودي والحق الفلسطيني. لكن فهمه لإحقاق الحقوق مسألة أخرى. هو مع «دولة» فلسطينية يمكن اللاجئين العودة إليها، لكن لا إلى أرضهم التي عليهم أن يعترفوا بأنّها «إسرائيل». هو مع «دولة فلسطينية» ضرورية لترسيخ المشروع الصهيوني وتصفية القضية الفلسطينية.
أيّد العدوان الأخير على غزة تحت لافتة «لإسرائيل حقّ الرد وحماية نفسها»، لكنه يستدرك بأنّ «الرد» كان مبالغاً فيه وينتقد المبالغة. ولم يكن الأمر مختلفاً في عدوان تموز 2006 حين وصف المقاومة اللبنانية بالإرهاب، محوّلاً الأنظار عن الإرهاب الحقيقي، الإسرائيلي بطبيعة الحال. إنه لا ينتقد الجرائم الإسرائيلية باعتبارها جرائم مخزية، لكن باعتبار أن الحضارة تستدعي إتقان الجرائم! وكذلك بالنسبة إلى الجدار الإسرائيلي. هو يدافع عن بنائه بل يراه ضرورياً، لكنّه يعترض على التجاوزات في مساره. ومن يشاهد المقابلات التلفزيونية التي يجريها عوز، فسيرى كم يمكن الفاشية أن تكون أنيقة ولبقة في تقديم نفسها!
وعوز من أكثر الكتاب الإسرائيليين حضوراً في الإعلام الغربي، حيث يقدّم خطاباً صهيونياً معدّلاً، جذاباً في الظاهر لكنه عنصري واستعلائي ومزيّف حين يُفحَص في ضوء ما يجري فعلاً على أرض الواقع.
لكن إن كان عوز مجرّد بيّاع حكايات فاشي، فهل يمكن ترويجه كـ«روائي كبير» و«يساري»؟ نعم هذا ممكن، إذا ما راجعنا كيف صُنعت صورة عاموس عوز في العالم، وكيف يقدّم منذ سنوات في العالم العربي. وهو ما يشير إليه الباحث أحمد أشقر (نشرة «كنعان» الإلكترونية ـــ تموز/ يوليو 2009): «يُسَوَّق عوز بالقول إنه «يساري»؛ ليس من «اليسار الصهيوني» فحسب، بل من حلفائهم العرب الذين باتوا يتحالفون أيضاً مع اليمين الصهيوني وبعض الأوساط الليبرالية في العالم». أما عن كون عوز من «أكثر الكتّاب «الإسرائيليين» ترجمةً وانتشاراً في العالم، فيذهب أشقر إلى «أنّ هنالك دوراً مهمّاً للمؤسسة الإسرائيلية في مسألة تسويقه كـ«يساري»، فهي بحاجة إلى بوق إعلامي يتحدث بخطاب شكليّ مغاير للغة السياسيين».
قبل سنوات، سمعت من أحد المثقفين اللبنانيين المهووسين بكل ما هو إسرائيلي، الاعتراف الآتي. بعدما قرأ مجموعة من روايات عوز بترجمات فرنسية، كان المسكين مضطراً للقول في لحظة صدق: «أهذا الذي خبصوا الدنيا بأدبه؟ إن روايات عوز لا تزيد على سيناريوات أسامة أنور عكاشة»! جملة مماثلة من شخص قد لا يشاركنا الموقف من المشروع الصهيوني ورموزه ومنتجاته، لا بد من أن تدفع المتحمّسين إلى التفكير قليلاً في القيمة الأدبية لروايات عوز، ولا سيما أنه يقدَّم ــــ وفي بلاد العرب أخيراً ــــ على اعتباره «روائياً كبيراً» وأن هذه «حقيقة» مسلّم بها! وهو تسليم يبدو بسيطاً مقارنة بسذاجة التسليم به «يسارياً» و«داعية سلام». الأمر إذاك يشبه من يرى في الرشّاش (وليكن «العوزي» إذا أردتم اللعب على الاسم) غصن زيتون أخضر.... ومن شنّف أذنيه بـ«هديل» الدبابة!
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |