نُبوّة وزنا، من نصّ إلى آخر (3/1) بقلم: ألفريد-لويس دو بريمار / ترجمة : ناصر بن رجب
2010-07-31
«كيف استنبط المحدّثون والفقهاء حدّ الزّنا في الإسلام»(*)
جاء في حديثٍ مُسندٍ إلى أبي هريرة، أكثر الصحابة رواية للحديث(1)، خبرٌ مَفادُه : «أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم رجم يهوديا ويهودية».[ابن حنبل، مسند، II، 279-280].
من هنا، ومن بين أمثلة أخرى عن الرجم الذي نُفّذ بقرار من محمّد، ليس فقط على يهودٍ بل أيضا على مسلمين، أُثيرت مسألة الحدّ الذي أُعِدَّ للمحصنين الزناة.
بالإضافة إلى الخبر المقتضب للواقعة، تتكرّر أيضا في كتب الحديث عدّة أخبار لنفس الحدث تختلف فيما بينها إيجازا وإطنابا، وزيادة ونقصانا وتنوّعا. هذه الأخبار، فيما عدا واحد منها، مهما تعدّدت مصادرها تُسند دائما إلى الصحابة الذين يمثلون لرجال الحديث أكبر المصادر أهمية وبالخصوص منهم أبو هريرة وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس. خبر يُضاف إلى آخر، وكلّها غالبا ما تتكرّر مرّات عدّة في نفس الكتاب في مواضع مختلفة وأحيانا حسب طبيعة الموضوع المطروق. نجد هذه الأخبار تحت أشكال مختلفة في موطّأ مالك [ت 179 ﻫ/796 م]، وفي سيرة ابن إسحاق [ت حوالي 150 ﻫ/767 م]، وفي مصنّف عبد الرزّاق [ت 211 ﻫ/827 م]، الذي يعتمد هو نفسه على مؤلَّف سابق له هو جامع مَعمَر [ت 150 ﻫ/771 م]، وفي مسند ابن حنبل [ت 241 ﻫ/855 م]، وفي صحيح البخاري [ت 256 ﻫ/870 م]، وفي صحيح مسلم [ت 261 ﻫ/875 م]، وفي سنن أبي داود [ت 275 ﻫ/889 م]، وفي جامع الترمذي [ت 279 ﻫ/892 م]، وباختصار في كلّ كتب الحديث للقرنين 2 و3 ﻫ/8 و9 م. كما نجدها أيضا في كتب التفاسير مثل تفسير الطبري [ت 310 ﻫ/923 م]، أو تفسير القرطبي [ت 671 ﻫ/1273 م].
ولأنّها تتكرّر هكذا بصبر وجلد من طرف الجميع وتحت أشكال مختلفة يُمكننا أن نفترض بصورة مقبولة أنّ ما يُرْوى لنا هنا، على الأقلّ فيما يتعلّق بالحدث الخام، هو شيء قد وقع في زمنِ تركيز أسس الإسلام بصفته أُمّة قائمة بذاتها.
ولكن الذي يهمّنا، فيما وراء السرد المقتضب، هي الأخبار. ودون أن أُهمل الروايات الأخرى، فإنّني سأركّز دراستي على القصّة الواردة في سيرة ابن إسحاق حسب رواية ابن هشام. وهكذا، الشيء الذي يبدو لي ذا أهميّة بارزة في طريقة تأليفها هو الاستنتاج الذي وقع التوصل إليه، من هذه الموادّ التي تبدو متناثرة في الظاهر، بواسطة لمسات متعاقبة وتحت غطاء أحاديث من مصادر مختلفة.
مع ذلك، وقبل أن نقّدم هذا الحديث ونحلّله، يحسن بنا أن نعرف واحدة من الروايات القصيرة للخبر حول رجم الزاني والزانية اليهوديين. من بين الكمّ الهائل من الروايات اخترتُ تلك التي وردت في موطّأ مالك، مُعاصر ابن إسحاق ومنافسه في المدينة(2). هذه الرواية القصيرة تمثّل فعلا نوعا من المخطّط لما كان يُروى في هذا الموضوع في بدايات رواية الحديث. وهذا لا يعني بالضرورة أنّها أوّل رواية من حيث القِدم : من الممكن أن تكون قد وُجدت خطوط رئيسيّة لروايات أخرى سابقة لها. ولكن نظرا لاستحالة تحديد ما هي أوّل رواية ظهرت في هذا الموضوع، فإنّ معرفة هذه الرواية تسمح لنا على الأقلّ بتحليلٍ أفضل للرّواية، متعدّدة الأشكال، التي توفّرها لنا السيرة في المرحلة النهائية من الصياغة التي أعطاها لها ابن هشام.
للتّسهيل أكثر، ميّزتُ ورقَّمت العناصر الأساسية لهذه الرواية التي نجدها، مع فوارق طفيفة، في كلّ النسخ من هذا الطراز وكما في السيرة نفسها(3).
النصوص:
الرواية القصيرة في الموطأ [ج 2، ص 819]
حدثنا مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنّه قال :
1 - جاءت اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أنّ رجلا منهم وامرأة زنيا.
2 - فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟» فقالوا : «نفضحهم ويُجْلدون» فقال عبد الله بن سلام : «كذبتم! إنّ فيها الرجم» فأتوا بالتوراة فنشروها. فوضع أحدهم يده على آية الرجم، ثم قرأ ما قبلها وما بعدها. فقال له عبد الله بن سَلام : «ارفع يدك!» فرفع يده، فإذا فيها آية الرجم. فقالوا : «صَدَق يا محمد، فيها آية الرجم».
3 - فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما. فقال عبد الله بن عمر : «فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة».
الرواية متعدّدة الأشكال في سيرة ابن هشام [II، 193-196]
قال ابن إسحاق: وحدّثني ابنُ شهاب الزهري أنه سمع رجلا من مُزَيْنة، من أهل العلم، يحدِّث سعيدَ بن المسيَّب، أنّ أبا هريرة حدَّثهم :
1 - أن أحبار يهود اجتمعوا في بيت المِدْراس(4)، حين قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ، وقد زنى رجلٌ منهم بعد إحصانه بامرأة من يهودَ قد أحصنت، فقالوا: «ابعثوا بهذا الرجلِ وهذه المرأة إلى محمد، فَسَلوه كيف الحكم فيهما، ووَلُّوهُ الحكم عليهما. فإن عمل فيهما بعملكم من التجبية – والتجبية : الجلد بحبل من ليف مَطْليّ بقارٍ، ثم تُسَوَّد وجوههما، ثم يُحملان على حِمَاريْن وتُجعل وجوههما من قِبلِ أدبار الحمارين - فاتَّبِعوه، فإنما هو مَلِك، وصدِّقوه. وإن هو حكم فيهما بالرجم فإنه نبيّ، فاحذروه على ما في أيديكم أن يَسْلبَكُموه!». فأتوه، فقالوا : «يا محمد! هذا رجل قد زنى بعد إحصانه بامرأة قد أحصنت. فاحكم فيهما، فقد وَلّيْناك الحكم فيهما!».2.1 - فمشى رسولُ الله، صلى الله عليه وسلم، حتى أتى أحبارَهم في بيت المِدْرَاس، فقال: «يا معشر يهود، أَخْرِجوا إليَّ علماءَكم!». فأُخْرِج له عبد الله بن صوريا.
قال ابن إسحاق :
- 2.2 وقد حدثني بعضُ بني قُرَيْظة : أنهم قد أخرجوا إليه يومئذ، مع ابن صُوريا، أبا ياسر بن أخْطَب، ووهب بن يَهُوذا، فقالوا: هؤلاء علماؤنا. فسألهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى حَصَّل أمرَهم، إلى أن قالوا لعبد الله بن صوريا : هذا أعلم من بقيَ بالتوراة.
قال ابن هشام : من قوله : «وحدثني بعض بني قريظة»، إلى : «أعلم من بقي بالتوراة» من قول ابن إسحاق، وما بعده من الحديث الذي قبله.
2.3 - فخلا به رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان غلامًا شابًّا من أحدثهم سِنًّا، فألَظَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة، يقول له: يا ابن صُوريا، أنْشُدك الله وأذكِّرك بأيامِهِ عند بني إسرائيلَ، هل تعلم أن الله حكم فيمن زنَى بعد إحصانهِ بالرجم في التوراة؟ قال : اللّهم نعم، أما والله يا أبا القاسم إنهم ليعرفون أنك لنبيّ مُرْسَل ولكنهم يحسدونك. قال : فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بهما فرُجما عند باب مسجده في بني غَنْمِ بن مالك بن النجار، ثم كفر بعد ذلك ابن صُوريا، وجحد نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق :
2.4 - فأنزل الله تعالى فيهم : ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ﴾ أي : الذين بعثوا منهم من بعثوا وتخلفوا، وأمروهم به من تحريف الحكم عن مواضعه، ثم قال : ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ﴾، أي : الرجم، فَاحْذَرُوا [المائدة: 41] إلى آخر القصة.
قال ابن إسحاق : وحدثني محمدُ بن طلحة بن يزيد بن رَكَانة عن إسماعيل عن إبراهيم، عن ابن عباس، قال :
3.1 - أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما، فرُجما بباب مسجده، فلما وجدَ اليهوديُّ مَسَّ الحِجارة قام إلى صاحبته فجنأ عَليْها، يقيها مَسَّ الحجارةِ، حتى قُتلا جميعًا. قال : وكان ذلك مما صنع الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في تحقيق الزنا منهما.
قال ابن إسحاق : وحدثني صالح بن كَيْسان، عن نافع مولى عبد الله بن عُمر عن عبد الله بن عمر، قال :
2.5 – ما حكَّموا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما، دعاهم بالتوراة(5) وجلس حَبْرٌ منهم يتلوها، وقد وضع يده على آية الرجم، قال : فضرب عبدُ الله بن سَلام يد الحَبْر ثم قال : «هذه يا نبيّ الله آية الرجم، يأبى أن يتلوَها عليك». فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ويحكم يا معشر يهود، ما دعاكم إلى ترك حُكم الله وهو بأيديكم؟» قال : فقالوا : «أما والله إنه قد كان فينا يُعمل به، حتى زنا رجل منا بعد إحصانه، من بيوت الملوك وأهل الشرف، فمنعه الملك من الرجم(6)، ثم زنا رجل بعده، فأراد أن يرجمه، فقالوا : لا والله، حتى ترجم فلانًا، فلما قالوا له ذلك اجتمعوا فأصلحوا أمرهم على التجبية، وأماتوا ذكر الرجم والعمل به». قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأنا أول من أحيا أمرَ الله وكتابه وعمل به».
3.2 - ثم أمر بهما فرُجما عندَ باب مسجده. وقال عبد الله بن عمر : فكنت فيمن رجمهما.
قال ابن إسحاق :
2.6 - وحدثني داودُ بن الحُصَيْن عن عكْرمة، عن ابن عباس : أن الآيات من المائدة التي قال الله فيها : ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [المائدة : 42] إنما نزلت في الدية بين بني النضير وبين بني قُريظة، وذلك أن قتلى بني النضير، وكان لهم شرف، يؤدون الديةَ كاملة، وأن بني قريظة كانوا يؤدون نصفَ الدية، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله ذلك فيهم، فحملهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على الحقِّ في ذلك، فجعل الديةَ سواء. قال ابن إسحاق : فالله أعلم أي ذلك كان.
من كتاب إلى آخر:
إنّ تعداد كلّ الروايات المتوازية والمتعلقة بنفس الحدث سيكون مرهقا مُملاّ. وقد يذهب بنا الاعتقاد لأوّل وهلة أنّه عمل لا طائل من ورائه بالإضافة إلى أنّ الأخبار تبدو وكأنها تتكرر؛ غير أن الحال ليس هكذا دائما وبالخصوص إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الإطار العام للمؤلفات التي وُضعت فيه هذه الروايات المختلفة.
إنّ طريقة تصنيف الأحاديث في موطأ مالك [2 ﻫ/8 م] ومصنَّف عبد الرزاق [2-3 ﻫ/8-9 م] تعتمد الترتيب على الموضوعات والأبواب الفقهية. ففي المُصنَّف [VII، 315 وما بعدها، الأحاديث من رقم 13.329 إلى رقم 13.369]، في كتاب الطلاق، يورد المؤلِّف 40 حديثا في «باب الرجم والإحصان«. نجد فيها آراء القدماء وأخبار اليهوديين الزانيين بجانب أخبار أخرى تهمّ عدّة حالات زنا تخصّ مسلمين كانت العقوبة التي سلّطها فيها محمّد أو أحد الصحابة الرجم أو فقط، بحسب الظروف، الجلد والنفي. إذن، لدينا هنا كُتيِّب فِقْهي حول مسألة الرجم يتّضح منه أن هذه القضية كانت في نهاية القرن 2 ﻫ/8 م، موضوع نقاش بين الفقهاء المسلمين الذين كان شغلهم الشاغل بدون شك تحديد موقع التشريع الإسلامي مقابل شريعة موسى. جاء خبر رجم اليهوديين الزانيين في ثلاثة أحاديث ]من 13.330 إلى 13.332]. الأول منسوب لأبي هريرة يُطابق، مع تغيّرات ملحوظة، ما نجده في السيرة بنفس النَسب وبنفس إسناد الزُهري(7)، ولكن عن طريق مَعمر(8)؛ والحديثان الآخران المنسوبان إلى ابن عُمر يُطابقان، دائما مع تغيّرات، رواية الموطّأ القصيرة، التي صدّرنا بها هذا المقال، ودائما عن طريق نافع(9). ولا نجد هنا ذِكرًا لابن عبّاس كمصدر للرواية.
غير أنّه ليست لدينا هنا مجرّد مجموعة من الأحاديث المتجاورة : فالأخبار هي جزء من كلٍّ وحْدتُه متكوّنة ليس من ترجمة الباب فقط. فالباب مؤلف تبعا لفكرة أساسية(10) : رَجْمُ الزاني والزانية حدٌّ مصدره القرآن وسنّة النبّي وخلفائه الأوائل. وبالفعل، فإن مجموع هذه الأحاديث جاءت مؤطَّرة، في بداية الباب وفي نهايته، بمقتطفين من خطاب الخليفة عمر يؤكّد وجود آية الرجم التي نجد نصّها في الحديث قبل الأخير المرفوع لأُبيِّ بن كعب.
نجد طريقة التبويب حسب المواضيع والأحكام الفقهية ربّما ببروز أكبر في كتاب متأخّر وهو صحيح البخاري [3 ﻫ/9 م]. ففيه تُشكِّل أحكام الرجم جزءا من «كتاب الحدود» و «كتاب المحاربين من أهل الكفر والردّة». ونحن هنا أيضا إزاء مجموعة من الأقوال والحالات المتعلقة بهذه المسألة يُوافق الكثير منها ما نجده عند عبد الرزاق، مع التغيّرات المعتادة، سواء فيما يتعلّق بالمتون أو بالأسانيد. فالخبر حول اليهودييْن الزانيين، المنسوب لابن عمر، يَرِدُ فيه مرّتين : مرّة أولى في «باب الرجم في البلاط»؛ ومرة ثانية، مع تغييرات، في «باب أحكام أهل الذمّة وإحصانهم إذا زنوا ورُفعوا إلى الإمام» [وهذه هي نفس رواية الموطّأ المذكورة أعلاه]. إلا أننا نجد من جديد نفس الخبر في مواضع أخرى من صحيح البخاري وفي كلّ مرة للاستدلال به على ما يُترجم من المسائل المختلفة كما نجده أيضا في القسم المخصّص لتفسير القرآن [سورة 3، آية 93].حيث يُقدّم الخبر على أنّه «سبب نزول» الآية.
نفس طريقة ترتيب الحديث هذه نجدها في صحيح مسلم المتزامن مع صحيح البخاري. فالأحاديث عن اليهوديين الزانيين ترد ضمن أحاديث أخرى في «كتاب الحدود» في «باب حدّ الزنا». واحدٌ من هذه الأخبار يأتي في شكل خاصّ [لا يوجد من الجانِيَيْن إلاّ الرجل، ومحمّد يتدخّل دون أن يُطلب منه ذلك]. وسلسلة الإسناد هي نفسها شاذّة. وستتسنّى لنا الفرصة للعودة لهذا الخبر لاحقا لما له من خصوصيات.
أمّا مسند ابن حنبل [ق 9 م] فطريقة تصنيفه مختلفة تماما، فالأحاديث مجموعة فيه ليس بحسب الأبواب، فقهية كانت أم لا، ولكن مُرتّبة على أسماء الصحابة والسلف الذين تُروى عنهم تلك الأحاديث. وهكذا نجد فيه مسندًا لكلّ من الخلفاء الراشدين، ومسندًا لأبي هريرة ومسندًا لعبد الله بن عمر، الخ. طريقة التصنيف هذه شاقة وعسيرة للوقوف على الأحكام الشرعية ولكنّها تمثّل لنا فائدة كبيرة من حيث أنها تُيسِّر غالبا جمع الكثير من الوثائق القديمة والأخبار الشفوية التي يقدّمها هذا أو ذاك من الرواة السابقين.
يبدو أن ابن حنبل، في الأحاديث التي جمعها في مسند أبي هريرة، لم يحتفظ من بين تلك التي وردت عنه في موضوع الرجم إلاّ بالحديث القصير الذي قدّمناه في بداية هذا المقال. تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن سلسلة الإسناد هي نفسها التي في الخبر الوارد تِباعا في المُصنّف والسيرة. هذا بالرغم من أن جزءًا مهمّا من مجموعة أحاديث عبد الرزاق الصَّنْعاني، شيخُ ابن حنبل، الصادرة عن مَعمر بن راشد، منقولٌ في أحاديث هذا المسند. ولكن لا يوجد فيها أي خبر أساسي نوعا ما عن الحادثة التي تهمّنا يُطابق ما نجده في هذا الموضوع في المصنّف وبرواية أبي هريرة. وهو يورد أيضا [II، 450]، عن أبي هريرة خبرا آخر عن الرجم أُخرج بغزارة في مجموعة أستاذه اليمني (الصنعاني) من طرق شتّى.
بالمقابل، فإن ابن حنبل قد اختار مسند عبد الله بن عمر لكي يُورد فيه خبر رجم اليهودييْن. وهو يفعل ذلك مرّات عدّة : في بداية الأمر بصورة متكرّرة في مواضع متعدّدة حسب الأسانيد [II، 7، 63، 76، 126]، وبواسطة إيحاء بسيط للحادثة؛ ومرّتين أخريين بروايتين قصيرتين جدّا [II، 17، 151]، وفي النهاية في خبر كامل نسبيّا ولكنه قصير [II، 5]. يُقدِّم هذا الخبر تنوّعا ملحوظا فيما يتعلّق بـ «قارئ» التوراة الذي يضع كفّه على «آية الرجم» لكي يخفيها : هذا القارئ يُدعى ابن صوريا وهو أعور. وبالمقابل، فإنّ عبد الله بن سلام لا يَظهر هنا : فالفعل مبنيّ للمجهول [«فقيل له : ارفَعْ يدك»].
أمّا الطبري [3-4 ﻫ/9-10 م] فهو يعود إلى نفس الخبر خمس مرّات، كمفّسر للقرآن، بخصوص سورة المائدة في الآيتين 41-42، مُتسائلا بالأساس بأَيٍّ من الآيتين يليق أن نُلحق الحدث. يرد الخبر هنا كاملا مرّتين برواية أبي هريرة. باستثناء بعض التغيّرات فإن الطبري ينقل إجمالا ما رُوي في مصنّف عبد الرزاق عن طريق مَعمر عن الزُهري. وبالمناسبة، لا يظهر ابن إسحاق في هذا الإسناد. ولذلك فإنّ الطبري لا يشير إلى سيرة ابن إسحاق كمرجع له. وهو، بالإضافة إلى هذا، يُورد ثلاث روايات أخرى مختلفة بصورة ملموسة واحدة منها، عن ابن زيد، تُثير لدى المفسّرين، من خلال أسباب النزول، إشكالا فقهيّا : هل فعلا نُسخت آية الرجم؟
نستطيع أيضا أن نُضيف لهذه القائمة مجموعة الأحاديث الصغيرة التي ساقها القرطبي [ت 671 ﻫ/1272 م]، المفسّر الأندلسي، في تفسيره لسورة المائدة [آية 41]. يستند القرطبي أساسا على الكتب الحديثيّة الكلاسيكية. الحديث الذي استقاه من سنن أبي داود [ت 275 ﻫ/889 م] همّه بالخصوص تحديد الشرط الرئيسي الذي توجِبُه التوراة، حسب الحَبْرين الأخويْن ابن صوريا اللّذين استجوبهما محمّد، حتّى تُقبل تهمة الزنا، أي شهادة أربعة شهود عيان رأوا الجانِيَيْن وقد التَحَم الخِتان بالختان : «يُغَيّب ذلك منه في ذلك منها كما يُغيّب المرود في المكحلة والرشاء في البئر» [الجامع، VI 176-178]، وهذا في المحصّلة تدقيق ربّينيٌّ جدًّا(11).
في مقدورنا مواصلة البحث هكذا في مختلف المُؤلّفات. ولكن هذه النخبة من الأخبار، المحدودة قصدًا، تكفي لكي نلاحظ الطابع المتغيّر جدّا للأحاديث المسندة لنفس السلف والمَرويّة، في النهاية ومع اختلافات طفيفة، عن طريق نفس الرجال. بعض التغييرات في هذه الأحاديث تكون أحيانا ضئيلة؛ وفي أحيان أخرى تكون أكثر أهمّية، وستكون لنا فرصة لإبراز أن التغيّرات اللفظية يمكنها أن لا تكون أحيانا محايدة تماما. انطلاقا من نفس الحدث تكون الأحاديث متغيّرة وذلك ليس لأنّها قد تكون فقط شفهية (إذ كانت هناك نصوص مكتوبة حتى ولو على الأقل في حالة بدائية، عن طريق الإملاء)، ولكن لأن الرجال الذين يروون هذه الأخبار لهم أيضا أهدافهم الخاصة بهم، ويحرّرون داخل إطار أدبيّ معيّن تبعا لظرف معيّن.
ملاحظة ثانية، ملازمة للسّابقة، هي أنّ الإطار الشامل للأحاديث محلّ الدرس، الواردة في كلّ من المُؤلّفات التي ذكرناها للمقارنة، ليس هو نفس الإطار الذي حدّده ابن إسحاق. في الحقيقة، فإنّ الخبر المتعلّق باليهوديين الزانيين والرجم، الذي جاء في السيرة، ليس غايته الأولى مناقشة مسألة فقهية ولا الظهور في مُسند هذا الصحابي أو ذاك ولا حتّى استحضار «أسباب النزول»، وذلك بالرغم من أنّ هذه الشواغل حاضرة أيضا عند ابن إسحاق كما هي حاضرة عند الآخرين. ولكن قبل أن نتناول هذه النقطة، يتوجّب علينا أن نتعرّض لمسألة حدّ الزنا نفسه كما تظهر في كلّ هذه المُؤلّفات.
رجم الزاني والزانية:
نحن نعرف أن المصحف العثماني الذي بين أيدينا اليوم لا يشتمل على أي آية تنصّ صراحة على أن الرجم هو الحدّ الذي يجب أن يُطبّق على الزنا. العقوبة الوحيدة الموجودة في النص القرآني الحالي، في أسوء الحالات، ليست سوى الجلد مئة جلدة [النور، آية 2، وأيضا النساء، الآيات 15-18]. بالإضافة إلى أنّ الأمر يتعلّق هنا بعقوبة تُسلّط على من أتى «الفاحشة» (في سورة النساء) و«الزانية والزاني» (في سورة النور)، وذلك دون تحديد ما إذا كان الأمر يتعلّق هنا بالمحصنين منهم أم ا
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |