اختصار التاريخ في أغنية: دراسة لأغنية شعبية
2010-08-16
خاص ألف
تحتضن الذاكرة الشعبية في سوريا تاريخها بواسطة المعارف التراثية FOLKLORE وتمر الإشارات والرموز التاريخية هنا وهناك في المواد التراثية، ولا بد من فحص المنتجات التراثية وغربلتها لقراءة التاريخ فيها. ذلك لأن التاريخ الذي تختزنه الشعوب هو بُعدٌ لا مجال لتمييز مسافاته. والتراث عامة هو مخلفات الماضي الحضاري التي يضمها مخزون الفكر الشعبي المولع بحفظ الأحداث الهامة وتلوينها بالمرح حيناً وبالحزن أحياناً. ولكن المعارف التراثية تأخذ طابع الاستمرار من الماضي إلى الحاضر وتعيش مع الناس في متحدات اجتماعية مغلقة. فتنمو وتزدهر كلما حافظت الجماعة على ملامحها الفكرية الخاصة بها وتعلقت بحضاراتها السابقة.
وتحتفظ سوريا في ريفها ومدنها بالعديد من المواد التراثية المأثورة التي لم تسجل حتى الوقت الحاضر ولم تقترب منها الدراسات التاريخية الجادة، وبعض هذا التراث خاص بمنطقة دون أخرى، ومثله في ذلك كمثل اللهجة المحكية، أو تراث عام شائع تتداوله وتحافظ عليه وتضيف إليه أكثر من منطقة.
وتنطبق جميع قوانين الدراسات الاجتماعية على كل وحدة من وحدات التراث الشعبي، إذ أنها تحمل فلسفة الجماهير وتطلعاتها ونقدها للحياة الاقتصادية والاجتماعية، وتثبيتها للأحداث التاريخية. ونقدم فيما يلي ملاحظات علمية على أغنية من الأغاني الجماعية التي يرددها الأطفال السوريون في جميع مدنهم وقراهم، ويهزجونها حسب مقام العجم البسيط الذي يتحمل التلوين والتحريك والتقطيع والبطء والسرعة، وتجرى كلمات الأغنية كالتالي:
يا شميسة طلعيلي لأنشر غسيلي
غسيلي عند الجارة حطتو بالمغارة
نطت عليه الفارة
والفارة جابت صبي سمّتو محمد علي
محمد علي بالشباك عم يشرب تتن وتنباك
والتنباك غالي بيساوي دقن خالي
ويغني الأطفال في الأحياء القديمة في القرى والمدن، كما ذكرنا من قبل، هذه الأغنية على أنها أغنية جماعية تتداخل طبقات أصواتهم الرفيعة والناعمة في الصداح بها، وله مناسبة محددة هي غروب الشمس أو كسوفها أو خسوف القمر أو الأيام الغائمة.
وتعتقد الجدات المسنات اللواتي يحرضن الأطفال على غنائها ،إن ترداد هذه الأغنية يساعد الشمس والقمر على التخلص من الحوت الذي يبتلع هذين الكوكبين النيرين لبعض الوقت.
ونحن نرى في دعوة الشمس للطلوع لمساعدة البسطاء على تجفيف ثيابهم دعاء وثنياً قديماً ربما كانت له بعض العلاقة بعبادة الكواكب التي كانت معروفة في سوريا القديمة. فمطلع الأغنية يستغيث بالشمس ويخاطبها على أنها قوة تعقل وتستجيب لدعاء البسطاء الذين ترهقهم أيام الغيوم والشتاء.
وقد عرفت عبادة الشمس والقمر في سورية قبل فترة الصراع الحثي ــ الفرعوني، وانتشرت بعد المصالحة بين البلدين أي بعد القرن الثالث عشر ق.م.
والتصورات الشعبية القولية المأثورة في سوريا تخاطب الشمس كقوة خلاقة معطاء وتعوض الناس عما يفقدونه، ولها القدرة على تجديد الحياة. والشمس في كثير من المواقف الشعبية هي الكوكب المعبود الذي لم يتأثر بظهور الديانات الموحدة.
ولعل إلحاح الأسر السورية على أبنائها عند تبديل أسنانهم، بضرورة رمي أسنانهم اللبنية إلى الشمس ومخاطبتها بالجملة التالية: " يا شميسة يا شميسة، خذي مني سن الحمار واعطيني سن الغزال". واتفاق جميع الأسر السورية على اختلاف دياناتها على ضرورة مخاطبة الشمس لدى رمي الأسنان، كل ذلك يجعلنا نعتقد أن ذكريات عبادة الكواكب ما زالت مخزونة في صدور السوريين حتى لو أخذت كلمات الدعاء طابع الدعابة في الوقت الحاضر:
"خذي مني سن الحمار واعطيني سن الغزال". فنحن نرى أن كلمات الدعاء في الديانات القديمة كانت تؤلف لتجعل المعبود قريباً من الناس يسمع دعاءهم المحزون، كما يتقبل دعاباتهم. ولا ننسى أن ننوه هنا إلى أن الدعابة قد بنيت هنا على التصغير والتحقير من شأن الطفل أو الداعي، ومدح كرم الشمس التي ستبدل سن الحمار بسن الغزال، وهذه صفة معروفة في الأدعية والتراتيل التي كانت شائعة قبل انتشار الديانات الموحدة.
وما تزال مظاهر مواكب الطواف ومسيرات عبادة الكواكب ماثلة في المدن والقرى السورية التي نجد الأطفال فيها مستعدين للدق على ألواح الخشب والصفائح المعدنية والخروج بمسيرات غاضبة في أحيائهم الضيقة لدى إعلان كسوف الشمس أو خسوف القمر، فالمنتشر بين الناس أن الخسوف أو الكسوف يعنيان أن حوتاً شريراً قد ابتلع احد الكوكبين النيرين وان استمرار الخسوف أو الكسوف قد يعني نهاية الكون ولا بد من تحرير الكوكب الأسير بالدق على الخشب والمعادن والغناء الجماعي الغاضب والمسيرات في أطراف الأحياء.
ونلاحظ في الأغنية تبرماً من أذى الفئران، هذا التبرم الذي يظهر في البيئات الريفية والمدنية على حد سواء حيث كانت المؤن توضع في المغائر للحفظ وتكثر حولها الفئران الضارة. وأهم من هذا وذاك ما ورد في القسم الثاني من هذه الأغنية حيث يذكر اسم محمد علي ويرتبط اسمه بتدخين التبغ والتنباك.
فمحمد علي هذا هو رجل مهم سيء النسب أو مقطوع النسب، فقد ولدته فأرة، وكيف تلد الفأرة صبياً يطلق عليه محمد علي؟ أغلب الظن أن هذه الكناية تذكرنا بذم السوريين والمصريين والعرب عامة لأسرة محمد علي باشا الألباني الأصل الذي ولد عام 1769 في كافالا (قوله) ، إحدى مدن مقدونيا الآن، والذي يحفظ عن طفولته روايات مختلفة متناقضة، فربما كان والده ملاكاً صغيراً. غير أن محمد علي فقد والديه منذ نعومة أظفاره، فاحتضنته عائلة أخرى وعندما بلغ سن الرشد بدأ يتعاطى تجارة التبغ، ثم حدث تغيير في مجرى حياة محمد علي عندما بلغ الثلاثين من العمر فقد اختير وفقاً لأوامر الباب العالي العثماني ضمن كتيبة ألبانية صغيرة أوفدها السلطان إلى مصر، وسلّم محمد علي مركز مساعد آمر هذه الكتيبة التي لم يزد تعداد جنودها على الثلاثمئة.
واضح هنا من الربط بين ضياع نسب محمد علي وكون الفأرة أمّاً لشخص اسمه محمد علي. إن الشاعر الشعبي والرواة الشعبيين كانوا يستمتعون باتهام محمد علي باشا بإغفال نسبه وكون والدته مجرد امرأة تافهة عاشت في الظل، في حين ان ابنها "محمد علي بالشباك..بيشرب تتن مع تنباك". وهنا نقول مرة أخرى أن السوريين الذين غزاهم إبن محمد علي، ابراهيم باشا عام 1831 ــ 1833 وفرض عليهم الضرائب المتنوعة وجرّ ابناءهم للخدمة الإلزامية كانوا يفتشون جاهدين عن مثالب الأب الذي كان، وكما أشرنا من قبل، مجرد تتّان ثم تقلد حكم مصر بعد أن أباد المماليك وغزا الجزيرة العربية وأبعد الوهابيين عن المدينة المنورة ومكة المكرمة، ثم قام بغزو السودان واحتلال فلسطين ولبنان وسورية وكيليكيا وهدد العاصمة العثمانية وكاد أن يأخذها لولا تدخل القوات البحرية والبرية الروسية والدبلوماسية الانجليزية حفاظاً على عرش السلطان العثماني إبقاء على مكاسب القوى العظمى في جسد الرجل المريض (الدولة العثمانية).
تصر كلمات الأغنية على ثراء محمد علي باشا بوصفه شارباً للتبغ والتنباك. ولكن الشاعر الشعبي يعود فيذكر هموم الفقراء الذين يرون في التنباك مادة باهظة الثمن وغالية وليس بمقدورهم تدخينها. وتعبر هذه الأغنية بطريقة شعبية حادة السخرية عن غلاء قيمة التنباك بالقول: "والتنباك غالي..بيساوي دقن خالي". وتجدر الإشارة هنا أن هذه الأغنية التراثية واضحة الإشارات فهي تقول الرأي الشعبي بمنتهى الصراحة، مع بعض المداراة في المواطن الخطرة. وتستخدم خيالاً سريالياً ذكياً: "والفارة جابت صبي..سمتو محمد علي". والذاكرة الشعبية هنا نظيفة لم تهمل شيئاً أثناء نقلها لتاريخ الحاكم الظالم محمد علي باشا، كما أنها وصفته بما هو فيه كرجل ثري قادر على الإنفاق. ومثل هذا الوضوح في كلمات الجميلة، ولا يغيب عن بالنا أن أغنية "زوروني كل سنة مرة..حرام تنسوني بالمرة"، كان قد لحنها سيد درويش على مقام العجم أيضاً فقلده بعد ذلك العديد من الملحنين العرب. ولم يكن هذا التلحين على مقام العجم إلا لنشر الأغنية. لذلك كان من السهل أن يتداولها الصبية في الحواري المكتظة لتؤرخ هذه الأغنية لمرحلة من مراحل التاريخ والعقائد الدينية البعيدة. ونلاحظ هنا اختلاط المراحل التاريخية، فالحديث عن الشمس والاستغاثة يختلط بفترة حكم محمد علي باشا لسورية. وتؤرخ هذه الأغنية لبدايات الاتجار بالتبغ والتنباك في سوريا، فقد كانت مادة التبغ نادرة لا يحصل عليها الناس حتى ولو رغبوا فيها (والتنباك غالي.. بيساوي دقن خالي). لذلك نقدر أن التبغ الذي اكتشفته أوروبا في الأراضي الأميركية عام 1570 وراحت البرتغال واسبانيا تنشرانه في البداية، ما لبث أن تحول إلى تجارة رابحة في شرقي أوروبا وفي منطقة البلقان ومقدونيا واليونان، ومن هناك تسرب إلى الدولة العثمانية عن طريق علّية القوم الذين نقلوه إلى البلاد العربية وأصبح مادة رابحة لتجارتهم، فدخل إلى مصر على يد المماليك، ثم احتكر تجارته محمد علي وأدخله إلى سورية. لذلك فإننا نقرأ في العلاقة بين محمد علي وبين التبغ والتنباك في هذه الأغنية أن الجماهير الشعبية في سورية ما زالت تذكر أن هذا الحاكم الذي غزا أراضيها كان من أكبر المنتفعين من تجارة التبغ، لا في سورية وحدها بل ربما في جميع البلاد العربية الأخرى.
واستكمالاً للبحث نجد لزاماً علينا أن نطبق أيضاً على هذه الأغنية مقاييس النقد المعماري لنلم بآخر الجوانب التي تمكننا من التأكد من المرحلة التاريخية لها. فصحيح أن التاريخ قد تداخل في بعديه الوثني والعثماني في صياغتها، ولا بد من تغيير المصطلحين المعماريين اللذين وردا فيهما وربطهما بالحياة الاجتماعية في سورية. لقد ورد في هذه الأغنية أن المرأة قد وضعت غسيلها عند الجارة التي وضعته بدورها في المغارة، كما ورد أن محمد علي في الشباك يدخن التبغ والتنباك.
ونحن إذا بحثنا في الوظيفة المعمارية للمغاور والأقبية في الدور السورية، نجد أنها كانت موضع استخدام للمؤن والخدمات حتى مرحلة ظهور اسمنت "بورتلاند" ومنحه براءة الاختراع في انجلترا عام 1824، وتصديره إلى سورية في بداية القرن العشرين، لذلك لا نشك في أن هذه الأغنية قد نظمت في ما قبل القرن العشرين، كما أن وظائف الأقبية التي ظهرت في العمارة البيزنطية المبكرة في سورية يستخدمون مصطلح المغارة للأقبية المنخفضة حتى عهد قريب، ولعب القبو المنخفض الذي يحفر قسم من جوفه دوراً بالغ الأهمية في حياة الأسرة في سورية، وتعاظم هذا الدور في المرحلة العثمانية التي ضاع فيها الأمان، وانكفأت حياة المجتمع إلى داخل المنزل وأصبح الناس يبالغون في الخدمات الداخلية للمنزل والأقبية وشاع استخدام الرخام في الواجهات الداخلية حتى ظهور المثل الشعبي: "من برا رخام ومن جوا سخام"، والذي يؤرخ لهذا التحول من الخارج إلى الداخل، ويطالب أهل المنزل باستخدام الرخام من الداخل وعدم الإنفاق على المظاهر الخارجية وينتقد من يهتم بالمظهر الخارجي للمنزل. وننوه هنا إلى أن المصطلح الآخر الذي ورد في هذه الأغنية، ونقصد به الجلوس في الشباك والتدخين فيه، فيؤكد بدون شك أن هذه الأغنية تنتمي وبصورة قاطعة إلى مرحلة غزو محمد علي باشا لسورية ونشره للتنباك والنراجيل فيها. فالنرجيلة بحاجة إلى مصاطب كبيرة تقام أمام النوافذ من الداخل، وعلى هذه المصاطب مراتب أو فرش من الصوف توزع عليها المساند والوسائد الصغيرة للتدخين.
إن دخول التبغ والتنباك إلى سورية قد أحدث تغييراً في وظيفة غرف الضيافة، فظهرت المصطبة العالية أمام جدار مفتوح النوافذ، وأعدت هذه المصاطب لجلوس صاحب المنزل وضيوفه الكبار الذين يضعون نراجيلهم على أرضية غرفة المضافة، وعلى مستوى الجالسين العاديين. وهذا ما نشاهده في تشكيلات المستويات في قاعات المضافة في بيوت المخاتير والمتنفذين التي تنتمي إلى القرن التاسع عشر. وهذا يؤكد مرة أخرى تاريخ هذه الأغنية.
وأخيراً لا بد من القول أن هذه الأغنية الجماعية التي ما يزال أطفالنا يهزجون بها هي، والحق يقال، تحفة تاريخية نادرة، لكثرة ما تخزنه من الحقائق التاريخية الهامة، وتحفظه من الذكريات الطريفة. وهي مثال نموذجي على جمال وغنى المواد التراثية في سورية.
(إلى اللقاء في دراسة حديثة لأغنية "يا ولاد محارب.. شدّوا القوارب")
×××××××××××××××
نقل المواد من الموقع دون الإشارة إلى المصدر يعتبر سرقة. نرجو ممن ينقلون عنا ذكر المصدر ــ ألف
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |