قصة / ذاكرة الماء
2010-06-05
خاص ألف
(إلى لحسن ومليكة)
توغلنا في الأعماق الدفينة للأرض إلى أن احتجبت الرؤيا وانقشع بريق الماء وهو يضيء ما اختفى من الكهوف السمجة وما تكلس من الأرواح المسكونة. اخترقت روحي الشريرة الأشعة الوقادة المنبعثة من اللهيب الأحمر لبركان الصبابة، وجلست أرتل لوحدي آيات الوجد، وأعانق تعب التاريخ الذي ولى والذي سيأتي وهناته، وأترك وجهي شبه أعزل تعبث به الحبات المتمايلة لريح الشمال. لم أعرف، مثلها، سر انصرام الوقت وخفوت نبضات رحم الشمس التعبى، وانكسار دائرة مدارها الطبيعي إلا بعد انبلاج ضوء الماء على الصفحة الأخرى لتيه القلب اللانهائي. كشفت عن جسدي الضامر كما كشف الولي الفقير والدرويش الصوفي عن جسده المكلم في ذلك المساء الخطابي من يوم 14 يوليوز 89. عبرت مرة ثانية مقام الهيام وقلت لخليلي الليلي: للسماء ابتعاد الرؤية ولموج النهر مدى المغامرة. حفرت اسمي على قناة نهر الكارون وسار حثيثا كما سارت عصا موسى وهي تشق عباب الأمواج العاتية. انكشف الحجر عن بقايا قوس من أقواس أقوامي البائدة، وشاهدت، بين اليقظة والحلم، الخليل الشيباني راكبا، كعادته، جناح الجبة فرحا بانكسار عنق ابنه على سناء السهم والنبال. تذكرت في الحين خنجر الغدر ودم الشاعر وهو يسقي جنان الكروم والزيتون ببساتين غرناطة الحزينة. شاهدت رعايا كليب تبحث عن الماء والكلأ في حمى القبائل فيتساقط الواحد منهم تلو الآخر على رمال الرمضاء. شاهدتهم يحتكمون إلى بني يربوع في كل أسبوع. ينتجعون ويقتتلون. لا مفر من النجعة والقتل. لا مفر لصاحب " المحاضرات" من الرحلة الدائمة واجتياز ربوع الأرض تنكرا وغربة.قال الآمر بالسلطان: " إن كان عندك ما تقوله فقله وأجبنا عن هذا حرفا حرفا ".
أعددت الكهنوت لإقامة الصلاة الرسمية ليوم الميعاد بين الصحف العتيقة والأوراق المثنية والحروف المتناثرة ، الهائمة على حواشيها الصفراء. لم يبق لي من رسم وللحبيب من غواية إلا افتتان الكلمة واحتراف اللغة وارتهان السفر. ابتعدنا رويدا عن إحساسنا الجوهراني الخاص واقتربنا من القبة المقدسة للمقام الصالح. رأيت الروح تطير من الفرح في الريش الناعم لسيد الرغبة وهي تغني نشيد الهوى ومطلق لذة الجوى. حضرنا جميعا العشاء القدسي لأهل المحبة والوجد ونسينا صلاة الفجر مع رحيل أول سرب للطيور الخفيضة الجناح المتجهة نحو قطبنا الجنوبي:
ـ أحس بنسيم الفجر يعلل كاهنات الكنائس الأكسيطانية..
لم ينتبه أي من الجالسين إلى معنى كلامها. قالت ذلك وهي تلقي نظرة أخيرة على صحائف الزمن البعدي. سكتنا جميعا. مشينا. جلسنا. شجعني تعليقها الوجيز على الكلام وقلت بصوت مهموس يوازي مسافة ضوء المصباح الصغير في الحجرة:
ـ يعجبني اعتكاف راهبات الدير بعد أن ترتوي روحهن برشفة المياه الروحية.
لم يعرني أنا الآخر أي أحد انتباهه. أحسست بخجل زائد يعمني وكأني ألقي الكلام هكذا على عواهنه..(صلاة، شراب، طعام، رقص، شعر، لغة، حوار، صمت..)
حامت حولنا فراشات النار ولم ندرك خدعة أجنحتها السحرية الملونة إلا على مدار سقوط البنايات القرميدية المجاورة للمقابر الترابية:
ـ لم يكن السر العظيم إلا سر البداهة العظيمة. إننا سنموت، ولكننا لا نعرف شيئا عن موتنا.إننا نعرف بأننا سنموت فعلا ولكننا لا نعتقد في ذلك. إن هذا ليس تعريفا أقصى للبداهة وسرها، وللموت ومغزاه، ولكنه، رغم ذلك، موجود. والتجاوز الوحيد الممكن هو تجاوز الذات لفكرة السلب المطلقة في العالم.إن الأمر يشبه فعل الحب في تشكله الكيميائي. حب كائن ما، حب أرض ما، حب عمل ما الخ.
لم نكن ننتظر هذا التدخل العميق للآنسة مونيك. فهي تطرح دائما أفكارا نيرة تحتاج تأملا وتبصرا، تحليلا مفصلا وإعمالا للفكر مقرونا بتعريف البداهة السابق. لم أعتقد أن كلامها كان موجها إلي. مر وقت ونحن نتبادل النظر بدون قول أي شيء. احتضنت سؤالها، أو قل برهانها بعد أن غمر رحيق الشراب ردهات المنزل. مشينا وسط غوطة أشجار العنب وعناقيدها الطافية وعلى حافة الأنهار ومائها السلسبيل. تفيئنا بظلها المكنون. اقتطف الصحاب حباتها الناضجة وأتممنا المسير.
قال محدثي الذي لم أودعه البتة منذ أن ولجت مراتب الحضرة: إن مونيك لم تكن عاشقة لتراكم المعنى وفيض دلالة الخطاب. كانت محبة ، ولا تزال، لاقتصاد الكلام وتركيب قواعد النطق بما يلائم حس القصد. تصمت طويلا وتفكر في ذاتها بالطريقة نفسها التي تفكر بها في ذرات الكون أو اللوحات المحفوظة في المتاحف أو في بحثها العلمي للسنة المقبلة. تحب، في داخلها، معجم التعالي الميتافيزيقي، وتطل على نهر الكارون بوساطة خطاب شفاف وكثيف يتخلل لهجتها الجنوبية في أرباض تولوز. يعجبها توليد المعاني من الظواهر العادية ومن الأحوال العجيبة المؤثثة لفضاء العالم. غايتها، من هذا التشقيق، ملامسة جوهر الدليل المركب وإصابة غشائه السميك والمعقد. تتحسس بروحها وتحفر بعقلها هجرة الكائنات في العصور الأولى، تشكل هواها الحالم بالألوان المائية الجارية من تحت أقدامنا، وتنكب على طرس الحياة لتكتب أبجدية الحياة الأبدية نفسها..
صدقت قول محدثي الذي كان دليلي في رحلتي وقلت له كلام الصديق للصديق:
ـ لقد اختمر برهانها في دماغي ووصلت إلى أنك كنت على حق وأنك صدقت فيما قلت. وأنك بالحكمة القاطعة نطقت. فاتركني، أعزك الله، أفكر في لحظة الجواب. إن أمرها غريب وعز الحبيب عند الحبيب. فأنا متعطش للمعرفة ووصل الحديث.
قال:
ـ خذ راحتك التامة في ما تبتغي أيها المحب الولهان...
كانت أجوبة متعددة تحاصرني وتضرب بسوطها في رأسي. تدمر مادتي الرمادية. لم تكن لي، في تلك اللحظة الوجيزة التي غادرني فيها دليلي المحدث، القدرة الكافية على اختيار جواب مناسب للسياق يفي بغرض محبة المقام. كنت، في الحقيقة، حائرا في استمداد الجواب المطلوب من خزان علم ذاكرتي في هذا الوقت من الليل. تبادرت إلى ذهني عدة أجوبة دفعة واحدة ولم أعثر على جواب. هل سأحكي لها عن تلك المرأة المدفونة في صندوق خشبي مغولي مخطط بالأخضر أفقيا وبالأبيض عموديا يتوسطهما لون أحمر مشع لا تخطئه العين من بعيد. صندوق ثابت على هواه في الركن الأيمن لرقعة المقام؟ أم أحكي لها قصتي مع اللواتي أحببتهن في حياتي حب الحبيب للحبيب وتركتهن وراء البحار يكتبن رسائل الشوق والعتاب؟ أم أحدثها عن لزومي البيت مع غجرية الشعر الأسود الطويل التي لم تفارق حلمي في الحل والترحال ولم تنفصل عن جسدي في عمر الشباب وغضاضة العمر؟ أم أنطلق معها في وصف الأمكنة والأزمنة وسرد ما حدث للعواطف وما جرى للإحساسات وما وقع للأهواء، واطلب منها تسجيل التواريخ البارزة المؤشرة على هذه المعالم كلها؟
أعلمها، مثلا، بحكاية ذلك الفتى الذي كان مضرب الأمثال عند أقرانه والذي هاجرته زوجه إلى الخارج بعد أن تركت له وريقة صغيرة مكتوب عليها بحروف متقطعة:
" ضقت العيش معك..لم أعد أقدر على تحمل هذا النوع من الحياة..أريد أن أعيش...وداعا."
أو أخبرها بقصة المقاوم الذي ضحى في سبيل استقلال وطنه فشوهد ذات يوم من أواخر شهر غشت و حمى القيظ ساطعة يمشي متعثرا يقوده مخزنيين وهو يدفع عربته الخشبية عليها كمشات صغيرة من النعناع والناس تتفرج عليه..
أو أراود سمعها بنبأ تلك الفتاة التي أتخمتها آبار النفط أموالا ونقدا فاشترت سيارة فارهة ذات ستائر رمادية وأسكنت إخوتها في مكان خارج مدار المدن القصديرية التي شهدت صباها، وأرسلت أبويها إلى زيارة قبر الرسول وأصبحت تحتل مقاما رفيعا في برلمان بلدها...
لم أعرف، كما قلت، في الحقيقة بماذا أبدأ؟
لم أعرف كيف أحسم في هذا الاختيار الصعب. قلت لها وكأنني أريد تغيير مجرى الحديث والابتعاد شيئا ما عن برهان سؤالها السالف:
ـ كم يغريني إيقاع الذات وهي تجوب مغامرة الكون..
انتظرت لحظة كعادتها، وكما وصفها لي محدثي، وبدت وكأنها تتفحص جملتي لترى العلاقة بينها وبين ما قلته وأجابت برنة الحكيم الذي يهمه فقط إبلاغ مراده إلى محاوريه ولو تطلب ذلك استخدام كل أشكال اللغة والإقناع:
ـ قلت لك، قبل قليل، إن سر الكون يكمن في سر البداهة المطلقة. إن بدء الذات هو سفرها إلى مداها الكوني وتحول السفر إلى رحلة سرمدية للكشف والمحاورة وإعادة الحياة إلى ألقها. شريطة ألا ننسى عشقنا للفاكهة السحرية في تراتب طبقات الفضاء ومنازل الفكر..
لم يرشدني محدثي، الذي التحق بنا على الفور، إلى انفعالها الواضح وتفاعلها الدينامي مع تركيب اللغة ومجرات الفلك المكنون. كان يحدثني عن وجه ويخفي عني، خلسة، وجوها أخرى. أو هكذا سار مظنون اعتقادي. وإلا لما وقعت في هذا الخطأ الشنيع حتى تستدرك مونيك على كلامي وتنبهني إلى هناتي بطريقة لا لبس فيها..كل شيء كان مقدرا ومنتظرا..
ساد صمت رهيب بيننا داخل جوقة الكلام. وكأن كل واحد منا كان يستبطن مصير نفسه ومآلها التاريخي في المسار المعتبر للعوالم الممكنة. كنا نسرق حوارنا الشجي من وسط الحوارات الكثيرة التي لم يعرف منزل سيلفي( الفاء مثلثة) كيف يحتويها في طلعة تلك الليلة الباسمة وهي ترشح على صفحة نهر الكارون. في هذه الليلة المرجانية الهاربة من قبضة الزمن الحديدية تعرفت إلى مونيك. كان كل شيء محفزا ومساعدا على هذا التعارف الشخصي: بدءا من سمو المتحدث وغزارة معرفته، إلى الاهتمام المشترك بيننا، إلى الجو العام الذي خيم في القاعة التي ضمتنا، إلى الأشياء المؤثثة للجلسة..فقد هيأ " القاص"، زوج سيلفي، كل ما يخص الليلة من طعام مشكل وشراب من كل الأنواع وبحسب طبيعة الأذواق، ونوعية الأصدقاء الذين لبوا الدعوة في الحين. " القاص" إنسان طيب جدا. لم يثبت عنه، يقول محدث الرواية، أن أوصد باب بيته في وجه أي كان من الأصدقاء والمهاجرين وغرباء الهوية ومنسيي اللغة. سوسي الأصل. أما زيغي الجذر. سافر إلى باريس للدراسة فأعجبه الحال والمكان. تزوج واستقر إلى الأبد. لم يعمل بنصيحة أمه التي كانت تطلب منه دوما وتكرارا الزواج من ابنة عمه على الطريقة السوسية في مدشر القرية وإنجاب الذرية في العائلة الممتدة لضمان استمرار النسل ومباهاة الأهل. نفذ فكرته وألقى بفكرة أمه وراء البحار التي اجتازها للوصول إلى ا لغرض المنشود. لم يقطع الصلة مع أمه وإن رفضت مقابلة زوجه بعد أن زارها في يوم خريفي جاف. أشاحت وجهها نحو قفاها وصدته عن رؤيتها. لم تتلفظ الزوجة بأي كلام يخدش حياء العائلة وتصرفت بحكمة. كانت تعرف سطوة التقاليد وسريان قيمها في الجنوب المغربي الذي توجد فيه الآن. سبق للقاص أن أفاض الحديث معها في الموضوع. استوعبت الزوج كل شيء.
لم تؤثر هذه الحادثة الطارئة على العلاقة الزوجية أو على العلاقة مع الأم الأمازيغية. اكتسب " القاص" خبرة في إدارة الشؤون العائلية وتدبير مشاكلها الحادثة. قوي الشكيمة رغم نحافة جسمه. قليل الكلام. بعيد النظر. ينصت إليك باهتمام شديد في كل حديث ويجيبك باقتصاد شديد أيضا. يحب قضاء عطلته رفقة زوجه في تسلق الجبال والصعود إلى قمة الأشجار العالية. يحمل محفظته السوداء تحت إبطه ويسير. رويدا يسير. يبدو من سحنات وجهه أنه سيخي مهاجر يحمل هم الوطن ومسكن الوجود. سخي وكريم رغم أن نسبه البربري يجلب إليه، أحيانا، تلك التهمة الملتصقة بهذا النسب من حيث البخل والشح. يعلم أن هذه المثلبة ليست من معدن طبيعته البشرية. جلست إليه لأول مرة وأحسست بالدنو منه وكأنني على صداقة به منذ عهد بعيد. تكسرت كل الحواجز البدئية بيننا وانطلقنا في نقاش وحوار طويلين حول قضايا عديدة..لم ننته من حوارنا الخصب إلا في الساعات القليلة المتبقية من تلك الليلة التي وشمت ذاكرتي بقوة. مازلت أتذكر حركة " القاص" اللطيفة وهو يهديني نصيبه من الحلوى الدائرية الجميلة التي حملتها معها ميشيل الريفية قائلا:
ـ خذ قطعتي من الحلوى..إنني أهديها لك من بين جميع الأصدقاء الموجودين هنا...
كانت قطعة الحلوى لذيذة جدا. زاد من جمالها ومن لذة مذاقها حبات الكرز التي تزين تاجها وتضفي عليها بهاء وتمنحها هذا الطعم اللذيذ الذي تنفرد به. نهمت القطعة وتويجها وسرحت بصري نحو الشرفة وأنا أسترجع هذه الالتفاتة الإنسانية من " القاص". كانت ساعتها مونيك تطل بين الفينة والأخرى من شرفة المنزل، من بين مزهريات الورود الأنيقة المرتبة لتفتح عينيها على نهر الكارون وكأنها تفعل ذلك لأول مرة في عمرها. في كل نظرة تسترسل في تحليل عنصر من عناصر الصورة التي يلتقطها بصرها، وتتحدث عن ذلك بدهشة وشحنة عاطفية تضفي سحرا شعريا وبيانا رومانسيا على حضرة الجلسة. كانت مونيك تزاوج بين هذا الحديث الحميم عن نهر الكارون وبين حديثها عن اهتمامها العلمي. تظهر مهووسة، أو كما يبدو من كلامها، ببحثها الجامعي في موضوع المرأة المغاربية ووضعيتها الاجتماعية الذي انتهت من تسجيله بكلية العلوم الاجتماعية في جامعة تولوز. الكلية ذاتها التي نال منها " القاص" شهادته الجامعية في التخصص نفسه. حكت لي عن تفاصيل سفرها إلى المغرب وزيارتها لمدينة مراكش وعن " صديقتها" التي صاحبتها في هذه السفرة. استنتجت من حديثها أن تلك " الرفيقة" قد أشبعتها كذبا وبهتانا حول تحرير المرأة والسياق الاجتماعي الذي يكتنف حياتها في المغرب، وأن مونيك لم تتفطن إلى الأمر إلا بعد حين. طال النقاش بيننا وامتد عندما أدركت مونيك أن " رفيقة الطريق" قد حاولت استغلالها لمآرب أخرى لا تمت إلى العلم بصلة ومرتبطة رأسا بمصاريف السفر وبالتبرعات والزيارات الوهمية:
ـ قدمت لي السيدة (س) على أساس أنها أول من دعا إلى تحرير المرأة في المغرب.. وقالت لي إنها كانت تدرس بجنوب فرنسا..وإنها ساهمت في تأسيس أول جريدة نسائية بالمغرب..وإنها ستقدم في القريب العاجل إلى جهة سياسية رسمية المشروع الكامل والنهائي ل " تحرير المرأة المغربية" الخ..
سكتت مونيك برهة وكأنها تفكر في ما وقع لها وفي ما سيأتي من كلام وأضافت بعد أن تجاوزت حسرتها:
ـ إنني لا أريد الاكتفاء بما تجمع لدي من مصادر ومراجع ووثائق في موضوع الوضعية الاعتبارية للمرأة المغربية ـ والمغاربية ـ ولكنني أرغب في تعميق معلوماتي بوساطة المشاهدة واللقاءات المباشرة وتسجيل ملاحظات أولية عن الواقع العيني، لأن هذا يفيدني أكثر في الموضوع والمراهنة على نتائج إن لم تكن مطلقة فعلى الأقل نسبية ومضمونة..لكن، وللأسف، فقد خدعت في بحثي العلمي من هذا الجانب، أو لنقل، على وجه الدقة، في ما كنت أنتظره من سفري إلى المغرب والثقة التي وضعتها في تلك " الصديقة" المغربية التي صاحبتني إلى هناك...
تحاشيت كل إجابة أو تعليق من شأنه أن يزيد من تعقيد المسألة أو يزيد الطين بلة، كما يقال، وإن كان يدور في ذهني بأن الباحث عليه أن يستعد لكل الاحتمالات، وألا ينخدع باليقينيات المسبقة، وأن يحتاط من كل شيء يستقبله، وأن يقيم مسافة بين ما يريده وما يعتقده الآخرون أو ما يرون فيه الحقيقة..تحاشيت قول هذا بعد أن ضاقت مونيك بوضعيتها وهي تشد رأسها وتستغرق في التفكير في سفرتها وإعادة شريط الإقامة و" الصداقة" في ذاكرتها..وكأن أحداث هذا الشريط جرت البارحة..
لم يغير شجن هذا الحديث من توثيق الصلة بيننا وسريان التعارف لمجراه الطبيعي، كما يحدث للأشخاص في مثل هذه الأحوال. لعل ذلك راجع إلى أن مونيك قد تحصل لديها أن كل خدعة مبنية على حيلة، وكل حيلة قائمة على معرفة مزيفة تبسط خيوطها العنكبوتية على المخدوع ولو لفترة وجيزة. ومونيك نفسها كانت ضحية هذه العملية الخداعية. قرأت هذا الاستنتاج في ملامح وجهها، و أسقطت عليه عناصر من تلك الخطاطة التي استنبطتها من مقروءاتي للقصص الخرافية ك: ألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة، ومائة ليلة وليلة، ومخطوط سرقسطة، والديكامرون، والمقامات..أنا أيضا انطلت علي خدعة هذه الحكايات ، وظننت معها أن كل المظاهر وتجليات الظواهر، بشرية كانت أم طبيعية، مبنية على لعبة الخداع أو لعبة الانزياح بين الحقيقة والوهم..وقد بدت لي مونيك وكأنها تتقمص فوق خشبة المسرح العلمي دور إحدى شخصيات هذه الخرافات العجيبة ..ومع ذلك، وحتى لا نظن بها الظنون، لأن بعد الظن إثم، فإن محدثي يرى بأن مونيك تتمتع بمعنويات عالية جدا، وأن الجمل التي تستعملها في خطابها لا تخلو من صدق جازم يعكس وضوح الموضوع وصفاء الذهن وتبلور الفكر. في هذه اللحظة بدأت أرسم ملامح صورتها الشخصية وأماثل بينها وبين هذه القدرات العقلية النادرة التي من صميم هذه الشخصية. قلت ل" القاص" ولحسن وسيلفي ومليكة:
ـ كيف يتضام هذا الجسد المتناغم مع نفسه، وهذان العينان السوداويان، وهذا الشعر القصير الفاحم،وهذا الوجه الدائري الذي يخترقه مثلث هندسي، وهذه الرؤية العذبة المائلة على صليب الرغبة، وهذا اللون الخمري المعتق المغطى بلباس أسود مفتوح في جانبه الأيسر..كيف تتناسق هذه الطبائع الراسخة مع هذه القوة الذهنية الوقادة..؟ كيف تجمع مونيك بين بلورية الذهن ونقاء الروح وشفافية الجسد وسحر البيان وبلاغة الخطابة...؟
قال " القاص" :
ـ إنه سر روحاني يختفي وراء جمالها الإيطالي الجذاب...
ابتسمنا جميعا..أصابني شرود فكري وأنا أركز بصري على شخص مونيك وهي تحتسي برشاقة فاتنة كأسها بالقرب من أختها التي لا تقل عنها جمالا وهدوءا هي الأخرى..وبين فرح " القاص" وسيلفي بحضورنا وتقاطع ذهاب كل واحد منا ومجيئه من المطبخ إلى قاعة الجلسة كانت مونيك بجسدها الرشيق وعينيها الناعستين تلعب على أوتار يقظة مفتوحة على العالم بأنامل شديدة الرقة..تضاعف تفكيري أكثر بهذا الإحساس الداخلي الرهيب عندما وصلني صوت جاك بريل من الفناء الخلفي للمنزل وهو يدعو للقيا والوصال وعدم التخلي. اجتمعت عندي كل دواعي الحمق والجنون، والعشق والموت، وتراكمت فعالية حدتها مع مرور زمن الجلسة وإيقاعها السريع وسياقها الاحتفالي وتشابك صورة مونيك الخارقة المؤثثة لوشاح هذا الزمن وفضاء ذهني الذي لا أعرف بالتحديد أنى قارة مكث حاله بها. قطعت صلة جهازي العصبي بكل شيء خارج عن صوت مونيك الرخيم وجسدها البهي والمدمر وقلت لمن لا يحتاج للقول: للكلام صورة الجسد وللجسد صورة الكلام وعلي أن أختار بين الإثنين أو هما معا...
وقعت أسيرا بين هذين الاختيارين، وقد عشت مرارا أوضاعا متشابهة ، أسيرا بين حديث جسد مونيك وترانيم صوتها وحديث ذاكرتي البلهاء التي أنسى محتواها بسرعة في مثل هذه الحالات. لم أحتفظ إلا بتأسيس جسد الخطاب وخطاب الجسد: كيف ينكتب كل واحد منهما في الآخر داخل هالة نهر الكارون وفسيفساء الكون؟ كيف يسم أثر البشر طبع التاريخ في عز اختفاء نور القمر؟ من يحدد الإيقاع البيولوجي للآخر؟ لماذا يراهن الجسد على خطاب كلي صميمي؟ لماذا يسعى الخطاب، من جهته، إلى التمفصل والتعالي؟
لم أترك الحرية لأفكاري وهي تتأمل ذاتها أمام مرآة الخلق ومرآة أخرى غائبة في مخيلتي حاضرة في جوف نسياني. اندهشت لهذه العملية النرجسية التي يعجب فيها الحديث بنفسه ويتباهى فيها الجسد بجلال عظمته ليتحول بمقتضاها الكل إلى دليل مائي ينثر رذاذه على مساحة الكون اللانهائية. في هذه اللحظة أيقنت أن لكل لقاء حديثين، ولكل حديث خطابين، ولكل مرآة وجهين، وثالث الشيئين مرتبة علوية للتوحد والاكتمال.
فمن الخادع والمخدوع؟ مونيك أم أنا أم الحديث؟
××××××××××××××××
نقل المواد من الموقع دون الإشارة إلى المصدر يعتبر سرقة. نرجو ممن ينقلون عنا ذكر المصدر.
ألف
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |