لاهوت محمد: سياسي أم ديني؟ / حمود حمود
2010-05-07
"إنّ العقيدة هي شرّ ما يملكه أهل العلم وهي الرقيب الداخلي الذي لا يقل سوءاً عن الرقيب الرسمي، والمسؤولة عن تكوين الوجدان القمعي للأفراد ومصادرة حرية الضمير. وهي إذا كانت مفيدة لتحريك الجمهور في منعطف تأريخي معيّن يجب أن تبقى في منأى عن العقل الباحث لئلا تكون كما يقول الغزالي حجاباً يمنع من النظر إلى حقائق الأشياء". هادي العلوي(1)
سياسي أم ديني؟ أم بنية سياسية دينية Political Religious ومخيالية واحدة ومجتمعة كان ينطلق منها محمد؟ ليس من السهل الإجابة على سؤال إشكاليّ مثل هذا، تنبع أشكلته المعرفية من خلال ضوء الحقل الإبستمولوجي الذي يتناوله، سواء بواسطة أدوات أنثروبولوجيا الدين أو علم النفس الديني Religious Psychology؛ خاصة إذا كان القلم الذي يتناوله متلوّناً بألوان إيديولوجية تنطلق من بُعْد وخلفية معرفيتين تفصل بينهما وبين موضعة السؤال تاريخياً وسسيولوجياً شقّةٌ زمنية طويلة من الصعب القبض عليها إبستمولوجياً بكلّ ما يتطلّبه الإلمام المعرفيّ من استحقاق منهجيّ. لا نهدف بهذا الكلام إلى إماطة اللثام على هذا البعد الزمني الذي يفصلنا عن شخص محمد، وإنما استنطاق محمد تاريخياً، وفقاً لنافذته الجدلية، وداخل أروقته التاريخية التي أفرزت سياقه وأنتجت قرآنه، مروراً به عبر نفق تاريخيّ - لم يبتدئ عند اللحظة المعرفية التي كان ينهل منها محمد-، وضمن عملية تجادل ديالكتيكية بأرفع الوسائل المتاحة حينها بين الواقع الذي ولد من رحمه من جهة، وبين الحدث القرآني الذي لولا الحاضنة التاريخية لما ولِد بالشكل الذي سار عليه تاريخ محمد وقرآنه من جهة ثانية. وبكلمات أخرى: إنّ أيّ مناقشة جادّة تريد البحث في أيّ ظاهرة تاريخية (وهنا لاهوت محمد) لا بدّ أن تنطلق بالتراتب من زوايا عدّة، منها على سبيل المثال:
أ) استقصاء سياقها التاريخيّ بحثاً، وتفكيكه ابستمولوجياً، ومن ثمّ الخضوع معرفياً (بكلّ ما تعنيه الكلمة) إلى شروطه واستحقاقاته الجدلية والمادية التي كانت تنطق بالحدث، والتي كانت تمثّل رحمه التاريخيّ بشكل أو بآخر. وهنا ربّما نصل إلى البعد الذي اكتنفه وانطلق منه الحدث: فربّما نكتشف سياسيته أو اقتصاديته أو دينيته---الخ فنعامل الحدث أو الظاهرة ضمن الحقل الذي انتمى إليه بشروطه التاريخية، لا بشروطنا نحن.
ب) لا بدّ أن يأتي الحكم مصاغاً بناءً على ما يتوصّل إليه الباحث من خلال تفكيكه السياق واكتشاف بنيته الكونية المحركة والبعد المعرفي والتاريخيّ، وليس انطلاقاً من خلفيته الإيديولوجية التي يَمْتحُ منها الباحث. يأتي هذا الكلام مع عدم إغفال أنّه ليس ثمّة كتابة بريئة بالمطلق؛ فكلّنا لنا هواجسنا وهمومنا المعرفية والإيديولوجية الحاضرة، ولا مهرب من هذه الهموم للتخلّص، ولو قليلا، من ظلالها التي لا تشاء إلا أن ترمي بثقلها أثناء الكتابة أو البحث؛ وبالأخص أننا نكتب في مجال علوم إنسانية لا رياضية أو طبيعية.
الحديث عن لاهوت محمد هو بكل بساطة حديث عن السياق المادي الذي أنتج محمداً والذي كان لاهوته يَمْتحُ من إفرازاته وتحولاته التاريخية، والتي انعكست على محمد فلفظها قرآناً أو كما وصفه هو: بـ كلام الله؛ إضافة إلى ما تولّد في مخياله السياسي والديني وأهدافه التي كان يبغيها، وما حدث من تطورات على صعيد فكره بتأثير الثقافات الحافة بشبه الجزيرة العربية، وتلك التي كانت تسكن في رحمها، ذلك أن الفكر لا ينشأ من فراغ ولا يستطيع أن يثبت ذاته إلا أن يتقاطع معرفياً مع ما سبقه، فيعدّل أو يحذف أو يترك أو يضيف إلى ما سبقه طبقا لماً تقتضيه المصالح؛ يقول كلود ليفي شتراوس في صدد الأسطورة وهذا ينطبق على نوعية أيّ فكر: «الأسطورة هي عبارة عن قصر إيديولوجي مبنيّ بواسطة حصى وأنقاض خطاب اجتماعي قديم(2)». ومن الصعب في هذه العجالة التحدث عن هذا العنوان والقبض على استحقاقاته التي يتطلبها كاملة، خاصة إذا أدخل ضمن إطار حقل علم النفس الديني، منطلقاً أوّلاً وقبل كلّ شيء من تلك الخلفية المادية والتاريخية التي اكتنفت محمداً واحتضنته. لذا سنقارب هذه العجالة بمثال ليس غريباً علينا، تحدّث عنه وبه القاصي والداني، سواء أكانوا من أحباب محمد أو من أعدائه، وهو ظاهرة الآيات الإبليسية أو الشيطانية Satanic Verses التي شغلت وما زالت تشغل قريحة الكثير من الباحثين المستشرقين والعروبيين والمسلمين. ولنلاحظ هنا استسهالية التخبط الإيديولوجي في تناول هذه الظاهرة والتعامل معها: أولئك يريدون تناولها بصفتها مطعناً يصيب ويطعن خاصرة محمد النبوية (التي كان يتّكئ عليها ويقول إنّه يمتلكها)، ونخصّ بالذكر هنا بعض أقطاب الاستشراق الكلاسيكي (استشراق ما قبل القرن الثامن عشر) قبل أن يتبلور أكاديمياً بفعل انتشار ترجمات التراث الإسلامي، وتصحيح الكثير ممّا ترجم سابقاً وتوسّع المعارف والعلوم، مما أدّى إلى التخفيف من حدة الإيديولوجية في تناول الظاهرة المحمدية والقرآنية والشرق، وإعادة خلق الشرق على وجه العموم. فلم يعد يطلق عليه مثلاً اسم "الماهوند" Mahound (الذي كان يعتبر اسماً من أسماء الشيطان(3)) بل محمّد؛ هذا بغضّ النظر هل نُظرَ إليه كنبيٍّ أم لا، وأصبح يُتعامل معه بطريقة تختلف جذرياً عمّا سبقها(4). وآخرون ممّن يحسبون من أقطاب الإسلام العقلاني المتجدّد يتناولونها بتلفيق وتوفيق أحياناً وإنكار لبعض الروايات أحياناً أخرى أمثال "محمد حسين هيكل(5)". وبالتأكيد لن ننسى السلفويين ممّن يريدون حشر كلّ الدلائل الدينية (بالأخص ما يسمّى في ميدان مصطلح الحديث عندهم بـ علم الجرح والتعديل) لإنكار هذه الحادثة مثل أحد سدنة المقدّس وحرّاسه الرئيسين: "محمد ناصر الدين الألباني" في رسالته: "نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق". طبعاً لسنا معنيين في هذا السياق بمناقشة الصنف الأخير الذي يمتلك هو الآخر لاهوتا سلفويّا خاصّا جديرا بالدرس لوحده.
أحبّ أن أشير سريعاً إلى المقصود من مصطلحَي "ديني وسياسي" في سياق المقال هذا. فحينما نطلق مثلاً مصطلح "ديني" فلا بدّ من التمييز –على الأقلّ من الناحية التفكيكية المعرفية- بين الفكر الديني لمحمّد في مكة، وبين فكره اليثربيّ الذي حدثت فيه عملية انزياح كبيرة عن السابق المكّي. لماذا؟ لأنّ لكلّ مرحلة زمنية شروطها التاريخية (من اقتصادية وسياسية واجتماعية) ممّا أثّر على بنية محمد النفسية والفكرية، فوجدت من ثمّ انعكاسها على بنية القرآن وأسلوبه. أمّا من جهة مصطلح "سياسي" فلا يقصد به (وبالأخص في مكة) ما نفهم منه نحن عادة: فلاهوت السياسة في مكة يختلف جذرياً عن لاهوت السياسة في يثرب؛ بمعنى أنّ استغلال العوامل والشروط في مكّة سواء الإيديولوجية أو المادية والتفاعل معها وغربلتها من ثمّ بما تقتضيه ظروف "الدين الجديد" (ليس جديداً بمعنى الجدّة وإبداع شيءٍ جديدٍ في الواقع) هو ما يقصد به بـ سياسي مكة الذي تمثل بوصفه بنية تحتية لما تولد لاحقاً، فأصبح سياسي يثرب ومن ثم العرب ككلّ. أما السياسة بمعناها التقليدي فلم يكن لها بعد تبلور واضح في فكر محمد المكّي، كما يعود هذا إلى الشرط المكّي الذي لم يتح لمحمد أن يمارس سياسة(6) كتلك التي انغمس فيها بيثرب التي كانت تعاني من فراغ سياسيّ هائل (وفراغ من الزعامة) ملأه محمد بوصفه زعيما دينيّا (رسول الله أو مبعوثه) بالمعنى الديني، وزعيما سياسيّا بالمعنى القبليّ الذي كان معهوداً حينها؛. إذاً سياسة مكّة تعني: المرونة في التجادل مع اللحظة الممكنة بأقصى ما يتطلبه الاستحقاق المادّي، ولو كان على حساب ربّه أو فكره (الآيات الشيطانية مثلاً) بواسطة "ذكاء عمليّ" منقطع النظير عمّن عاصره.
إنّ النظر إلى الظاهرة المحمدية وتناولها بعين فوقية واحدة تقفز من فوق التاريخ وبمنهجية مطلقة على مدى حياته البشارية الثلاث وعشرين سنة تقريباً، من شأنه أن يوقعنا في الفخّ الإيديولوجي الذي ما زال يغطّي مكتبتنا العربية سلباً أو إيجاباً في النتائج التي في ما نتوصّل إليه. ولا يقف الحديث عند الإقرار بأنّ محمّد مكة هو غير محمّد يثرب، لا بل يصل إلى أنّ محمداً في بداية بشارته في مكّة يختلف عمّا سيغدو عليه كلما امتدّ به السياق إلى الأمام، وبالأخص أواخر حياته البعثوية (المكية). لماذا هذا الكلام؟
امّحاء الفاصل ما بين الأرض والسماء: لقد كان مخيال محمد الديني والسياسي بلا شكّ خاضعا لسياق تاريخيّ، له توتّراته وإفرازاته، وله استحقاقاته وتوازناته في الصعود والهبوط، والتي لم يستطع محمد الإفلات من صفعاتها، فكان من نتائج ذلك أن وجد تأثيره الكبير على صيغ القرآن اللفظية وتركيباته البنيوية بل وحتى الأسلوبية: ففي مكة كان جلّ اهتمامه مركّزاً على الديني / التأثيري/ الروحي والوعظي، فحتماً والحال هذه سينتج القرآن بقوالب تجادل تلك العوامل وتتقاطع معها معرفياً وأفقياً. فلا نستغرب عندئذ القوة الجمالية والأدبية والشعرية التي تمتع بها القرآن المكّي بقصر آياته وجزالة ألفاظه، وكأنها قطع موسيقية إشراقية قد أجاد محمد صنعها؛ بخلاف القرآن اليثربي (المدني) الذي انشغل كثيراً بأمور الغزو والجهاد في سبيل محمّد وربّه؛ أي انشغل بأمور "الدنيا" بكلّ ما تتطلبه من استحقاقات. فنجد هنا أنّ الآيات بدأت تطول إلى حدّ الملل، والجزالة البلاغية بدأت تخفّ، بحيث يمكننا أن نقرأ في دلالة التحوّل التاريخي هذا ابتعاداً كبيراً عمّا قد أعلن توّاً في مكة - مسقط رأسه- من نبوّة (أعلنها ديانة توحيدية) وتقريب السماء من الأرض. وهذا كله بسبب استحقاقات مدينة يثرب السياسية والتاريخية التي وجد نفسه فيها، وانغمس بكله النفساني والجسدي بما تتطلبه وتفرضه تلك الاستحقاقات المتمثلة في عوامل مادية بحتة. وهذا يجيب بكلّ بساطة عن مسألة لماذا فشل محمد في مكّة الناعمة اقتصادياً وتجارياً والمستقرّة سياسياً (قياساً بيثرب المدينة) طيلة ثلاث عشرة سنة، مما اضطرّه إلى استغلال واقع سياسيّ مهلهل ومضطرب في يثرب إذ كانت الطبقات الاجتماعية في حالة تصارع دائم وحروب مستمرّة (يوم أو حرب بعاث بين الأوس والخزرج مثلاً قبل مقدم محمد إلى يثرب بقليل)؛ إلا أنّ هذه التفاحة اليثربية لم تكن لتصير من نصيب محمد لولا قراءته الجادّة لواقع يثرب، بواسطة ذكائه العملي أو بواسطة أصدقائه المقربين من صحابته (لنتذكّر في هذا السياق ابن أبي قحافة، أبا بكر، صديقه الرئيسي ورقيبه المقرب الذي وُصِفَ بخبرته بإلمامه التاريخيّ بسياسات القبائل الداخلية والخارجية وخبرته في علم الأنساب Genealogy(7)) وفي إدراك ومعرفة من أين تؤكل الكتف! (من أين تؤكل كتف يثرب). لا بدّ حين التعامل مع محمد في يثرب أن يوضع في خانة السياسي الصِرْف، احتفظ بقدر ضئيل من النبوّة في مسألة تفعيلها إلى أقصاها السياسي اليمينيّ وإكسابها بعداً مغايراً تماماً لنبوّته المكية بما يتلاءم والشروط اليثربية السياسية وما أفرزته من مستجدات تاريخية؛ وساعدته (أي النبوة) في إثبات نفسه بوصفه قائد جماعة أو قوم (= أمّة بالمصطلح السياقي اليثربي) ومكّنته من شرعنة ما يراه شرعياً وإبطال ما يراه باطلاً، ولو كان إبطال ما قد أعلنه هو نفسه سابقاً (فمثلاً كما يروي لنا أحمد بن حنبل حينما أمر محمد بإحراق بعض رجال قريش ثم عدل عن رأيه هذا فاكتفى بالقتل فقط، لأنّ ربّ محمّد هو الذي يحرق لا محمّد(8)). فلم تعد النبوّة مع محمّد من اختصاص الحكماء والإشراقيين، ولم يعد مكانها داخل الفلسفة بمفهومها التقليدي الإشراقي السينوي (ابن سينا) ولا حتى داخل اللاهوت الديني بمفهومه الروحيّ الخالص والمجرّد، وبكلّ بساطة: لقد أنزلت النبوّة إلى الأرض، إلى الميدان، إلى السياسة بكلّ ما يكتنفها من صراعات وتناقضات.
ربما يعود ذلك إلى عدم قدرة محمّد فصل الدينيّ عن الدنيويّ، واستخدام الدين الذي تمثّل حينها في نص القرآن ليفرض أموراً لا علاقة لها به؛ بل أصبح الله في يثرب المدينة "وسيلة" يؤتى به – بوحيه – متى اقتضى واقع محمد العمليّ ذلك، وإن ابتعد قليلاً عن أخلاق الأنبياء السابقين وسلوكهم، وهنا ربما نتذكّر القول الشهير لزوجته عائشة في معرض ورود آية «ترجئ من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ----» (الأحزاب 51) تقول عائشة تخاطب زوجها محمد: «ما أرى ربك إلا يسارع في هواك»(9). إلا أنه من العدل مع ذلك أن نشير كما يرى "نولدكه" "أنّ الدين ونظام المجتمع في ذلك الحين كانا وثيقي الارتباط وأنّ إنزال الله إلى أكثر الأمور إنسانية إنّما يرفع على العموم من شأن الحياة اليومية إلى المستوى الإلهي(10)". والشيء المستغرب في هذا السياق أن نقرأ لمن يحسبون على التيار الحداثوي العلمانوي (رفعت السعيد مثلاً) من يريدون أن يجعلوا من محمد وكأنّه العلمانيّ العربيّ الأوّل الذي تقولبت في ذهنه وتأدلجت نظرية فصل الزمني عن الديني، رافعين يافطة حادثة تأبير النخل بيثرب (أنتم أعلم بشؤون دنياكم) منتزعينها من تاريخها وسياقها، بل منتزعين محمّدا من تاريخه ومن ثمّ يعيدون تفصيله بما يتلاءم ومقاساتهم الإيديولوجية الحاضرة. من المحتمل أن تكون نية أولئك العلمانيين صادقة في مواجهة إسلام متطرّف، إلا أن هذا لن يغفر لهم أبداً نهج العين التي يقرؤون محمداً من خلالها وكأنه جان جاك روسو، أو كأنه سبق فرنسا في إعلانها الدستور العلماني بداية القرن العشرين. هذه قراءة انتزاعية فوقية تنطلق من قاعدة سيستيم إيديولوجي وجهاز نظري واحد ينطلق منهما الإسلاميون في الطرف المقابل بنفس الآليات في انتزاع محمد من قبره اليثربي، ومن ثم تحميله هموم القرن الواحد والعشرين، أو الهموم الحضارية التي يعيشها كلا الطرفين إسلاميين وعلمانويين. كلّ منهما يريد تحويل محمد إلى بندقية مشرعة في وجه الآخر، أو شماعة يعلقون عليها ثيابهم الإيديولوجية والثقافية التي يعيشونها. من المهم أن نشير هنا في هذه العجالة إلى نقد مونتغمري وات للمفهوم الغربي الراهن في اعتبار الدين "حركة روحية خالصة" وبأن هذه الفكرة محض استثنائية؛ ذلك أن الدين كان «عبر التاريخ البشري برمّته منغمساً بصورة وثيقة في مجمل حياة الإنسان في المجتمع، وليس في حياته السياسية فحسب، حتى تعاليم يسوع الدينية الخالصة، كما تعتبر عادة، ليست دون دلالة سياسية. ولطالما احتوى الإنجيل في خلفيته على وعي بحقيقة اندماج فلسطين في الإمبراطورية الرومانية، وإنّ بعض المواقف اليهودية آنذاك كانت ستقود إلى الدمار العسكري للشعب اليهودي (كما حدث فعلاً)، وإن اتخذت الحركة المسيحية الناشئة موقف الاسترخاء السياسي فهذا ليس راجعاً إلى فصل دائم للدين عن السياسة، بل لأن مثل هذا المسار كان حكمة سياسية في ظروف تلك الفترة الزمانية والمكانية»(11).
إذن الكلام لا يدور فقط عن يثرب السياسي المحض وإنما عن مكة النبي، وما حدث للنبوة من اختراقات تاريخية يمكن قراءتها بمثابة بذور مكية أتت بأكلها في يثرب المدينة. ونحب أن نشير في هذا السياق إلى رؤى البعض من المستشرقين الذين لم ينظروا إلى محمد نبياً صرفاً أثناء حياته كلها، ولا يميلون إلى أن فكرة السياسة قد أخذت منحىً تدريجياً وتطورياً: من محمد النبي في مكة إلى محمد السياسي في يثرب الذي أصبح هناك متخماً بالقوة السياسية. فيمكن تلمّس بعض الإشارات لتخطيطه العسكري والسياسي –بحسب رأيهم- مثلاً من كلمات محمّد الغاضبة ضدّ قومه القرشيين حينما خاطبهم: "أتسمعون يا معشر قريش! أما والذي نفس محمد بيده، لقد جئتكم بالذبح!(12)". وعلى رأي السيد كويل Koelle (وقريباً منه مارغليوث Margolliouth) أن محمداً في كلتا الحالتين سواء في مكة أو يثرب هو الرجل نفسه: في مكة كان يحاول التخطيط للنجاح أما في يثرب فقد نجح بالفعل في أكل ثمار ما خططه(13).
في الحقيقة يمكن قراءة بعض البذور السياسية بمفهومها التقليدي في فكر محمد المكي؛ فهو منذ نعومة أظفاره الإلهية المكية يبشّرنا بفتح خزائن كسرى وقيصر(14)، إضافة إلى ما احتواه قرآنه المكي في جملة منه بما يمنعنا أن نعتقد أنه مجرّد واعظ ديني، وإلا لما وجدنا ظلال السياسة تحوم بين ثنايا القرآن المكي والنبرة الحماسية لمحمد، والغضب الذي أقضّ مضجعه من أهل قريش وتوعّده لأغنيائها بساعة الربّ وإنزاله كارثة من السماء والثبور والعذاب؛ يمكن أن نقرأ له مثلاً حِدَّة الغضب تلك: "سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ/ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ/ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ/ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ" (س القمر، 45-48). إلا أن هذا لن يحول بيننا وبين قراءته تاريخياً ونعيد زرعه في تربته الأصلية التي ولد من رحمها وتفاعله معها بدهاء النبي السياسي: مستخدماً آليات الربّ وأدواته مرةً وأدوات الزمني مرة أخرى، ومؤدلجاً الأخيرة بمقاس الأولى، وهذا كلّه بحسب اللحظة التاريخية وإفرازاتها. ولا يجب أن ننسى في هذا السياق أنّ الأربعين سنة التي أمضاها محمد من حياته قبل إعلان بشارته الإلهية (610م تقريباً) كافية تماماً لقراءة لاهوت السماء من طرف، ولاهوت السياسة من طرف آخر. فمن هنا الأهمية التاريخية في محاولة استنطاق الأربعين سنة تلك من حياته -التي يعتم عليها الإسلاميون والتراثيون- واستجلابها أمام مشرحة النقد التاريخي والقيام من ثمّ بخلق تاريخي ونقدي منظم لها واكتشاف قاعه الإركيولوجي وبذوره التي رأت النور في يثرب.
يمكن أن نصل من خلال هذا إلى نتيجة مفادها: أن الخضوع للواقع التاريخي المكي بكافة استحقاقاته يعني من وجه آخر قبولا بشروطه وتجادلا معه؛ وإذا اضطرّ الأمر التلوُّن بألوانه حتى ولو كانت ألواناً وثنية (الآيات الشيطانية مثلاً). طبعاً هذا لا يعني أن محمداً قد أصبح وثنياً بقدرة شيطانية لمجرد أنه ذكر آلهة القوم بخير وأقرّ بشرعية عبادتها (وهنا سنغضّ الطرف عما يرويه الكلبي عن تلوِّن محمد في مراحله الأولى بألوان عبادة الأوثان(15)) وإنما ما أجبره الواقع الذي ضغط عليه ممّا أدى به إلى العدول قليلاً عما قد أعلنه من توحيد. وعند هذه النقطة لا يهمّ من هو الموحي (فاعل الوحي)، لا فرق سواء أكان الرحمن أم الشيطان. وهذا ما نعنيه بـ السياسي في مكة: أي التكلّم بمفردات ولغة ما تتطلبه استحقاقات الواقع التاريخي المكي الذي كان يحتضن محمداً ويكتنفه، واستنطاق المخيال الديني له وتفعيله واستجلابه بقدرة نفسية بما يُشرْعِن أو يدعم أو يقرّ أو يحثّ (حسب سياق الحدث) بحيث يتلاءم والراهن التاريخي الذي يصارعه. ولا بأس في هذه الحال من التحالف مع الشيطان إذا كان يبتغى به وجه الله، وهذا كله في سبيل شرعنة الحدث وإكسابه بعداً ماورائياً وفوقياً(16).
المخيال الديني فيه الرحمن وفيه الشيطان، ولا فائدة ترجى من أيّ منهما دون حضور قوّة الآخر؛ فكلّ منهما يكتسب الشرعية وكونية الحضور الميتافيزيقي من خلال حضور الآخر. إذ ما الفائدة من الله ووجوده الذي سيقضي على الشرّ لولا وجود الشرّ الذي تمثّل بـ عدوّه: الشيطان. كانت هذه الثنائية المخيالية النفسية حاضرة بقوّة وسط سيكولوجيا محمد "العملية" (وأشدّد هنا على كلمة عملية)؛ إلا أنّ محمداً قام من طرف آخر بنقل فكرة الله من عليائها السماوي وإنزالها إلى الأرض، من تموضع اجتماعي وثقافي ديني بحت إلى تموضع ثقافي آخر أصبح فيه الربّ يصارع الأعداء إلى جانب مؤمنيه (ويقاتل في يثرب) وسط الصراعات التي أحاطت بمبعوثه أو موفده محمد؛ فلم يعد الله قابعاً في سمائه بل أنزل إلى الأرض وأصبح محيطاً بكل شيء، مثله مثل الشيطان الذي يجري من ابن آدم مجرى الدم، فهو أيضاً محيط به أينما ذهب(17). إلا أننا سنلاحظ في الآيات الشيطانية (Unfortunately He Abrogated Them) بأنّ ثنائية الرحمن والشيطان/ الغرانيق العلى والله لم تكن متبلورة تماماً، بمعنى أنهما لم يقفا على طرفي نقيض وسط مخياله الديني على الأقل إلى هذه المرحلة من توحيده، هذا من جهة، ومن جهة أخرى: إن قوة الحدث الزمني والمادي هي التي كانت سيدة الموقف وهي التي كانت تصوغ الشكل الفوقي اللاهوتي بما تفرزه من دوافع للاهوت محمد داخل بنيته السيكولوجية؛ فالواقع المادي وصراعاته وتناقضاته هو من يتحكم بمصير الأفكار لا العكس، بكل ما يحمله من قوة في براكسيسه المادي (سواء الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي) وبمعنى آخر لم يكن محمد يمثل إلا دور الوسيط الفعلي والحقيقي ما بين حركات المجتمع الحية والفاعلة وما بين ما كان يبثه وسط مخيال الناس على أنه: قرآن أو كما كان يعتبره: وحي الربّ/ الله.
الهوامش:
(1) هادي العلوي: "فصول من تاريخ الإسلام السياسي"، مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي (دفاتر النهج)، ط2، 1999، ص20.)
(2) محمد أركون: "القرآن" (من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني) ترجمة هاشم صالح، دار الطليعة، بيروت، ط1، 2001 ص11.
(3) W. Montgomery Watt, Muhammad: Prophet And Statesman .Oxford University Press. 1961, P.2
(4) انظر مثلاً: ثيودور نولدكه في كتابه تاريخ القرآن (تعديل فريدريك شفالي .نقله للعربية جورج تامر بالتعاون مع مؤسسة كونراد – أدناور ط1 2004) ووليم موير في كتابه الذي أسس ثورة في دراسة حياة محمد من مصادرها الأصلية لا بحسب التوصيفات الإيديولوجية السابقة: Sir William Muir, The Life Of Mohammad, A New And Revised Edition T. H. Weir, Edenbughra. 1923.
(5) محمد حسين هيكل: "حياة محمد" دار المعارف، القاهرة ط14، (بدون تاريخ). حيث نراه في هذا الكتاب -الذي لاقى ترحيباً عند أواسط المجددين- يحاول أقصى جهده تفنيد موثوقية حدث الآيات الشيطانية ص176 وما بعدها.
(6) يجب ألا ننجرّ وراء تلك الروايات عن عرض السادة من قريش على محمد استلام السلطة في مكة ومن ثم إظهار عزوف محمد عن هذا أو قوله مثلاً لعمه أبي طالب: "يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله وأهلك فيه ما تركته". هذا الصنف من الروايات –وإن كانت صحيحة- عادة ما ينطلق من عواطف دينية لا محل لها في رؤية الواقع الذي انطلق منه محمد. لماذا؟ لأنه ثمة ظروف موضوعية كانت حقيقة تمنع محمداً أن ينجر وراء عروضهم على فرض صحتها؛ وإن قراءة دقيقة للوضع السياسي والاقتصادي في مكة التي كانت تمثل عاصمة العرب التجارية (مثلما يرى مونتغمري وات) ومن ثم مقارنتها بأختها يثرب التي كان وضعها السياسي مضطرباً تكشف لنا لماذا زهد محمد بسلطة مكة وفشله بها (مع العلم أنه رجع أواخر حياته وأخضعها له) وانفتاح أبواب السلطة والسياسة في يثرب وعدم عزوف محمد عن قيادتها بل القبض عليها من أبوبها العريضة.
Watt, Muhammad: Prophet And Statesman, P. 213. (7)
(8) يقول محمد: "إن وجدتم فلاناً وفلاناً –لرجلين من قريش- فاحرقوهما بالنار. ثم قال رسول الله (ص) حين أردنا (راوي الحديث) الخروج: إني قد كنت أمرتكم أن تحرقوا فلاناً وفلاناً بالنار وإن النار لا يعذب بها إلا الله عز وجل، فإن وجدتموهما فاقتلوهما". مسند أحمد رقم: 8289.
(9) أورده البخاري في صحيحه برقم: 4788.
(10) نولدكه: تاريخ القرآن، ص6.
(11) مونتغمري وات: "الفكر السياسي الإسلامي ـ المفاهيم الأساسية"، ترجمة صبحي حديدي، دار الحداثة، ط1، 1981، ص42.
(12) الطبري (ت 310 هـ): تاريخ الرسل والملوك، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف بمصر ط2- ج2 ص332.
(13) Canon Sell, The Life Of Muhammad, London, Madras, And Colombo. 1913. P. 37 .
(14) الطبري: تاريخ الرسل والملوك، ج2 ص311.
(15) ينقل لنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي (ت 204 هـ) في كتابه "الأصنام" أن محمداً قال أنه حينما كان على دين قومه من عبادة الأصنام أهدى للعزّى شاة وهو على دين قومه. "الأصنام" تحقيق أحمد زكي باشا، القاهرة، دار الكتب المصرية، 1995، ص19. طبعاً لسنا معنيين في سياق بمناقشة صحة أو عدم صحة الرواية هذه التي أشبه أن انفرد بها الكلبي من بين التراثيين في إيرادها؛ ويستبعد أن الكلبي كان يكره محمداً حتى يطعن به في هذه الرواية ونقلاً عن لسانه؛ فهو مسلم سني. ومن جهة أخرى كما توضح الرواية ليس معيباً أن يعبد محمد الأصنام ويهديها النذور؛ فهذا ليس مطعناً في خاصرته التوحيدية؛ لا بل إننا سندرك أنه إلى حين نقله عن شيطانه تلك الآيات لم يتقولب بعد بقالب توحيدي. وربما نبالغ في القول بأن فكرة الله لم تأخذ شكلاً محدداً داخل سيكولوجيا محمد النفسية، بل هي طوراً في الصعود وطوراً في الهبوط؛ وإن قراءة تاريخية للقرآن بعد تفكيك ابستمولوجي له ستكشف الستار عن هذه الفكرة والكثير غيرها.
(16) سنأخذ مثالاً على هذا ذو دلالة تعبر عن بنية نفسية ولاهوتية لها مغزى في إشراك السماء مع الأرض، وشرعنة السياسي بالإلهي وهو شرعنة المذبحة التي قامت ضد يهود بني قريظة حينما أمر سعد بن معاذ بإشراف محمد بذبح يهود بني قريظة عن بكرة أبيهم وكان عددهم مابين 600 إلى 900 إنسان يهودي، قد رفع هذا الحكم وأسنده إلى الرب، وبقدرة قادر عرف محمد أن هذا الحكم السياسي والعسكري بالذبح هو حكم الرب نفسه. نقرأ على لسان محمد مخاطباً سعد بن معاذ بعد إقراره الحكم: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة" (أي سبع سماوات) سيرة ابن هشام تحقيق مصطفى السقا ، دمشق- بيروت، دار ابن كثير ط1، 1999 ج2 ص240.
(17) يقول محمد " إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم " المعجم الكبير للطبراني، رقم 19679؛ وبالمثل يقول في القرآن: "وكان الله بكل شيء محيطاً". (النساء: 126).
عن موقع الأوان
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |