المعلم بطرس البستاني : أخلاقه و صفاته - و تأثيره لفؤاد إفرام البستاني
2010-08-28
أخلاقه و صفاته ( ص : ز – ح )
كان المعلم بطرس ربعة ممتلئ الجسم ، ذا بنية قوية ساعدته على العمل المتواصل. و كان يبدو دائما رزينا مفكرا مهتما بتحسين مشاريعه الحاضرة ، و بخلق غيرها من المؤسسات الجديدة ، غير هيّاب معاكسات الظروف ، و انصراف أهل الشرق ، و لا سيما في ذاك العصر ، عن مطالعات الصحف ، و الاكتراث لمولّدات العقل. حتى إذا أقر القيام بأمر ما وطنيا كان أو علميا ، أكب عليه بجملته يصرف في إتمامه أيامه و لياليه حتى يفرغ منه. و ربما شرع في عدة أعمال و تآليف معا فيسوقها جملة مقسما وقته بينها ، متناولا كل نوع في ساعته ، منتقلا من فرع إلى آخر بسهولة فائقة. يقرن إلى ذلك مقدرة غريبة على الثبات ، و جلدا عجيبا على مداومة الشغل العقلي ، لا يأخذه ملل ، و لا يضعف عزيمته فتور. حتى أن أحد فلاسفة عصره من الغربيين سماه " الجبار " دلالة على تلك الموهبة في الإقدام و الثبات و هما صفتان نادرتان ، لسوء الحظ ، في شرقنا العزيز. و سنرى عند ذكر آثاره أنه نال ذاك اللقب عن جدارة و استحقاق ، و أنه كان في كل أعماله صاحب إقدام ، و إبتكار ، و ثبات. و قد روى جرجي زيدان ، بنسبة هذه الصفة ، إن ذوي المعلم بطرس كانوا ، إذا افتقدوه ليلا أو نهارا ، وجدوه في مكتبه بين كتبه و أوراقه ( 1 ) .
و من كانت هذه رغبته في العلم و في تعزيزه بين بني قومه ، لا عجب أن رأيناه يضحي كل شيء في سبيله ، باذلا بسخاء على المشاريع الوطنية العامة ، منصرفا إلى البساطة في مظهره و سائر طرق معيشته ، مجتهدا في صرف جميع مواطنيه إلى تلك الخصال الحميدة.
و قد ورث عن أجداده اللبنانيين ، مع حب البساطة ، في كل شيء ، التواضع في الاستشارة و الاستنصاح ، و سلامة النية ، و الاخلاص في المعاملات. فكان مفتوح القلب ، صادق العاطفة ، لين العريكة ، واسع الصدر ، خالص المودة ، حتى ضرب المثل بصداقته للدكتور فانديك. و إذ مات المعلم بطرس ، وقف الدكتور مؤبنا في الكنيسة ، فقال ، و قد غلبه البكاء :
" إني لمظلوم بوقوفي هذا اليوم خطيبا. لأن المقام الذي أرغبه ، و الذي يليق بي ، هو وسطكم أبكي و أنوح على أخي و حبيبي الذي خطف من بيننا خطفا ، معلمي و أستاذي و رفيقي. فكم من الليالي أحييناها معا في الدروس و المطالعة و التأليف ، و حلاوة المعاشرة الصادرة عن اتحاد المقاصد و الأغراض. فكيف أقف فوق جثته خطيبا ، و لا أركع بجانبه حزينا كئيبا " ( 2 ) .
و كان محبا لجميع أهل وطنه ، على اختلاف مذاهبهم و نزعاتهم ، لا يفتأ يمحضهم النصائح و المشورات بإخلاص. كل ذلك بأسلوب لطيف ، و حديث عذب يرضي جليسه أيا كان ، سواء الفتيان و الشيوخ ، الفتيات و العجائز ، الجهّال و العلماء ، حتى يخرج من عنده و قد حفظ له من الاحترام أصفاه ، و من الثقة أخلصها. و كان من نتيجة ذلك أنه نال في عيون القوم ، من أوليائهم حتى عامتهم ، مقاما عاليا جعل كلمته مسموعة ، و إشارته متبوعة . و هو ما ساعده كثيرا في إقرار مآتيه ، و توطيد مشاريعه ، كما نرى عند الكلام عن تأثيره.
هوامش :
1 – جرجي زيدان. تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر. ج 2 . ص 30 .
2 – دائرة المعارف. الجزء السابع. ص : 593 .
تأثيره ( ص : ف – ص )
في سرد ما تقدم ... براهين واضحة على ما كان عليه المعلم بطرس البستاني من شخصية بارزة و مؤثرة ، و من جرأة في الإقدام على المشاريع العامة ، و من رغبة في إفادة بني قومه ، و تضحية في سبيلها يقرن ذلك إلى معارف واسعة ، و بصر دقيق في الأمور ، و نظر بعيد إلى المستقبل. مع حزم في الإرادة ، و إخلاص في العمل. كل هذا كان عاملا قويا على رفع مقامه في عيون معارفه من الوطنيين و الأجانب حتى كان لكلمته أعمق تأثير في البيئات السياسية العالية ، و المجاميع الوطنية. و كان الكثيرون لا يتراجعون أمام استشارته في أشغالهم ، فلا يبخل عليهم بوقته ، على شدة حرصه عليه ، و يصرفهم جميعا مسرورين ، شاكرين له دقة ملاحظاته ، و وضوح آرائه.
و كان يجتهد في أن يجعل ذاك الوضوح في كل أعماله لا سيما العقلية منها. حتى أن من يطالع تآليفه العديدة ، سواء كانت لغوية أو علامية أو تهذيبية ، يلمس فيها تلك الرغبة في الوضوح و الجلاء و يرى أمامه هيكل المؤلف بارزا في التقسيم العقلي و التبويب الطبيعي ، فلا يجد أدنى صعوبة في فهمه.
و كذلك القول في مبنى تآليفه و سهولة إنشائه. و لعل له الفضل الأكبر في هذا الأمر. فإنه بينما كان الكثيرون من أدباء القرن التاسع عشر وراء الأقدمين فيقلدون إنشاءهم المنمق باستعمال استعاراتهم الباردة ، و جناساتهم المضحكة ، و أسجاعهم التافهة و سائر طرق زخارفهم التي لم يكن يفهمها شعب القرن التاسع عشر ، فيضيعون وقتهم غير نافعين ، و وقت قرائهم غير مستفيدين ، كان المعلم بطرس يختار من الألفاظ أبسطها ، و من التعابير أسهلها ، و من الأساليب الإنشائية أسذجها. حتى أن من يطالع الأجزاء الأولى من مجلة الجنان يستغرب وجود تلك الأفكار السامية ، و تلك الملاحظات الدقيقة تحت تلك الكلمات البسيطة ، و الجمل التي تجاور الركاكة أحيانا. و لكنه إذ يعمل عقله و ينتقل إلى عصر الكاتب ، ينحني إجلالا أمام من رغب حقيقة في منفعة بني قومه فخطّ أمامهم سبيلا سهلا من الإنشاء سار عليه أولاده من بعده " فأجادوا و أفادوا في ابتكار هذه الطريقة لخدمة الصحافة ، و العلم ، و الوطن " ( 1 ) .
إن رجلا امتاز بهذه الصفات ، لا بدع أن يكون " في عصره زعيم الحركة الأدبية في سورية من حيث المدارس و الجمعيات و الجرائد و المجلات و اللغة و العلم و الأدب " ( 2 ) . إذ كان يمثل العلم الصحيح العقلي ، و العمل الدائم ، و الاستقامة ، و الوطنية ، كما يقول خير الله ( 3 ). و لا بدع أن يؤثر في الأدب العصري هذا التأثير العميق الدائم ، و لا بدع أن يجمع أدباء و علماء القرن العشرين على تكريمه كنابغة القرن التاسع عشر في خدمة لغته و وطنه ، و لا بدع أن نقول مع الشيخ خليل اليازجي في رثائه :
خدم البلاد و ليس أشرف عنده من أن يسمّى خادما لبلاده !.
هوامش :
1 - الفيكونت فيليب دي طرازي : تاريخ الصحافة العربية . ج 2 . ص : 47 .
2 – جرجي زيدان : تاريخ الآداب العربية ، ج 4 . ص : 299 .
3 – K. T. Khairallah : La Syrie . p. 51 .
المصدر : كتاب المعلم بطرس البستاني لفؤاد إفرام البستاني . المطبعة الكاثوليكية . بيروت . 1929 .
*************************
نقل المواد من الموقع دون الإشارة إلى المصدر يعتبر سرقة. نرجو ممن ينقلون عنا ذكر المصدر ــ ألف
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |