شكرًا للصّ زهرة الخُشخاش - فاطمة ناعوت
2010-09-03
الفقيرُ، الذي لا يجد ما يكفيه من مال، يجب عليه ألا يتحمَّم، أو ينام، أو يمشّط شعره، أو ينظر إلى السماء يناجي القمر، أو يتأمل سرّ الكون. إن صادفَ في طريقه وردةً دهسها، وإن أشرقَتْ في وجهه بسمةُ طفلٍ، تجهّم. الفقير عليه أن يمضي نهاره وليله، يجنّد كل طاقاته، الحيوية والذهنية والروحية، للبحث عن المال! هل ترون فيما سبق عجبًا؟
وثبتْ إلى ذهني تلك الأفكار "العبثية"، وأنا أطالع تعليقات بعض القراء على كارثة ضياع لوحة فان جوخ "زهرة الخُشخاش". بعضهم لم يكن يعرف أنها كلُّ ما لدينا من تراث جوخ، رغم أن المعلومة وردت في قصة "المتحف" من سلسلة "المغامرون الخمسة" لمحمود سالم، في سبعينيات القرن الماضي. وبعضهم استهان بضياعها: "وإيه يعني حتة لوحة، المهم رغيف العيش"! كأن الفنَّ ضدُّ الخبز، والجمالَ ضدُّ الحياة! وهؤلاء، بالقياس، ربما لا يحزنون لو، (بعد الشر) نُهب المتحفُ المصري، أو تصدّع الهرم!
ضياعُ اللوحة أحزنني عميقًا، ولكن تلك التعليقات أحزنتني، وأفزعتني! استهانتنا بقيمة الفن تغلق كوّةَ أي أمل في غد أجمل. قبل ثمانين عامًا، سأل قارئٌ الأديبَ عباس محمود العقاد: "أيهما أهمُّ، الرغيفُ، أم اللوحة التشكيلية؟" فأجاب العقاد بمقال مطوّل عنوانه: "ضرورية جدًّا"، بمجلة الرسالة عام 1937. تكلم فيه عن ضرورة الفن، التي تفوق ضرورة الرغيف. فالرغيفُ يقيم أوَدَ الإنسان الأمعائيّ، فيبقيه حيُّا. ضرورة فسيويولوجية يجتمع عليها الإنسانُ والحيوان. بينما الفنون تقيم أودَه الروحيَّ، فتجعل منه إنسانًا له حقوق. فالوعي بالجمال، يحمي الإنسانَ من التواطؤ مع القبح، وبالتالي يمنعه من الانبطاح تحت وطأة نظام فاشيّ أو حاكم ظالم. وبظني أن دول العالم الأول لم تصل إلى أنظمتها الديمقراطية إلا لأن أرواح مواطنيها تشبّعت بقيم الفنون فعرفوا حقوقهم وانتزعوها، حتى صارت منهجًا ودستورًا وقانونًا. الموسيقى أنقذت ألمانيا، والعمارة والتشكيل والأوبرا ارتفعت بفرنسا وإيطاليا، الخ.
كالأواني المستطرقة: إن عَلَتْ قيمةُ الفنون، عَلَت قيمةُ الإنسان، لدى نفسه، ولدى حاكمه. الحكّامُ لا يظلمون شعوبًا تعرف حقوقها. والفنُّ يعلّم الناسَ الجمالَ، وأولُ درس في الجمال، التمسّكُ بالحق.
متى يعرف الناس في بلادي أن التشكيل والموسيقى والأدب، ليست رفاهية؟! إلى متى يظل الوعي السائد أن الفنون أمرٌ نخبويّ، يخصُّ منتجيها المثقفين والفنانين؟ بينما الهدف الأساس للفنون هو العامة. كيف لم تنجح وزارة الثقافة منذ نشأتها في ترسيخ هذا الفكر لدى الناس؟
يقول أفلاطون: "علّموا أولادَكم الفنَّ، ثم أغلقوا السجون." ذاك أن مَن نشأت عيناه على اللوحات، وأُذناه على الموسيقى، ودماغُه على الكتاب، مستحيلٌ أن يسرق أو يقتل، أو يرتكب خِسَّةً مما يأتيها أولئك الذين حرموا أنفسَهم مما سبق.
وفي الأخير يجب أن أشكر لصَّ اللوحة(!)، لأنه جعل الغافلين ينتبهون أن كنزًا اسمه "زهرة الخشخاش" (كان) لديهم. وأن أُحيّي باحترام وعيَ المهندس نجيب ساويرس، الذي رصد مليون جنيه لصالح استرجاع اللوحة. هو الذي سبق ومنحنا مليونًا ونصف المليون لترميم مقرّ اتحاد الكتّاب بالقلعة. في هدوءٍ. ودون جلبة. هكذا يعمل شرفاءُ هذا البلد
جريدة المصري اليوم
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |