حفر المهرجان السنويتقيمه مديرية الثقافة بالرقة، اسه وتقاليده في الثقافة السورية، وكانت نسخته الرابعة، التي انتهت منذ أيام إضافة جيدة إلى ذاكرة الشعرية التي يراها الشاعر اللبناني بول
شاؤول الحصن الأخير للإنسانية في مواجهة الزيف والتسليع والثقافة الاستهلاكية.
فللعام الرابع على التوالي تنجح مديرية الثقافة بالرقة في تنظيم تظاهرتها الشعرية السنوية الكبيرة، في حشد لافت لأبرز الشعراء السوريين والعرب، وبدعم من الفعاليات الاقتصادية المحلية، إضافة إلى بعض المؤسسات الحكومية الأخرى.
فتحت عنوان (القصيدة الحديثة، هويّة ومعنى)، انطلقت يوم الاثنين 7نيسان 2008، بمدينة
الرّقّة السّوريّة، فعاليّات (مهرجان الشّعر العربي) في دورته الرّابعة، بمشاركات سورية وعربية واسعة، إلى جانب مشاركات من تركيا وإسبانيا وأوكرانيا. فمن الأردن كان هناك الشعراء (يوسف عبد العزيز والطاهر رياض) ومن مصر الشاعران (عزت الطيري ومحمد آدم) ومن الإمارات (أحمد راشد آل ثاني وميسون القاسمي) ومن العراق (هاشم شفيق وريم قيس كبة) ومن الجزائر (وربيعة الجلطي) ومن ليبيا (صالح قادر بو) ومن السعودية (أحمد الزهراني) ومن اليمن (أحمد العواضي) ومن لبنان (محمد علي شمس الدين) ومن تونس (يوسف رزوقه) ومن المغرب (مصطفى بدوي) ومن تركيا (عائشة ترجان) ومن إسبانيا) رايمون مايرتا) ومن سورية (إبراهيم الجرادي - عبد السلام حلوم - إبراهيم الزيدي -معاذ الهويدي – أحمد رشاد- رشا عمران - د. أحمد الحافظ - د. نزار بريك هنيدي - د.سهام السليمان- ياسر الأطرش ).
كما شارك عدد كبير من النقاد السوريين في هذا المهرجان، وهم (د. رضوان قضماني - د. هايل الطالب - د.غسان غنيم - د. وفيق سليطين - د. عاطف البطرس - د. جمال الدين خضور ـ د. سعد الدين كليب - د. عبد الجلي العلي)، إضافة إلى حشد واسع من الإعلاميين.
وقد تضمنت فعاليات المهرجان افتتاحاً لمعرض تشكيلي للفنان سامر عبد الغني ومعرضاً للكتاب العربي، وتكريماً للشاعر إبراهيم الجرادي
.
قصيدة التفعيلة الحاضر الأكبرمن المؤكد أن المهرجان لم يسع لحسم قضايا الشعر العالقة، على العكس، فربما كان إحدى أهم مهامه هو إذكاء الجدل حولها، ولا بأس من الاختلاف، لذلك جاءت الندوات النقدية صدى طبيعياً للتنوع الشعري والفكري الذي شهده المهرجان، وفد شهدنا، وعلى مدى أيام المهرجان، ارتفاعا في حرارة النقاش على نحو امتد ليطال أروقة المهرجان، والسهرات أيضا التي لم تنجح هي الأخرى بالخروج بهدنة من هذا الجدل الشعري.
تجارب شعرية مختلفة مثلت العديد من الدول العربية، إضافة إلى إسبانيا وتركيا وأوكرانيا، التقت في الرقة، وتوزعت على منبريها، في الرقة والثورة، لتضع لبنة في جدار الشعر العالي.
على مدار أربعة أيام، هي عمر المهرجان، قدم الشعراء المشاركون قصائد شعرية كان لقصيدة التفعيلة النصيب الأبرز فيها مع ظهور محدود لقصيدة النثر( سهام السليمان ورشا عمران وميسون القيسي واحمد راشد آل ثاني وصالح قادر بو)، ووجود خافت للقصيدة العمودية تمثلت بشيرازيات محمد علي شمس الدين وقصيدة إبراهيم الجرادي التي قرأها أثناء تكريمه.
يشكل عام فقد أثارت قصائد المهرجان، هي الأخرى، الكثير من الخلافات حولها،واتهمت بعضها بالضعف، فيما أثار وجود بعض المشاركات الشعرية الاستفهام حول كيفية دعوتها لما ظهر من تدن في مستواها وهذا ما يلقي مسؤولية إضافية على إدارة ومنظمي المهرجان بضرورة التدقيق أكثر في الأسماء الشعرية قبل توجيه الدعوة إليها وذلك حفاظا على سوية ومصداقية هذا المهرجان النوعي واللافت.
على العموم فقد بدت قصيدة التفعيلة هي الأقرب إلى ذائقة الكثيرين، والأكثر تناغماً مع الجو العام للمهرجان. ربما لأنها كانت الأكثر حضورا وانسجاما مع الذائقة العامة، وهذا لم يمنع بعض قصائد النثر من لفت الأنظار إليها وخصوصا تلك التي قدمها السوريون.
من جهة أخرى فقد كان للحضور الشعري غير العربي طعمه الخاص وحضوره المختلف، وفي الحقيقة كنت أسأل نفسي وأنا قادم لحضور المهرجان، كيف سأستقبل أنا وغيري من الحضور قصائد تقرا علينا بالأسبانية أو التركية أو الأوكرانية، ولكنني اكتشفت الإجابة بعد استماعي للشاعرة التركية عائشة ترجان، التي أثبتت أن الشعر لغة عالمية هو الأخر، وقد لا نحتاج، على رأي أحدهم، لترجمان يرافق الشاعر على المنبر، وهذا ما تعزز ونحن ننصت إلى الشاعر الإسباني رايمون ما يرتا الذي كان يقرأ قصائده بإحساس عال وكأن الجمهور الذي يسمعه يجيد الأسبانية.
ورغم كل ما أثير من قضايا الشعر وما استمعنا إليه من قصائد، وما دار حولها من خلاف، ظل جمهور الرقة النكهة الخاصة لهذا المهرجان، الذي ثابر على الاحتشاد في الأمسيات الشعرية وإن كان بدرجة أقل في الجلسات النقدية.
رحلة البحث عن الهوية والمعنى :
في الجلسات النقدية الصباحية، والجلسات المسائية التي كانت تعقب الأمسيات الشعرية، تبارت كوكبة من أبرز النقاد السوريين لتعقب آثار القصيدة العربية الحديثة والاستدلال على رائحة هويتها ومعناها، وهذا ما أثار سجالا فكريا حامي الوطيس بين بعضهم البعض من جهة، وبينهم وبين الجمهور من جهة أخرى.
ففي بحثه الذي جاء بعنوان مقاربة سوسيولجيا القصيدة حاول د. عاطف بطرس الذهاب بعيدا في الاجتماعي والسياسي والتاريخي للبحث عن هوية القصيدة ومعناها, ففي سؤاله الجوهري : أين يقع شاعر اليوم، منتج الحداثة، من الحداثة نفسها ..؟
للوهلة الأولى ستكون الإجابة الجاهزة أن شاعر اليوم خارج الحداثة، لأن فعل الحداثة بكل تجلياته وعلى كافة مستوياته لم يتحقق في المجتمعات العربية، إلا أن قراءة تجربة الحداثة تقود لإدراك أن الحداثة العربية هي تجربة ثقافة ولغة وليست فعل حياة، والتناقض الذي يعيشه شاعر اليوم بين هو بين فكر ثابت وتاريخ متحرك، وهذا يقودنا إلى البناء الداخلي التكويني للشاعر العربي، منتج قصيدة الحداثة، وهو ما سيقود إلى السؤال: في أي زمن يعيش الشاعر..؟ وهو سيقود بدوره إلى مفهوم تداخل الأزمنة، وما تعايش أشكال القصيدة (الشطرين والتفعيلة والنثر) إلا إحدى ثمار تداخل الأزمنة التي تشكل البناء الطابقي لتكوين الشاعر العربي.
ويخلص د. بطرس إلى أن هوية القصيدة العربية، منذ الجاهلية وحتى اليوم، هي التجريب والانفتاح والتغيير، أحيانا، والثورة والتجاوز أحيان أخرى .
كذلك فقد حاول د. رضوان قضماني طرح مقاربة نقدية لواحد من أسئلة الشعر الكبرى حول هوية الشعر ومعناه، مستندا إلى العلامات الفارقة في الشعر العربي الحديث التي شكلت مفترق طرق للقصيدة، وبذلك كان شعراء الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي محطات أساسية لبحثه حيث مثل السيّاب وأدونيس ويوسف الخال وخليل حاوي النماذج الأبرز لمشروع الهوية الثقافية العربية وكانت تجاربهم في استفار دائم للاشتغال على الأسطورة كوعاء لهذا المشروع.
وجاءت مساهمة د. جمال الدين خضور تأكيدا على ضرورة امتلاك الناقد أدوات منهجية ومفتاحية، إذ لكل نص مفاتيحه الخاصة، فيما يعجز النقد الوصفي التسطيحي العام عن تفكيك النص ودخول بنيته.
أو يرى د. خضور أن امتلاك الأدوات هو الذي يمكن الناقد من فتح النص ابتداء من البنية اللفظية والتركيبية والدلالية وما تخلقه هذه الأخيرة من انزياحات تشير إلى معنى النص، وهو حالة مفتوحة أيضا، فالدلالة تشير على المعنى وتتقاطع معه لكنها لا تتطابق أبدا معه، كما أن الدخول في فضاءات الزمن أداة هامة لفتح الزمن الحجمي للغة، ففي حين يكون الزمن خطيا في السرد فهو ليس كذلك في الشعر، كذلك الأسطورة فلكل نص شعري أسطورته الخاصة ومقاربتها النقدية لقضية هامة تماما كما العلاقات الغيابية والحضورية والتكرار اللفظي والدلالي لأن النص الشعري شغل على اللغة وللغة سلطتها وبالتالي فللنص سلطة تضعف آو تقوى تماما بقوة وضعف النص، ولا يقف النص على الصور البيانية التي يعتمدها النقد السطحي لأنها لا تعني اكثر من الدلالة، من هنا يمكننا أن نستنتج أن النص لغة والنقد شغل على اللغة في حين يكون الوزن والقافية شغلا من خارج اللغة وبالتالي فإن مقاربتها النقدية ستكون مقاربة خارج لغوية.
بدوره تساءل د. وفيق سليطين، ضمن محور بحثه عن هوية الشعر ومعناه، هل الهوية منجز أم أنه شيء يتصيّر ويتحقق بالإبداع والإضافة، وهل الهوية انتماء إلى الماضي أم انفتاح على المستقبل، وهل نحن قادرون على تحديد هوية خاصة بالشعر العربي الحديث ..؟
وحول المعني يتساءل أيضا: هل المعنى شيء مصمت متماسك في البنية النصية، أم هو متعدد التأويل ..؟
ويرى د. سليطين أن ليس هنالك تناقض بين محلية الهوية وعالميتها، فقد تكون الهوية متجذرة محليا بقوة الإبداع التي ترفعها عالميا، فنحن ..وبقدر ما نبدع نحقق هويتنا ونزيدها ثراء، وبالعكس .. فكلما زاد تخيلنا للهوية، كشيء موجود في الماضي سنغرق أكثر في لجة المحاكاة والاستعادة والتقليد والتكرار، ولكن السؤال الأهم : كيف نعيد صياغة العقل نقديا للخروج من مثل هذه الثنائيات التي تكفه عن العمل ..؟
أما د. خالد الحسين فقد تقدم ببحث عنوانه (شغب العلامات وغوايات العنوان) وفيه حاول إيجاد مقاربة تأويلية تتمحور حول تجربة الشاعر رياض الصالح الحسين، تسعى للغوص في خطاب العناوين لدى هذا الشاعر كموضوع للقراءة، وهو في تصديه لهذا الموضوع يحاول أن يسكن اللغة الشعرية، بمعنى أنه يروم تجاوز القراءة الوصفية والقراءة التأويلية لفتح عناوين المجموعات على آفاق دلالية لا نهائية، فالعلامة الشعرية لا تتوقف عن إنتاج الاختلاف الدلالي كلما تعرضت للقراءة.
هذ، وقد أثار د. غسان غنيم الانتباه في المحاضرة التي قدمها حول الشعر السوري الحديث والمعاصر وفيها منح أولوية كبيرة للبعد السيسيولوجي في رصد الإنعطافات الشعرية، ورغم أننا لا يمكننا سوى الاعتراف بدور هذا البعد إلا أن ثمة عوامل تلعب هذا الدور، كالمثاقفة وطاقة الذات فضلاً عن أن الإنعطافات يجب أـن ترصد من داخل النصوص، وهناك ملاحظة أخرى متعلقة بالبعد اللغوي في النصوص الشعرية المعاصرة، فقد أشار إلى بعض النماذج التي تكشف عن انقسام لغوي دون الإشارة إلى نموذج معروف متمثل بسليم بركات.
هذا وقد تقاسم د. سعد الدين كليب و د. هايل الطالب الندوة الختامية للمهرجان، ولم يتسن لهما، لضيق الوقت، تقديم بحثيهما كما ينبغي، على أهميتهما، وقد تحدث د. سعد عن التحولات الجمالية في الحداثة الشعرية السورية، مؤكدا أن التحول هو السمة الأولى للحداثة عامة وهذا ما يجعلها حداثة متغيرة متحولة مع بقاء أساسها الفلسفي والجمالي الأول.
وقد رصد الباحث ثلاثة أشكال للتحولات الجمالية في الحداثة منذ منصف القرن العشرين وهي :
- النموذج البطولي، وهو النموذج الذي ساد مع حركة التحرر العربية ولكنه اختلف عنها في أطروحاته القائمة على ما هو استثنائي ونادر ومنقطع عما سواه، بمعنى أن النموذج الجمالي البطولي هو نموذج البطل الفرد الذي يسعى إلى إنجاز مجتمع حديث ولكنه في الوقت نفسه منقطع عن المحيط، وهو ما يجعله بطلا مغتربا عن الآخرين ومثالا عليه مهيار الدمشقي لدى أدونيس .
- النموذج العذابي، وهو النموذج الذي سيطر في مرحلة الانكساريات السياسية والعسكرية منذ الستينيات حتى الثمانينيات خاصة، ويمثل هذا النموذج مختلف الأطروحات الفكرية والنفسية والجمالية التي تجعل من الفرد مأزوما وسوداويا ومغتربا ومثال ذلك شعر الماغوط ونزيه أبو عفش.
- النموذج الحيوي، وهو النموذج المعبر عن الحياة، غير المنقطع عنها، والذي تخفف من حمولاته الأيدلوجية المباشرة وانكساراته النفسية، وهذا ما جعله ينصرف إلى الحياة فيتغير بحسب متغيراتها ومواقفها، لذلك لا نجد لدى هذا النموذج أطروحة أيديولوجية مباشرة وانكفائية حادة ومثالا على ذلك صقر عليشي وبشير العاني.
وقد بين د. سعد كيف انعكس كل ذلك في البنية الفنية واللغوية والصورية مستشهدا بنماذج تطبيقية حول ذلك.
هذا وقد جاء بحث د. الطالب بعنوان ( خطاب الحب في الشعر السوري بين أنوثة الرجل وذكورة المرأة ) وفيه تناول أنماط هذا الخطاب لغوياً وفنيا مع تعزيزه بدراسة مقارنة بين هذين الخطابين في محاولة لرصد قيمه الفنية والجمالية مبيناً أن خطاب الشاعرات غلب عليه الطابع الثقافي الاجتماعي بخلاف خطاب الشعراء الذكور الذي أنتج تحولات مختلفة في الشعر.
بقي القول أن د. عبد الجليل قد تقدم، في جلسة خاصة، بخطاب نقدي صب في إطار الرؤية التقليدية للنص الشعري، وهي رؤية ما زالت رهينة للاستراتيجيات التراثية من حيث واقعية الشعر ووضوحه كما أنها بعيدة عن الإنجازات النقدية المعاصرة، وكأن صاحبها منقطع عن الأبحاث الجديدة ولهذا جاءت لغته مرهقة بالمفهومات والمصطلحات التراثية، ناهيك عن الاشكالية التي تطرحها مقاربة النص الشعري الجديد بآليات تراثية.
هكذا تكلم النقاد
على هامش المهرجان التقت (النور) مع عدد من النقاد المشاركين وسألتهم رأيهم في القصائد التي قرأت في المهرجان:
- د. جمال الدين خضور (إن مجالات التقييم النقدي للنصوص المقدمة واسعة ومفتوحة، كما أن النصوص الشعرية حالة مفتوحة وغير مغلقة وبالتالي فلكل نص مستواه الخاص تماما كحالات التلقي التي تتعدد بتعدد المتلقين، من هنا لا يمكننا أن نُدخل النصوص الشعرية في حالات التصنيف لكن بعض النصوص المقدمة لم تصل إلى مستوى الشعر.
قدمت مداخلة في تكريم الشاعر العربي إبراهيم الجرادي لتميزه في نصه، فقصيدته مختلفة شكلا ومضمونا وهو مجدد دائما يسير بقدمين شعريين حرين تماما كأغاني الفرات ويعيد التجربة في كل لحظة تماما كتجدد مياه الفرات يعطي من النصاعة للقصيدة كما يعطي العصاة بهاء للقوانين ويعطي الشعر ملامح الريح وهي تلف قميص عاص يتمرد على رمل الورد..) ..
- د. خالد الحسين (استمعت إلى القراءات الشعرية الخاصة باليوم الثالث للمهرجان والملاحظ أن النصوص التي ألقيت تعاني من ثيمة التماثل التي طبعت بقوة مساحات النصوص، فالنص برأيي ما لم يحدث فجوة في السياق الشعري السائد ليس بنص، ومن هذا المنطلق لم تستطع هذه النصوص أن تحدث اختراقا في أفق انتظار القارئ، ذلك أن أفق الانتظار، على الأقل بالنسبة لي، تطابق مع الأفق الذي أسسته النصوص، بيد أن الشعرية لا تتحقق برأيي إلا حين تتسع المساحة بين الأفقين، لا شك أن النصوص المقروءة، وإن انتمت إلى الشعرية راهنا، فإنها تميزت بهيمنة الصوت الواحد وأحيانا كثيرة بالمباشرة والتقليدية..).
- د. هايل الطالب (في الحقيقة إن النماذج التي قدمت في المهرجان لم تخرج في الكثير منها عن الإطار اليومي والساخر الذي ذهب إلى الاغتناء بجزئيات الحياة، لاحظنا أن هناك، في بعض النصوص، اعتمادا على توظيف الرمز، كما كانت هناك قصائد خارجة عن نطاق الشعر إذ افتقدت القدرة على السيطرة على اللغة بحساسية عالية ما أخرجها من الشعرية وادخلها في مجال السرد الحكائي الخالي من العمق، وأنا أعتقد إن مثل هذه النماذج تسي إلى الشعر جدا، وربما يتطلب هذا نقدا قاسيا بعيدا عن المجاملات والأخوانيات، ولا يعني هذا أنه ليس هناك نصوص متميزة على صعيد اللغة والرؤية الفنية، من جهة أخرى فإن ما تبقى من نصوص لم يخرج عن إطار السائد والمألوف الذي يتحرك في أفق محدود يجعلك تؤمن أنها لن تتطور أكثر من ذلك..)
بقي القول إن هذا المهرجان، وغيرها من المهرجانات الأخرى التي تنظمها مديرية الثقافة بالرقة سنويا، وما يرافقها من احتفاء نقدي وإعلامي واجتماعي، حتى صارت حديث المثقفين السوريين والعرب، إن كل هذا بات يتحول إلى حالة محرجة للثقافة (الرسمية)، وخصوصا في مديريات الثقافة في المحافظات الأخرى، التي لم تجد ما تدافع به عن كسلها أو لامبالاتها سوى بطرح ذلك السؤال المهزوم: إن الميزانيات لا تسمح بإقامة مثل هذه المهرجانات ؟!
للأسف، لم يفكر أحد منهم في البحث أكثر في هذه (الظاهرة) الثقافية، لأن النتيجة قد تكون غير مرضية لهم، إذ عليهم، وهذا ما سيفضي إليه البحث والنتيجة، أن يغادروا عقلية (الموظف) للذهاب إلى (المثقف) بذهنيته الجديدة وإرادته المخلصة للثقافة، وهذا ما لن ينسجم مع خصالهم البيروقراطية.
تكريم
ما أن انتهت الكلمات الرسمية حتى أعلن عن بدء تكريم الشاعر الرقي إبراهيم الجرادي، وبطريقة تليق بهذا الشاعر وخدماته الجليلة التي قدمها للقصيدة العربية.
فمنذ منصف السبعينات كان الجرادي يتخلق كحالة مفارقة في المشهد الشعري السوري، لكنه، ومنذ ديوانه الأول ( أجزاء إبراهيم الجرادي ) الصادر عام 1981 أصبح يقض مضجع القصيدة المطمئنة، وحين اصدر مجموعته الثانية (رجل يستحم بامرأة) صار على الجرادي أن يعد نفسه ليكون (كاريزما) شعرية تلتف حولها الأجيال الجديدة، وما أن وصل إلى ديوانه الثالث (شهوة الضد) حتى أصبح الجرادي واحدا من نجوم الشعر السوري.
صدق أو لا تصدق
شارك في المهرجان، الذي استمر لأربعة أيام متوالية، خمسة وثلاثون شاعرا من سورية واثني عشر قطرا عربيا وثلاث دول أجنبية، وثمانية نقاد سوريين وعشرات الإعلاميين والضيوف، وقد تحملت مديرية الثقافة نفقات الضيافة والسفر، بما في ذلك قيمة بطاقات الطائرة للضيوف العرب والأجانب، وقد نمي إلينا أن الرقة، كظاهرة ثقافية، قد دخلت موسوعة غينيس، لكثرة مهرجاناتها وضخامتها.
حمود الموسى
طوال أيام المهرجان، وقبله، أثناء التحضيرات، كان حمود الموسى، مدير الثقافة بالرقة، ينام في استراحة المديرية، غير قادر على الذهاب إلى بيته وعائلته في مدينة الثورة التي تبعد ما يقارب الـ 40 كم فقط !!
أصدقاء الشعراء
في كل المهرجانات التي تقام في الرقة كان هنالك، بين الأهالي، من يتطوع لتحمل بعض الأعباء للتخفيف عن مديرية الثقافة، وفي هذا المهرجان استضاف أحد شيوخ المدينة الشعراء ومن معهم على الغداء، وكانت الوليمة في سرادق كبير ضم ما يقارب الـ 400 رجلا، وعلى شرفهم نحرت عشرات الخراف، كذلك فقد تمت استضافة الشعراء من قيل العديد من الشخصيات الرسمية وأصدقاء الثقافة.
تضامن
في البيان الختامي للمهرجان أعلن المنتدون دعمهم الكامل لـلـ د. سماح إدريس في القضية المثارة ضده، معلنين أن الوقوف إلى جانبه وإلى جانب مجلة الآداب هو موقف الحداثة العربية النهضوية.
كما أعلنوا أيضا دعمهم الكامل للأدباء الذين يتعرضون للهجمة السوداء من قبل القوى التغيبية والظلامية ويخصون بالذكر أحمد عبد المعطي حجازي وحلمي إسماعيل
جنود مجهولون
نحن الإعلاميين لم نعد نعاني في الرقة من مشقة الحصول على الصور أو المحاضرات أو الدخول إلى الانترنيت وغيرها من الخدمات الضرورية، فبفضل شيرين زائل وياسر الخطيب وهاشم الآلوسي، هؤلاء الساهرين على كل هذا، صار بالإمكان الحصول على ما نريده، في اليوم الأخير للمهرجان، مبوبا ومكتوبا ومطبوعا على قرص ليزري (سي دي)، فتحية لهؤلاء الجنود المجهولين.