تحقيق ميداني عن واقع المبدعين
2006-04-09
كُتّاب شباب في واقع أسود ومهزوم
نحن من ورث الهزيمة اضطرارياً
لعل أهم ما يميز أدب جيل الكتاب الشباب من العرب، انكفاء هذا الأدب نحو ذوات مبدعيه وغرقه في ـ غالبا ًـ في السوداوية، مما دعا البعض إلى اتهام هذا الجيل من الأدباء بالادعاء.. ادعاء الأدب من جهة.. وادعاء الروح التشاؤمية وسعيهم إلى "فبركة" الأحداث المأساوية من جهة، وقد رد هؤلاء النقاد ذلك إلى "سوء فهمهم ـ أي الشباب ـ لطبيعة الأدب عموماً"رادين سوء الفهم هذا إلى "قلة نضج الجيل الشاب وقلة اطلاعه على كافة مجالات الثقافة"..
إن في ما سبق تلخيص لرأي الكثير من الأدباء والنقاد والمثقفين السوريين والعرب، وهذا الرأي يتردد منذ زمن وله منابره بحكم وجود هؤلاء الكتاب والنقاد والمثقفين في مواقع تتيح لهم أن يقولوا ما شاءوا، ولكن ما رأي الكتاب الشباب أنفسهم برأي كتابات جيلهم،وكيف يقيمون هذه الكتابات،هل يتفقون مع هذا الرأي أو لا، هل يجدون مبرراته في حال اتفقوا؟... ما رأيهم ـ عموماً ـ فيما يقال عنهم قبل أدبهم من جهة أخرى؟
هذا ما حاولنا استقصائه من خلال طرح السؤال التالي على بعض الكتاب الشباب :
والسؤال هو: هل توافق أو توافقين على التعليل السابق لطغيان التراجيديا على أدب جيل الشباب، أم أن هناك أسباب أخرى، ثم أليس فيما ورثه هؤلاء الشباب من انكسارات وهزائم، وما يعيشونه اليوم من غياب للحريات وسقوط للقيم الجميلة والنظيفة وطغيان الاستهلاكي والمبتذل ما يبرر تشاؤمهم وسوداويتهم؟
السؤال الأهم (كيف؟) وليس (لماذا؟)
يرفض القاص والصحفي صادق أبو حامد رئيس تحرير (مجلة أوغاريت للحوار بين الثقافات) في باريس أن يتفق مع جعل الذاتية والسوداوية سمة خاصة بالكتاب الشباب كما يرفض "التعامل معها كصفات تضعف العمل الأدبي متى وجدت" إذ يجد أن السؤال الأهم في الأدب هو كيف وليس لماذا ويجد أننا "إذا تجاوزنا التعميم الذي تتصف به الآراء الناقدة لأدب الشباب، يمكننا في هذه الحالة تلمس مشروعية حضور الذاتية والسوداوية، فغياب الحرية التي اقترحها السؤال كأحد مخلفات الماضي، يتخذ تأثيره في الأدب، بوصفه مضماراً متفاعلاً معه اللحظة التاريخية والمجتمعية، وفق منحنيين أوليين، أحدهما مباشر يفرض نفسه على الذات المبدعة في العملية الكتابية (آفاقها، أدواتها..) والأخر غير مباشر، يتمثل بتعبير الأدب عن الحراك المجتمعي المتأثر بدوره وفق آليات لا تحصى بذلك الغياب، وبين المنحنيين تقع العلاقة القلقة بين المجتمع والذات المبدعة كعضو فاعل ومنفعل فيه، وفي هذا السياق يمكننا تفهم السوداوية كتعبير عن مجتمع يعيش نتائج الحرمان من الحرية في شكل انكفاء حضاري شامل، أما الذاتية وهي المتمظهرة في لغة رمزية أو دوران حول الوجدان الذاتي إنما تمثل نتاجاً منطقياً لمحاولة الفكاك من لغة محاصرة، وإبداع مؤطر من خارجه، كما أن محاكاة الذات كنموذج صراع أساسي يعبر عن علاقة شبه منقطعة بين مثقف مشغول بقراءة الانهيارات والانكسارات، ومجتمع مشغول بعيش معمعة هذه الانهيارات في يومه ووجوده".
ولا ينكر أبو حامد المعني بسوق الكتاب والنشر.. لا ينكر انحسار القراءة عندما يقول: "وليس لنا أن ننسى واقع انحسار القراءة" ويرد هذا الواقع إلى غياب الحرية قائلاُ:"وهي أيضاً نتاج فقدان الحرية كمعطى أولي يواجه الذات المبدعة، حتى تكاد المسارات تنتهي إلى معادلة كل قارئ كاتب، وكل كاتب قارئ، مما يجعل الأدب أشبه برسائل شخصية بين الكتاب/القراء رغم كل النوايا المخلصة بحمل رسائل خلاص للبشرية جمعاء"
وينوه أخيراً إلى أنه برغم "وجود مسببات جد منطقية لحضور الذاتية والسوداوية في الأدب، كما في سواه من أنساق الثقافة، فإن ذلك لا يبرر بأي حال، سوء استخدامها فنياً، سواء أكان هذا الأدب من إنتاج الكتاب الشباب أم سواهم". ويعود ليؤكد على السؤال الأهم برأيه في الأدب وهو "(كيف؟) وليس (لماذا؟)"
التفاؤل بالمستقبل المشرق يفقد الكاتب مصداقيته
القاصة عبير إسماعيل لا تجد في الحزن ما هو جديد، أو وليد عصر معين، فتقول"لو عدنا إلى كل كلاسيكيات الأدب العالمي أن العربي لوجدنا أن الأدب المتشائم (المتشائم)، أو (الحزين) القدح المعلًى فيما كتب" وتحدد مجازاً الكتاب الشباب بما كتبه الأدباء والكتاب الذين ظهروا في العشرين سنة الأخيرة وتقول "إذا تأملنا ما وازاها من أحداث سياسية واجتماعية واقتصادية وفكرية لوجدنا أن التفاؤل والتبشير بمستقبل مشرق هو نوع من البذخ يبتعد عن روح القاعدة الشعبية وبذلك يفقد الأديب مصداقيته" وهي ترى أن أيا من الأدباء الشباب لن يجرؤ في زمننا المهزوم "على مجاراة شاعر عربي قال منذ زمن: أعز بني الدنيا وأعلى ذوي العلا.....وأكرم من فوق التراب ولا فخر، لأن ذلك سيعيد نوعاً من الشوفينية التي لا مبرر لها " ثم تتساءل قائلة "أولئك الذين يسقطون كل يوم ويقتلون كل يوم وهم يدافعون عن بلادهم ألا يبعثون على التفاؤل...!؟ أم أنهم يحطمون ضمائرنا بمطاردةالحزن ونحن نراهم يستقبلون الرصاص بصدور عارية، ونحن عاجزون نتفرج... نبكي قليلاً ثم ننطلق إلى أعملانا وكأن التفرج على مأساتهم أصبح عادةً يومية كفنجان قهوة الصباح"
وعليه ترى إسماعيل في اتهام جيل بأسره بسوء الفهم لطبيعة الأدب وقلة النضج والإطلاع على كافة مجالات الثقافة "كلام يطلق جزافاً، وهو ليس من النقد بشيء فما من جيل تتساوى كتاباته في المستوى أو يتساوى أفراده بالتفكير والإطلاع والإبداع..."
السوداوية مطلباً ضرورياً في أدبنا
تعلن إيناس حقي التي لم تكن قد بلغت الثامنة عشرة من عمرها حين أدلت بشهادتها هذه مخالفتها ((الكبار)) في الرأي عندما تقول "إن الأدب التراجيدي موجود منذ أقدم العصور.. من تراجيديا سوفوكليس مروراً بمآسي شكسبير وانتهاءاً بروايات وقصص إيزابيل الليندي وماركيز.." وترى في جميع هذا الأدب أنه "غارق في بحر من السواد والحزن.." وتشير إلى أن أدب الشباب "ليس خليق اللحظة وإنما خليق أسباب وظروف عديدة عاشها الشباب العربي.." وترد الاتهام إلى أصحابه معتبرة أن أول هذه الأسباب هو "هؤلاء الأشخاص اللذين يطلقون أحكامهم دون معرفة الحقيقة.." وتوضح أن من أسباب إساءة الحكم "تقصير أصحابه في البحث عن أسباب هذه السوداوية في أدبهم.. إذ لم يخطر لهم يوماً أن يسألوهم عن منبع هذه المآسي.." وتضيف: في هذه المآسي أنها لا تصدر إلا عن نفوس أشبعها الكبت والحرمان.. ففي العصر الذي انفتح فيه العالم، انغلق عالمنا العربي ومجتمعنا على نفسه، وأصبح الحب مقروناً في ذهن الشباب باليأس والفشل وأصبح الجنس الآخر المحرم لا يوحي إلا بالصد.. إذاً كيف لشاب محروم من الاتصال بالجنس الآخر أن يتخيل قصة حب ناجحة.." ولا تقف حقي عند الجنس فهو ليس أكثر من مثال بل تعمم سؤالها إلى كافة تفاصيل الحرمان وغياب الحريات في الحياة عندما لا تتخيل أن شاباً "يستطيع أن يمسك القلم ويكتب من دون أن يتصور الرقيب الذي يمسك بالمقص متحفزاً.. وكذلك المجتمع بعاداته وتقاليده ونظرته وأحكامه المسبقة" هذا عدا عن الكبار الذين "ينتقدونه دوماً محذرين إياه من خطورة الحلم الذي يتكسر دوماً ـ برأيهم ـ فبالرغم أن الجيل الشاب ليس جيل انتكاسات إلا أنه جيل انعكاساتها. إذ فرغت فيه كل خيبات وانكسارات الجيل الأكبر، وقد حذر دوماً من خطورة الاندفاع والحلم.."
أخيراً تنهي حقي باعتبارها أن السوداوية مطلباً حقاً للكتاب الشباب وليس صفة تطلق عليهم للإساءة إلى أشخاصهم وأدبهم حيث تقول: " أفلا يحق للكاتب الشاب أن يكون سوداوياً ما دام كل ما هو جميل في الحياة ممنوع ومحرم؟".
الأدب الذي يكتب واقعنا لا بد أن يكون متشائماً
القاص والروائي معن علي الذي غادر بلده سوريا إلى اليابان هرباً من وطأة لقمة العيش والقمع كما ذكر قبل أن يغادر.. يرى في السوداوية والتشاؤم مركبان طبيعيان من مركبات الأدب، عندما تصطخب الكثير من الهموم في لحظة الكتابة، "هموم متصلة بالمعاش اليومي والتافه إلى حد كبير، وهموم ذات طابع ميتافيزيقي أو مفارق للوجود بالمعنى المادي للكلمة، مما يؤدي بشكل عام إلى ضبابية وعدم الوضوح للرؤية يؤدي بدوره إلى حالة سوداوية قاتمة وإلى تشاؤمية حتمية.." وينكر علي أن علي أن يكون التشاؤم صفة تلتصق بهذا الأدب أو ذاك بل يجد أن وصف الواقع "بتفاصيله" والكتابة عنه لاستقصائه يؤدي ببساطة شديدة إلى أن"يخرج أسوداً ويدعو للتشاؤم.." ويقول: "ليس هذا ذنبنا.. هذا واقعنا... عندما تصف الواقع بكل تعرجاته وطياته وخرائبه وزهوره وشمسه المشرقة، تحاول أن تكون صادقاً في لحظة التقاطك لصورة الكون.. بالنسبة لي الطامة الكبرى، تقع في أن جيلاً من الشباب قد نضح بهدوء وعبر زمن طويل وارثاً الهزيمة، بمعناها الفج منكباً على جبال من الكتب يطالعها بنهم مريع هذا التشكيل الغريب بين نضج معرفي لم يصل إلى حد مطلق وبين واقع رديء مخرب عُبث به في لحظة تاريخية كان المثقف بعيداً عن حضورها ليس بسبب تخلفه عنها بل بسبب جسامة ما في المنطقة من أحداث، قد تتجاوز شعوبها وتفوق بالقوة طموحاتها فعلياً.. والفكر قد يتأخر في الوصول إلى لحظة مستقبلية يكون ممسكاً فيها بأطراف اللعب، بين هذه اللحظة وتلك توجب على الكتاب والمبدعين أن يستغرقوا فيها استغراقاً تاماً في أوحال هذا الواقع المهزوم والمتردي ليس من موقف فكري مسبق بل من حاجة ضرورية لإمساك هذا المعطى الأسود، من أجل تجاوزه.. وبقدر ما نجعل الهزيمة واقعاً مقيتاً بقدر ما نهيئ الأرض لأن تلفظها لفظة نهائية.."
الأدب لا يقبل المطلق وإن كان هدفه أن يكون مطلقاً
الناقد سليمان الحسين استغرب أن تناقش الأمور بهذه الطريقة وبهذه النظرة الأحادية فالأدب وفق مايقول "لا يقبل المطلق وإن كان هذا هدفه، هذا أولاً. أما ثانياً: فهو لا يقبل التقسيمات الإدارية (حسب إدارة النفوس): أدب شباب وأدب كهول وأدب شيوخ." ويجد أن الإبداع وقيمة الأدب، لا تتعلق بالمرحلة العمرية وأن النص الراقي هو الذي يحقق الأدبية حقيقة، مذكراً ببعض أدباء العرب في كافة عصور الأدب العربي الذي قضوا في فترة الشباب بل في فورة الشباب ومنهم مثالً لا حصراً طرفة ابن العبد الذي يمثل "رؤية خاصة في تاريخ الشعر العربي وفحوى هذه الرؤية الإحساس بالعدمية ونوع من التشاؤم وعدم الاكتراث بالحياة والعالم.. وفي العصر الحديث سنجد شاعراً مبدعاً شكل فضاءً خاصاً ولم يتجاوز الخامسة والعشرين وترك لنا ديواناً لا يستهان به من حيث الكم، ولا يستغنى عن الحديث عنه من حيث الكيف.. وهو مرحلة شعرية خاصة تؤلف منهجاً إبداعياً دعي بالرومانسية" أقصد بهذا الشاعر أبو القاسم الشابي والذي "عاش في مرحلة عربية رديئة وكان يحمل في روحه نبض التشاؤم من الواقع وحلم الانعتاق إلى عالم جديد، فالتشاؤم والسوداوية والتراجيدية، هما حالة إبداعية خاصة قد تظهر عند الشباب خاصة ولكنها لا تقتصر عليهم"، وفي هذا السياق يشير حسين أيضاً إلى خليل حاوي الذي "رافقته الروح السوداوية والجحيمية إلى آخر حياته وهو الذي لم يمت شاباً.. ولكن أهم ما يقال في رؤاه الشعرية والأيدلوجية أنه كان انبعاثياً في نظرته إلى العالم والإنسان وإلى الواقع العربي الذي تفجع به..فالمسألة ليست متعلقة بالمرحلة العمرية إنما متعلقة بالرؤية والنظرة إلى العالم وإلى الواقع والإنسان... من المعروف أن العربي يعاني ما يعانيه من أرث حضاري وتقهقر أيديولوجي وانهيار سياسي وإلحاق في كل المجالات، لذلك لن ننتظر من الشاعر العربي سواء أكان شاباً أم عجوزاً أن يمجد هذا الوضع ويتغنى به، خاصة إذا انتبهنا إلى حالة العجز والإحباط التي يعيشها الإنسان العربي المعاصر في وجه أي تحدٍّ، لذلك تظهر الروح المقاومة على شكل سوداوي أو منكسر أو مهيض "
ويجد الناقد سليمان في الصراع الاجتماعي "ما يفرز هذه الرؤية" وكذلك في "اغتراب الإنسان المعاصر عن ذاته وعن مجتمعه وانسلاخه التاريخي أحياناً، وكذلك اغترابه الكوني والقومي والروحي كل ذلك يمكن أن يخلق هذا الحس المسمى بالسوداوية" ويختتم بقوله "طبع الشاعر المعاصر أن ينظر إلى العالم نظرة تشاؤمية لأن العالم يسلب الإنسان قيماً إنسانية كثيرة ويحل محلها نظاماً استهلاكياً قذراً قد لا يكون أمام أي إنسان يتمسك بإنسانيته وإنسانية الآخرين إلا أن يرفضه ويقومه".
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |