نصر حامد أبو زيد ومشروع الخطاب الإسلامي العلماني (قراءة في مؤلفاته)(3- 5)
2010-07-30
خاص ألف
يعود نصر حامد أبو زيد مجدداً إلى واجهة الأحداث الفكرية التي تسيدها منذ سنوات لفترة طويلة إثر السجالات التي دارت حول مشروعه الفكري والصراع الشرس الذي كان يقوده ضد المؤسسة الدينية التقليدية والتي قادت إلى تكفيره..
يعود أبو زيد مجدداً هذه المرة ولكن عبر صرير عربة الموت التي تقض سكينة الرجل الذي فضّل في السنوات الأخيرة العمل بهدوء العالم غير عابئ بتخرصات الآخرين من حوله..
مات أبو زيد بعد عطاء فكري قل نظيره، وهذا لوحده، حسب رأينا، حاث لنا لاستعادة أفكاره وإعادة تقليبها وقراءتها وتفحصها نقدياً ومعرفياً، زاعمين، وأرجو أن لا نكون مبالغين، أن الرجل قد ساهم في وضع واحد من أكثر المناهج الفكرية كفاءة وموضوعية لقراءة التراث الإسلامي وبهذا فقد استحق عن جدارة تلك الضربات العنيفة التي كالها له كهنوت هذا التراث وسدنته..
مات نصر أبو زيد، الذي نراه اليوم، مع القليل من المفكرين الأحياء، واحداً من أبرز التلاميذ النجباء لعصر النهضة.. ولعل هذه القراءات السريعة في بعض أعماله ترتقي إلى مصاف رد الجميل لمفكر شجاع حاول أن يقي الأجيال العربية من الامتثالية والتزييف في الوعي والثقافة.
الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية
يعتبر الشافعي (150- 204 هـ) المؤسس الحقيقي للوسطية في مجال الفقه والشريعة وإليه يعود فضل الريادة في تأسيس التيار الأصولي لما يسمى بأصول الدين وأصول الفقه بكل دلالته الاجتماعية والسياسية.
والتيار الأصولي (الشافعي) – كما يرى أبو زيد – قد دفعت به أسباب تاريخية - اجتماعية اقتصادية سياسية إلى موقع السيادة والسيطرة، بمعنى أن تغير الظروف والملابسات كان يمكن أن يدفع بتيار آخر، وهذا الكلام موجه للذين يريدون أن يجعلوا من هذا التيار الخاص حاكماً على الثقافة والتاريخ والواقع، فالقول بجوهرية (الوسطية) واعتبارها سمة أصيلة من سمات الفكر الإسلامي والثقافة العربية قول يحتاج لمراجعة تكشف بعده الأيديولوجي وتعريه من ثياب القداسة التي ألبست له في تاريخنا الثقافي والعقلي.
في المنهج، يعتمد أبو زيد في دراسته عن الشافعي على تحليل الأفكار والكشف عن دلالتها أولاً ثم الانتقال إلى مغزاها الاجتماعي السياسي – الأيديولوجي ثانياً.
وتجنباً لمزالق التحليل الميكانيكي – الانعكاسي فإنه يبدأ بالحركة من الداخل إلى الخارج.. من الفكر إلى الواقع الذي أنتجه، غير متجاهل لضرورة وضع الفكر الشافعي في السياق الفكري العام للعصر الذي أنتجه وفي سياق المجال المعرفي الخاص – مجال أصول الفقه– لأن أطروحات الشافعي لا تفهم بمعزل عن الصراع الفكري الذي كان محتدماً بين أهل (الرأي) وأهل (الحديث) في مجال الفقه والشريعة ولا يمكن لهذا الصراع بدوره أن يُفهم حق الفهم إلا في سياق الصراع الفكري على مستوى العقيدة بين المعتزلة وخصومهم من المشبهة والمرجئة، وهذا الصراع المركب سيحيل من داخله إلى صراع آخر مركب أيضاً وعلى مستويين:
- مستوى الصراع الشعوبي بين العرب والفرس خاصة وهو صراع كانت له أبعاده الثقافية والفكرية الواضحة. ومستوى الصراع الاجتماعي– الاقتصادي السياسي الذي كان يتخذ في الغالب شكل الصراع الفكري– الديني ويتركز في النهاية حول تأويل النصوص الدينية.
- أما الأصول الفقهية للشافعي فتتركز على أربعة هي: الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
وهو دائماً يؤسس اللاحق منها على السابق فالسنة تتأسس مشروعيتها على الكتاب، لتصبح مصدراً ثانياً للتشريع، وإذ يصبح الكتاب والسنة بناء عضوياً دلالياً واحداً يمكن للشافعي تأسيس الإجماع عليه ليصبح نصاً تشريعياً يكتسب دلالته من النص المركب من الكتاب والسنة، ويأتي الأصل الأخير في أصول الشافعي (القياس والاجتهاد) ليتأسس استنباطاً من الأصول الثلاثة السابقة.
ويرى أبو زيد أن هذا التركيب وهذا التأسيس لأصول الفقه الشافعي تأسيس يعتمد في الأساس على تحويل (اللانص) إلى مجال (النص) وتدشينه نصاً لا يقل في قوته التشريعية وطاقته الدلالية عن النص الأساسي الأول الذي هو القرآن الكريم.
إن هذه الآلية، آلية تحويل (اللانص) إلى مجال (النص) وما تؤدي إليه من تضييق مساحة الاجتهاد والقياس بربطه بوثاق النص ربطاً محكماً، آلية لا تخلو من مغزى أيديولوجي في السياق التاريخي لفكر الشافعي وفي فكرنا الديني الراهن على حد سواء.
ويرى أبو زيد أن الشافعي يقع أحياناً في التناقض بسبب اندفاعه الأيديولوجي ويضرب على ذلك مثلاً في موقف الشافعي من مشكل وجود بعض الألفاظ الأعجمية في لغة القرآن حيث يرى– خلافاً لما استقر عليه الرأي في عصره– أن هذه الألفاظ هي في الواقع ألفاظ عربية وأن القائلين بغير ذلك جهلوا هذه الألفاظ أساساً فتوهموا أنها ليست عربية طارحاً (أي الشافعي) اتساع اللسان العربي اتساعاً يجعل من المستحيل الإحاطة به إلا للأنبياء.
إذاً طالما أن اللسان العربي بهذا الاتساع الذي لا يحيط به إلا الأنبياء، فإن مهمة تفسير القرآن تصبح عسيرة على غيرهم، هكذا يناقش أبو زيد موقف الشافعي منبّهاً إلى تجاهله– أثناء دفاعه عن اللسان العربي– الحروف أو اللهجات أو اللغات السبعة التي تنزّل فيها القرآن والتي استقرت أخيراً– بناء على توصية عثمان بن عفان– على لغة قريش.
- إن دفاع الشافعي عن اللسان العربي ليس إلا دفاعاً عن القرشية التي يتحدر منها ودفاعاً عن نقاء لغة قريش لتأكيد هيمنتها وسيادتها الثقافية والسياسية، ورغم أن هذا الدفاع عن قريش، الذي لا يخلو من انحياز أيديولوجي قد يوقع الشافعي في تناقض معرفي، إلا أنه يستمر فيه ويظهره بصور متعددة منها:
1- احتفاءه الخاص بالمرويات من الأحاديث التي تؤكد فضل قريش على الناس كافة حتى لو كانت هذه المرويات غير متصلة السند.
2- التأكيد على حصر الخلافة في قريش دون غيرها من العرب حتى لو علاها الخليفة بالسيف وأكره الناس على الاجتماع إليه.
- هذا ولا تخفى دلالة أن الشافعي هو الفقيه الوحيد من فقهاء عصره الذي تعاون مع الأمويين (القرشيين) مختاراً راضياً خاصة بعد وفاة أستاذه مالك بن أنس الذي كان له من الأمويين موقفا مشهودا حين أفتى بفساد بيعة المكره، وكذلك موقف الإمام أبي حنيفة الذي رفض أدنى صور التعاون معهم رغم سجنه وتعذيبه.
- إن الكيفية التي يمكن بها استخراج الدلالة من النصوص تبدأ مع الشافعي بتقرير مبدأ على درجة عالية من الخطورة فحواه أن الكتاب يدل بطرق مختلفة على حلول لكل المشكلات أو النوازل التي وقعت ويمكن أن تقع في الحاضر أو في المستقبل على السواء مستشهداً بالآية (الله خالق كل شيء) التي يراها أبو زيد آية خلافية من حيث دلالة لفظة (كل) فيها على العموم، والشافعي هنا يحدد انتماءه الأيديولوجي المنحاز إلى صف القائلين بالجبر الرافضين لحرية الإرادة الإنسانية ولفعالية الإنسان في اختيار أفعاله.
- ويعمل الشافعي على توحيد الطرائق الدلالية بين اللغة العربية والقرآن تأسيساً لعروبة الكتاب (معنى ودلالة) من منظور أيديولوجي في سياق الصراع الشعوبي الفكري والثقافي، وبهذا نفهم المآل الأخير الذي انتهى إليه تحديد أنماط الدلالة (عند الشافعي) الذي اعتمد على تصنيف المتلقين، فلن يستطيع أن ينهض بمهمة فهم القرآن وتفسيره إلا عربي بالسليقة والجنس مهما تعمّق (غير العربي) في اكتساب اللغة وتعلمها، وهنا سيغدو مفهوماً إصرار الشافعي على قراءة الفاتحة بالعربية كشرط ضروري لصحة الصلاة متجاهلاً موقفاً المسلمين من غير العربي على عكس أبي حنيفة الذي أجازها لمن لا يعرف العربية، وهو خلاف سيقود إلى خلاف أكبر حول (هوية) النص القرآني، هل هي (أي الهوية) المعنى وحده أم المعنى متلبساً بالألفاظ، وهو ما يدافع عنه الشافعي الذي يرى هذا التلازم بين اللفظ والمعنى معتبراً اللغة العربية (التي اختصرت في القرشية) جزءاً جوهرياً من بنية النص.
والشافعي يرى بأن دلالات القرآن تحتاج إما إلى (اللسان العربي) وإما إلى السنة لتفسيرها وتأويلها، وهنا يبدأ الشافعي في تأسيس السنة كـ(نص) ثان لا يقل من حيث مشروعيته الدلالية عن النص الأول (القرآن).
وتجدر الإشارة إلى أن الخلاف بين أهل (الرأي) وأهل (الحديث) لم يكن خلافاً حول مشروعية السنة، لكنه كان خلافاً حول الثقة في بعض أنواع الأحاديث خاصة بعد استشراء ظاهرة الوضع والانتحال من جهة، وخلافاً حول انفراد السنة واستقلالها بالتشريع.
وفي الحقيقة فقد حرص الشافعي على جعل السنة ليست شارحة ومفسرة للكتاب فحسب، بل عمل على إدماجها في أنماط الدلالة وإدخالها كجزء عضوي في بنية النص القرآني وذلك بربطها بالكتاب من خلال ثلاثة أوجه: الأول: التشابه الدلالي، وهو تشابه يعتمد على تكرار السنة للخطاب القرآني، والثاني علاقة السنة بالبيان والتفسير، والثالث انفراد السنة بالتشريع بوصفها نصاً مستقلاً يستمد حجيته من دوالٍ في الكتاب نفسه.
وبما أن الوجه الثالث (انفراد السنة بالتشريع) كان وجهاً خلافياً فقد ذهب الشافعي لتعزيز وجهة نظره إلى اعتبار السنة (وحياً) ولكن من نمط مغاير لوحي الكتاب، أي أن (وحي) السنة هو (الإلقاء في الروع)، إنه (الوحي) بالمعنى اللغوي الذي هو الإلهام، وليس بالمعنى الاصطلاحي أي عن طريق وساطة الملك جبريل.
- لقد جعل الشافعي السنة وحياً من الله يتمتع بنفس القوة التشريعية والإلزام، وحين تصادف الشافعي مشكلة زوال الفروق أو عدم وضوحها بين سنة الوحي وسنن العادات والتقاليد (خاصة مع توسيع مفهوم السنة ليشمل الأقوال والأفعال والموافقات) يلجأ الشافعي إلى فكرة (العصمة) التي يتمتع بها الأنبياء.
وبهذه الطريقة- يرى أبو زيد- أن الشافعي يكاد يتجاهل (بشرية) الرسول تجاهلاً شبه تام، ويكاد يخفي من نسقه الفكري (أنتم أعلم بشؤون دنياكم) حتى أنه يجعل من مواصفات النظام الاجتماعي السائد، والذي لم يتواضع عليه أو يقمه الإسلام، سنة واجبة الإتباع يجري عليها القياس كحكمه في العبد الذي لا يرث قياساً على حديث يرويه منطوقه (من باع عبداً وله مال فحكمه للبائع إلا أن يشترطه المبتاع) رغم أن إدخال هذا القول في إطار سنة الوحي يتعارض مع المقاصد الكلية للشريعة التي تعتبر الحرية أصلاً والعبودية أمراً طارئاً كما يذهب أبو حنيفة.
- ولا ينتبه الشافعي إلى النص القرآني الذي يأمر النبي أن يعلن أنه لا يجوز له تغيير شيء من الوحي من تلقاء نفسه (ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي) يفيد بأن السنة ليست وحياً إنما هي اجتهادات النبي لفهم الوحي.
- هذا وتنقسم الدلالات التي تنتجها السنة استناداً إلى كيفية (الانتقال) إلى ثلاثة أقسام هي: المتواتر والمشهور والآحاد، والدلالة في هذه الأقسام الثلاثة تكون في نظر الشافعي دلالة قطعية تعلو على دلالة القياس التي هي في نظره دلالة ظنية احتمالية دائماً.
وسنن الآحاد (نقطة اختلاف الأحناف مع الشافعي) هي السنن التي جاءت عن الرسول على لسان أحد التابعين، وهي قد تكون متصلة مسنودة مباشرة إلى الرسول وقد تكون منقطعة (المراسيل)، ويرى أبو زيد أن قبول الشافعي للمراسيل، رغم احتمالات الخطأ فيها، كاشف عن طبيعة المشروع الذي يريد أن يصوغه (عبر توسيع مجال النصوص) لصياغة الذاكرة على أساس الحفظ ومرجعية النصوص والتضييق على دور العقل والاجتهاد.
أما الأصل الثالث في فكر الشافعي فهو (الإجماع) الذي هو – حسب الشافعي- ((ما اجتمع المسلمون عليه وحكوا عمن قبلهم واجتمعوا عليه، وإن لم يقولوا هذا بكتاب ولا سنة، فقد يقوم عندي مقام السنة المجتمع عليها)).
والشافعي حين يحاول أن يجعل الإجماع سنة واجبة الإتباع يظل وفياً لأستاذه الإمام مالك بن أنس الذي اعتمد (عمل أهل المدينة) مصدراً من مصادر الفقه.
في تأسيسه للأصل الرابع (الاجتهاد / القياس) لا يحتاج الشافعي إلى الإجماع ليحقق ذلك، فقد تداخل الإجماع مع السنة بحيث صار التمييز بينهما صعباً ولذلك يؤسسه مباشرة على الكتاب.
يقع الاجتهاد / القياس في نظر الشافعي داخل دائرة نمط (الحكم بغير إحاطة) الذي ينبني على الظاهر فقط دون الباطن أو على العام دون الخاص، والشافعي في تأسيسه للاجتهاد / القياس يبدو وكأنه يعمل حقاً على تكريسه كأصل من أصول الفقه، إلا أن هذا يحدث ظاهرياً فقط، ففي الواقع يفعل الشافعي النقيض حين يحصر الاجتهاد في دائرة ما هو موجود في النصوص فعلاً من أحكام، وهو يحكم على أي اجتهاد يقع خارج دائرة النصوص ودلالاتها الحرفية بأنه استحسان وقول بالرأي، فهو مثلاً يرفض أن تؤخذ الزكاة من ( الجوز) و(اللوز) وغيرها من أنواع الغراس التي لم تذكر في النصوص على العكس من مجال القياس الواسع عند الأحناف الذي يساوي بين أنواع الغراس كلها.
أخيراً يخلص أبو زيد إلى أن هذه الشمولية التي حرص الشافعي على منحها للنصوص الدينية، بعد أن وسع مجالها، فحول النص الثانوي الشارح إلى الأصلي وأضفى عليه نفس درجة المشروعية ثم وسع مفهوم السنة بأن ألحق به الإجماع كما ألحق به العادات وقام بربط الاجتهاد / القياس بكل ما سبق ربطاً محكماً، تعني في التحليل الأخير تكبيل الإنسان بإلغاء فعاليته وإهدار خبرته، فإذا أضفنا إلى ذلك مواقف الشافعي عامة، والتي تسعى إلى تكريس الماضي لإضفاء طابع ديني أزلي عليه، أدركنا السياق الإيديولوجي الذي يدور فيه خطابه كله، إنه السياق الذي صاغه الأشعري من بعد في نسق متكامل ثم جاء الغزالي بعد ذلك ليضفي عليه أبعاداً فلسفية أخلاقية كتب لها الاستمرار والشيوع والهيمنة على مجمل الخطاب الديني حتى عصرنا هذا.
وهكذا ظل العقل العربي الإسلامي يعتمد سلطة النصوص بعد أن تمت صياغة الذاكرة في عصر التدوين- عصر الشافعي- طبقاً لآليات الاسترجاع والترديد وتحولت الاتجاهات الأخرى في بنية الثقافة، والتي أرادت صياغة الذاكرة طبقاً لآليات الاستنتاج الحر من الطبيعة والواقع الحي، كالفلسفة العقلية، إلى اتجاهات هامشية، وقد آن أوان المراجعة والانتقال إلى مرحلة التحرر لا من سلطة النصوص وحدها بل من كل سلطة تعوق مسيرة الإنسان في عالمنا.
بشير عاني
[email protected]
××××××××××
نقل المواد من الموقع دون الإشارة إلى المصدر يعتبر سرقة. نرجو ممن ينقلون عنا ذكر المصدر ــ ألف
08-أيار-2021
12-آذار-2016 | |
21-تموز-2012 | |
05-تموز-2012 | |
05-حزيران-2012 | |
24-آب-2011 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |