من كتاب رسائل الجاحظ / الرسالة الرابعة عشرة كتاب القيان / ج2
2010-05-17
والحسب والنَّسب الذي بلغ به القيان الأثمان الرغيبة إنما هو الهوى.
ولو اشترى على مثل شرى الرَّقيق لم تجاوز الواحدة منهنَّ ثمن الرأس الساذج.
فأكثر من بالغ في ثمن جاريةٍ فبالعشق ولعله كان ينوي في أمرها الرِّيبة ويجد هذا أسهل سبيلاً إلى شفاء غليله ثم تعذَّر ذلك عليه فصار إلى الحلال وإن لم ينوه ويعرف فضله فباع المتاع وحلَّ العقد وأثقل ظهره بالعُبِّيَّة حتى ابتاع الجارية.
ولا يعمل عملاً ينتج خيراً غير إغرائه بالقيان وقيادته عليهنّ فإنّه لا ينجم الأمر إلاّ وغايته فيهنّ العشق فيعوق عن ذلك ضبط الموالي ومراعاة الرقباء وشدَّة الحجاب فيضطر العاشق إلى الشراء ويحلّ به الفرج ويكون الشيطان المدحور.
والعشق داءٌ لا يملك دفعه كما لا يستطاع دفع عوارض الأدواء إلاّ بالحمية ولا يكاد ينتفع بالحمية مع ما تولِّد الأغذية وتزيد في الطبائع بالازدياد في الطُّعم.
ولو أمكن أحداً أن يحتمي من كل ضرر ويقف عنْ كل غذاء للزم ذلك المتطِّبب في آفات صحته ونحل جسمه وضوي لحمه حتَّى يؤمر بالتخليط ويشار عليه بالعناية في الطَّيبات.
ولو ملك أيضاً صرف الأغذية واحترس بالحمية لم يملك ضرر تغيرُّ الهواء ولا اختلاف الماء.
وأنا واصفٌ لك حدَّ العشق لتعرف حدَّه: هو داءٌ يصيب الرُّوح ويشتمل على الجسم بالمجاورة كما ينال الروح الضعف في البطش والوهن في المرء ينهكه.
وداء العشق وعمومه في جميع البدن بحسب منزلة القلب من أعضاء الجسم.
وصعوبة دوائه تأتي من قبل اختلاف علله وأنّه يتركب من وجوهٍ شتَّى كالحمى التي تعرض مركَّبةً من البرد والبلغم.
فمن قصد لعلاج أحد الخلطين كان ناقصاً من دائه زائداً في داء الخلط الآخر وعلى حسب قوة أركانه يكون ثبوته وإبطاؤه في الانحلال.
فالعشق يتركب من الحبّ والهوى والمشاكلة والإلف وله ابتداءٌ في المصاعدة ووقوف على غاية وهبوطٌ في التوليد إلى غاية الانحلال ووقف الملال.
والحبّ اسمٌ واقع على المعنى الذي رسم به لا تفسير له غيره لأنه قد يقال: إن المرء يحبُّ الله وإن الله جلّ وعزّ يحبّ المؤمن وإن الرجل يحبُّ ولده والولد يحبّ والده ويحبُّ صديقه وبلده وقومه ويحبُّ على أي جهة يريد ولا يسمَّي ذلك عشقاً.
فيعلم حينئذ أن اسم الحبّ لا يُكتفي به في معنى العشق حتّى تُضاف إليه العلل الأُخر إلاّ أنه ابتداء العشق ثم يتبعه حبُّ الهوى فربّما وافق الحقّ والاختيار وربّما عدل عنهما.
وهذه سبيل الهوى في الأديان والبلدان وسائر الأمور.
ولا يميل صاحبه عن حجّته واختياره فيما يهوى.
ولذلك قيل: " عين الهوى لا تصدق " وقيل: " حبُّك الشيء يعمي ويصمّ ".
يتخذون أديانهم أرباباً لأهوائهم.
وذلك أنَّ العاشق كثيراً ما يعشق غير النِّهاية في الجمال ولا الغاية في الكمال ولا الموصوف بالبراعة ثم قد يجتمع الحبُّ والهوى ولا يسمَّيان عشقاً فيكون ذلك في الولد والصديق والبلد والصِّنف من اللِّباس والفرش والدوابّ.
فلم نر أحداً منهم يسقم بدنه ولا تتلف روحه من حبّ بلده ولا ولده وإن كان قد يصيبه عند الفراق لوعةٌ واحتراق.
وقد رأينا وبلغنا عن كثير ممن تلف وطال جُهده وضناه بداء العشق.
فعلم أنّه إذا أضيف إلى الحبّ والهوى المشاكلة أعني مشاكلة الطبيعة أي حبّ الرجال النساء وحبَّ النساء الرجال المركَّب في جميع الفحول والإناث من الحيوان صار ذلك عشقاً صحيحاً.
وإن كان ذلك عشقاً من ذكر لذكرٍ فليس إلا مشتقّاً من هذه الشهوة وإلاّ لم يسمَّ عشقاً إذا فارقت الشهوة.
ثم لم نره ليكون مستحكماً عند أوَّل لُقياه حتَّى يعقد ذلك الإلف وتغرسه المواظبة في القلب فينبت كما تنبت الحبّة في الأرض حتَّى تستحكم وتشتد وتثمر وربّما صار لها كالجذع السَّحوق والعمود الصُّلب الشديد.
وربما انعقف فصار فيه بوار الأصل.
فإذا اشتمل على هذه العلل صار عشقاً تاماً.
ثم صارت قلّة العيان تزيد فيه وتوقد ناره والانقطاع يسعِّره حتى يذهل وينهك البدن ويشتغل القلب عن كلِّ نافعة ويكون خيال المعشوق نصب عين العاشق والغالب على فكرته وإذا طال العهد واستمرَّت الأيام نقص على الفرقة واضمحلَّ على المطاولة وإن كانت كلومه وندوبه لا تكاد تعفو آثارها ولا ترس رسومها.
فكذلك الظَّفر بالمعشوق يُسرع في حلّ عشقه.
والعلة في ذلك أنّ بعض الناس أسرع إلى العشق من بعض لاختلاف طبائع القلوب في الرِّقَّة والقسوة وسرعة الإلف وإبطائه وقلّة الشَّهوة وضعفها.
وقلَّ ما يظهر المعشوق عشقاً إلاَّ عداه بدائه ونكت في صدره وشغف فؤاده.
وذلك من المشاكلة وإجابة بعض الطبائع بعضاً وتوقان بعض الأنفس إلى بعض وتقارب الأرواح.
كالنائم يرى آخر ينام ولا نوم به فينعس وكالمتثائب يراه من لا تثاؤب به فيفعل مثل فعله قسراً من الطبيعة.
وقلَّ ما يكون عشقٌ بين اثنين يتساويان فيه إلاّ عن مناسبةٍ بينهما في الشَّبه في الخَلْق والخُلُق وفي الظَّرف أو في الهوى أو الطِّباع.
ولذلك ما نرى الحسن يعشق القبيح والقبيح يحبُّ الحسن ويختار المختار الأقبح على الأحسن وليس يرى الاختيار في غير ذلك فيتوهّم الغلط عليه لكنّه لتعارف الأرواح وازدواج القلوب.
ومن الآفة عشق القيان على كثرة فضائلهن وسكون النفوس إليهنَّ وأنَّهنَّ يجمعن للإنسان من واللذَّات كلُّها إنمّا تكون بالحواسّ والمأكول والمشروب حظٌّ لحاسّة الذَّوق لا يشركها فيه غيرها.
فلو أكل الإنسان المسك الذي هو حظُّ الأنف وجده بشعاً واستقذره إذْ كان دماً جامداً.
ولو تنسَّم أرواح الأطعمة الطَّيبة كالفواكه وما أشبهها عند انقطاع الشهوة أو ألحَّ بالنَّظر إلى شيءٍ من ذلك عاد ضرراً.
ولو أدنى من سمعه كل طيِّب وطيب لم يجد له لذَّة.
فإذا جاء باب القيان اشترك فيه ثلاثة من الحواسِّ وصار القلب لها رابعاً.
فللعين النَّظر إلى القينة الحسناء والمشهِّية إذْ كان الحذق والجمال لا يكادان يجتمعان لمستمتع ومرتع وللسَّمع منها حظُّ الذي لا مؤونة عليه ولا تطرب آلته إلا إليه.
وللَّمس فيها الشَّهوة والحنين إلى الباه.
والحواسُّ كلُّها رواد للقلب وشهودٌ عنده.
وإذا رفعت القينة عقيرة حلقها تغنِّي حدَّق إليها الطَّرْف وأصغى نحوها السَّمع وألقى القلب إليها الملك فاستبق السّمع والبصر أيُّهما يؤدِّي إلى القلب ما أفاد منها قبل صاحبه فيتوافيان عند حبَّة القلب فيُفرغان ما وعياه فيتولَّد منه مع السُّرور حاسَّة اللمس فيجتمع له في وقتٍ واحد ثلاث لذات لا تجتمع له في شيء قطّ ولم تؤدِّ إليه الحواسُّ مثلها.
فيكون في مجالسته للقينة أعظم الفتنة لأنه روى في الأثر: " إياكم والنَّظرة فإنّها تزْرع في القلب الشَّهوة ".
وكفى بها لصاحبها فتنةً فكيف بالنَّظر والشهوة إذا صاحبهما السَّماع وتكانفتهما المغازلة.
إنَّ القينة لا تكاد تُخالص في عشقها ولا تُناصح في ودِّها لأنها مكتسبة ومجبولةٌ على نصب الحبالة والشَّرك للمتربِّطين ليقتحموا في أُنشوطتها فإذا شاهدنا المشاهد رامته باللَّحظ وداعبتْه بالتبسُّم وغازلته في أشعار الغناء ولهجت باقتراحاته ونشطت للشُّرب عند شربه وأظهرت الشَّوق إلى طول مكثه والصَّبابة لسرعة عودته والحزن لفراقه.
فإذا أحسَّت بأنَّ سحرها قد نفذ فيه وأنّه قد تعقّل في الشَّرك تزيّدت فيما كانت قد شرعت فيه وأوهمته أنَّ الذي بها أكثر مما به منها ثم كاتبته تشكو إليه هواه وتقسم له أنَّها مدَّت الدواة بدمْعتها وبلَّت السِّحاءة بريقها وأنه شجبها وشجْوها في فكرتها وضميرها في ليلها ونهارها وأنَّها لا تريد سواه ولا تؤْثر أحداً على هواه ولا تنوي انحرافاً عنه ولا تريده لماله بل لنفسه ثم جعلت الكتاب في سُدْسِ طومار وختمتْه بزعفران وشدَّته بقطعة زير وأظهرت ستره عن مواليها ليكون المغرور أوثق بها.
وألحَّت في اقتضاء جوابه فإن أجيبت عنه ادّعت أنها قد صيَّرت الجواب سلوتها وأقامت الكتاب مقام رؤيته وأنشدت: وصحيفةٍ تحكي الضَّمي ر مليحةٍ نغماتُها جاءت وقد قرح الفؤا د لطول ما استبْطاتُها فضحكت حين رأيتُها وبكيت حين قراتُها أظلوم نفسي في يدي ك: حياتُها ووفاتُها ثم تغنت حينئذ: باب كتاب الحبيب ندماني محدِّثي تارةً وريحاني أضحكني في الكتاب أوّلُه ثم تمادى به فأبكاني ثم تجنّتْ عليه الذُّنوب وتغايرتْ على أهله وحمتْه النظر إلى صواحباتها وسقتْه أنصاف أقداحها وجمَّشته بعضوض تفاحها وتحيَّةٍ من ريحانها وزوّدته عند انصرافه خُصْلةً من شعرها وقطعةً من مرطها وشظيَّةً من مضرابها وأهدت إليه في النَّيروز تكَّةً وسُكَّراً وفي المهرجان خاتماً وتفّاحة ونقشت على خاتمها اسمه وأبدت عند العثرة اسمه وغنَّته إذا رأته: نظر المحبِّ إلى الحبيب نعيمُ وصدوده خطرٌ عليك عظيمُ ثم أخبرته أنّها لا تنام شوقاً إليه ولا تتهنَّأ بالطعام وجداً به ولا تملُّ - إذا غاب - الدُّموع فيه ولا ذكرتْه إلا تنغَّصت ولا هتفت باسمه إلاّ ارتاعت وأنَّها قد جمعت قنِّينةً من دموعها من البكاء عليه وتنشد عند موافاة اسمه بيت المجنون: أهوى من الأسماء ما وافق اسمها وأشبهه أو كان منه مُدانيا وعند الدُّعاء به قوله: دعا باسم ليلى غيرها فكأنّما أطار بليلى طائراً كان في صدري وربما قادها التمويه إلى التصحيح وربَّما شاركت صاحبها في البلوى حتَّى تأتي إلى بيته فتمكِّنه من القبلة فما فوقها وتُفرشه نفسها إن استحلَّ ذلك منها وربَّما جحدت الصناعة لترحض عليه وأظهرت العلّة والتاثت على الموالي واستباعت من السادة وادَّعت الحريّة احتيالاً لأن يملكها وإشفاقاً أن يجتاحه كثرة ثمنها ولا سيمّا إذا صادفْته حلو الشمائل رشيق الإشارة عذب اللَّفظ دقيق الفهم لطيف الحسّ خفيف الرُّوح.
فإن كان يقول الشعر ويتمثَّل به أو يترنَّم كان أحظى له عندها.
وأكثر أمرها قلّة المناصحة واستعمال الغدر والحيلة في استنطاف ما يحويه المربوط والانتقال عنه.
وربّما اجتمع عندها من مربوطيها ثلاثة أو أربعة على أنَّهم يتحامون من الاجتماع ويتغايرون عند الالتقاء فتبكي لواحدٍ بعين وتضحك للآخر بالأخرى وتغمز هذا بذاك وتعطي وأحداً سرَّها والآخر علانيتها وتوهمه أنَّها له دون الآخر وأنَّ الذي تُظهر خلاف ضميرها.
وتكتب إليهم عند الانصراف كتباً على نسخة واحدة تذكر لكلِّ واحدٍ منهم تبرُّمها بالباقين وحرصها على الخلوة به دونهم.
فلو لم يكن لإبليس شرك يقتل به ولا علم يدعو إليه ولا فتنةٌ يستهوي بها إلاّ القيان لكفاه.
وليس هذا بذمٍّ لهنَّ ولكنَّه من فرط المدح.
وقد جاء في الأثر: " خير نسائكم السَّواحر الخلاَّبات ".
وليس يُحسن هاروت وماروت وعصا موسى وسحرة فرعون إلاَّ دون ما يُحسنه القيان.
ثم إذا منعهنَّ الزِّنى غلبه عليهنَّ مخارج بيوت الكشاخنة ترميهنَّ في حُجور الزُّناة.
ثم هنَّ أمَّهات أولاد من قد بلغ بالحبِّ أنْ غفروا لهنَّ كلَّ ذنب وأغضوا منهنَّ على كلِّ عيب.
وإذا كنَّ في منزل رجلٍ من السُّوقة عذرتهنَّ وإذا انتقلن إلى منازل الملوك زال العُذْر.
والسبب فيه واحد والعلّة سواء.
وكيف تسلم القينة من الفتنة أو يمكنها أن تكون عفيفةً وإنمّا تكتسب الأهواء وتتعلَّم الألسن والأخلاق بالمنشأ وهي تنشأ من لدن مولدها إلى أوان وفاتها بما يصدُّ عن ذكر الله من لهو الحديث وصنوف اللعب والأخانيث وبين الخلعاء والمجَّان ومن لا يسمع منه كلمة جدٍّ ولا يُرجع منه إلى ثقةٍ ولا دين ولا صيانة مروَّة.
وتروي الحاذقة منهن أربعة آلاف صوتٍ فصاعداً يكون الصَّوت فيما بين البيتين إلى أربعة أبيات عدد ما يدخل في ذلك من الشِّعر إذا ضُرب بعضه ببعض عشرة آلاف بيتٍ ليس فيها ذكر الله عن غفلة ولا ترهيب من عقاب ولا ترغيبٌ في ثواب وإنما بُنيت كلُّها على ذكر الزِّنى ثم لا تنفكُّ من الدراسة لصناعتها منكبَّةً عليها تأخذ من المطارحين الذين طرحهم كلُّه تجميشٌ وإنشادهم مراودة.
وهي مضطرَّةٌ إلى ذلك في صناعتها لأنَّها إن جفتْها تفلَّتت وإنْ أهملتْها نقصتْ وإن لم تستفد منها وقفتْ.
وكلُّ واقف فإلى نقصانٍ أقرب.
وإنَّما فرق بين أصحاب الصناعات وبين من لا يُحسنها التزيُّدُ فيها والمواظبة عليها.
فهي لو أرادت الهُدى لم تعرفه ولو بغت الغفلة لم تقدر عليها وإنْ ثبَّتت حُجّة أبي الهُذيل فيما يجب على المتفكِّر زالت عنها خاصّته لأنّ فكرها وقلبها ولسانها وبدنها مشاغيل بما هي فيه وعلى حسب ما اجتمع عليها من ذلك في نفسها لمن يلي مجالستها عليه وعليها.
ومن فضائل الرجال منّا أنّ الناس يقصدونه في رحله بالرَّغبة كما يُقصد بها للخلفاء والعظماء فيُزار ولا يُكلَّف الزيارة ويُوصل ولا يُحمل على الصِّلة ويُهدى له ولا تُقتضى منه الهديَّة وتبيت العيون ساهرةً والعيون ساجمة والقلوب واجفة والأكباد متصدِّعة والأماني واقفة على ما يحويه ملكه وتضمُّه يده مما ليس في جميع ما يباع ويُشترى ويستفاد ويُقتنى بعد العُقد النَّفيسة.
فمن يبلغ شيئاً من الثمن ما بلغت حبشيّة جارية عوْن مائةُ ألف دينار وعشرون ألف دينار.
ويرسلون إلى بيت مالكها بصنوف الهدايا من الأطعمة والأشربة فإذا جاءوا حصلوا على النظر فالذي يقاسيه الناس من عيلة العيال ويفكِّرون فيه من كثرة عددهم وعظيم مؤونتهم وصعوبة خدمتهم هو عنه بمعزلٍ: لا يهتمُّ بغلاء الدقيق ولا عوز السَّويق ولا عزَّة الزيت ولا فساد النبيذ قد كُفي حسرته إذا نزر والمصيبة فيه إذا حمض والفجيعة به إذا انكسر.
ثم يستقرض إذا أعسر ولا يُردُّ ويسأل الحوائج فلا يُمنع ويُلقي أبداً بالإعظام ويكنَّى إذا نودي ويُفدَّى إذا دُعي ويُحيَّا بطرائف الأخبار ويُطلع على مكنون الأسرار ويتغاير الرُّبطاء عليه ويتبادرون في برِّه ويتشاحُّون في ودّه ويتفاخرون بإيثاره.
ولا نعلم هذه الصِّفة إلاَّ للخلفاء: يُعطَون فوق ما يأخذون وتُحصَّل بهم الرغائب ويدرك منهم الغنى.
والمقيِّن يأخذ الجوهر ويعطي العرض ويفوز بالعين ويعطي الأثر ويبيع الريّح الهابة بالذهب الجامد وفلذ اللجين والعسجد.
وبين المرابطين وبين ما يريدون منه خرط القداد لأن صاحب القيان لو لم يترك إعطاء المربوط سأله عفةً ونزاهة لتركه حذقاً واختياراً وشحاً على صناعته ودفعاً عن حريم ضيعته لأن العاشق متى ظفر بالمعشوق مرةً واحدة نقص تسعة أعشار عشقه ونقص من برِّه ورفده بقدر ما نقص من عشقه.
فما الذي يحمل المقيِّن على أن يهبك جاريته ويكسر وجهه ويصرف الرغبة عنه.
ولولا أنه مثلٌ في هذه الصناعة الكريمة الشريفة لم يسقط الغيرة عن جواريه ويعنى بأخبار الرقباء ويأخذ أجرة المبيت ويتنادم قبل العشاء ويعرض عن الغمزة ويغفر القبلة ويتغافل عن الإشارة ويتعامى عن المكاتبة ويتناسى الجارية يوم الزِّيارة ولا يُعاتبها على المبيت ولا يفضُّ ختام سرّها ولا يسألها عن خبرها في ليلها ولا يعبأ بأن تُقفل الأبواب ويُشدَّد الحجاب ويُعدّ لكلّ مربوطٍ عُدَّةً على حدة ويعرف ما يصلح لكلِّ واحدٍ منهم كما يميّز التاجر أصناف تجارته فيسعِّرها على مقاديرها.
ويعرف صاحب الضياع أراضيه لمزارع الخضر والحنطة والشعير.
فمن كان ذا جاهٍ من الرُّبطاء اعتمد على جاهه وسأله الحوائج.
ومن كان ذا مالٍ ولا جاه له استقرض منه بلا عينة.
ومن كان من السُّلطان بسببٍ كُفيت به عادية الشُّرط والأعون وأُعلنت في زيارته الطبول والسَّرانيّ مثل سلمة الفُقَّاعي وحَمْدون الصِّحنائي وعليّ الفاميّ وحجر التَّور وفقْحة وابن دجاجة وحفْصويه وأحمد شعْرة وابن المجوسيّ وإبراهيم الغلام.
فأيُّ صناعة في الأرض أشرف منها!.
ولو يعلم هؤلاء المسمَّون فرق ما بين الحلال والحرام لم ينسبوا إلى الكشْخ أهلها لأنّه قد يجوز أن تباع الجارية من الملئ فيصيبُ منها وهو في ذلك ثقةٌ ثم يرتجعها بأقلَّ مما باعها به فيحصل له الرِّبح أو تُزوَّج ممن يثق به ويكون قصده للمتعة.
فهل على مزوَّجة من حرج وهل يفرُّ أحدٌ من سعة الحلال إلاَّ الحائن الجاهل وهل قامت الشهادة بزناء قطُّ في الإسلام على هذه الجهة.
هذه الرسالة التي كتبناها من الرواة منسوبة إلى من سمَّيناها في صدرها.
فإن كانت صحيحةً فقد أدّينا منها حقَّ الرواية والذين كتبوها أولى بما قد تقلَّدوا من الحجّة منها.
وإن كانت منحولة فمن قبل الطُّفيليِّين إذْ كانوا قد أقاموا الحجّة في اطِّراح الحشمة والمرتبطين ليسهِّلوا على المقيِّنين ما صنعه المقترفون.
فإن قال قائل: إنَّ لها في كل صنفٍ من هذه الثلاثة الأصناف حظاً وسبباً فقد صدق.
وبالله سبحانه التوفيق.
تمت الرسالة في القيان من كلام أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ بعون الله تعالى ومنّه وتوفيقه وتأييده ومشيئته.
والله سبحانه المسئول في التجاوز عن الخطأ واللغو في نقل ذلك والمرتجى عفوه ومغفرته برحمته.
يتلوه إن شاء الله: كتاب ذمّ أخلاق الكُتَّاب من كلامه أيضاً والله الموفِّق للصواب.
الحمد لله أولاً وآخراً وصلواته على سيدنا محمد نبيه وآله الطيبين الطاهرين
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |