نصوص عمياء يقودها خيال ثائر / ابراهيم حسو
2010-09-04
ثمة اتجاه نقدي مثير يلفت الانتباه في الشعرية المصرية, عبر صعود أسماء شعرية شابة, تطرح مقولات و أفكاراً حول الحداثة و التكنيك المتغير في البنية التركيبية لقصيدة النثر المصرية مع فوارق و شطحات نقدية كانت تظهر هنا وهناك و لو بشكل خافت مع تطور هذه الشعرية ,
و لكون القارئ السوري لم يسبق له أن قرأ هذه الأسماء الجديدة إلا عبر كتيبات كانت وزارة الثقافة و المراكز الثقافية في سورية توفرها مجاناً كقراءة استطلاعية للمشهد الشعري العربي بشكله العمومي , و أكثر تلك الكتب قراءة هي القريبة من الذائقة المحلية السورية نظرا لما تحمل هذه الشعرية من تطور ملحوظ و دائم في شكلية النص الشعري و الطرق الكتابية المبدعة التي كنا ننغمس في التأثر بها . و الملاحظ في إبداع هذه الأسماء وجود نمطية واحدة كانت تربط الأسماء الشعرية بعضها ببعض مع تمايز قليل لاسم أو لآخر , لكن بفروقات زمنية جعلت من هذه الشعرية على شكل مدارس شعرية لم تأخذ نصيبها من الضوء نتيجة ضخامة الأسماء ( الستينية ) وسيطرة الصحافة المصرية على قصيدة التفعيلة و العمودية وبروز ما يشبه تيارات مناهضة لقصيدة النثر و على مجدّديها , لكن رغم ذلك يبرز اسم هنا و اسم هناك في هجمات متقطعة على أوكار التقليديين يقودها شعراء شبان يريدون الخلاص و الإخلاص لهذه القصيدة الجديدة، و لعل الشاعر عماد فؤاد صاحب أكثر من أربع مجموعات شعرية و الذي يبدو انه انقّض تماما على المشهدية الشعرية المصرية بظهوره وحضوره الكثيف في أواخر التسعينيات مع أسماء كنا نقرؤها في فترات كانت تظهر و تخبو كعملية طبيعية لصعود قصيدة النثر و خفوت شعبيتها وهذه الأسماء أذكر احمد زرزور و أحمد الشهاوي وعماد أبو صالح فيما بعد متأخراً عن الجيل بكامله , و المثير تداعي و تراخي هذه الأسماء مع بروز أسماء شابة اخرى ظهرت و لاتزال تظهر لتشوه مرحلة عظيمة و مهمة من قصيدة النثر في مصر , وللأسف لاتزال هذه الأسماء مسيطرة و تؤدي واجباتها ( التشويهية) على أكمل وجه دون رادع و رقيب , وربما تكون بادرة الشاعر عماد فؤاد في تأليف موقع على الانترنت عن ( قصيدة النثر المصرية ) من البوادر الخيرة والمشجعة التي ترفع من جديد قيمة هذه القصيدة و قدسيتها .
وربما المفيد هنا أن قصيدة النثر عندما ظهرت في مصر أواخر الثمانينات كانت بطيئة التأثير و خافتة في بداياتها الجنينية , بل كانت هذه القصيدة حبيسة أفكارها و توجساتها من الحداثة التي أقبلت عليها العواصم العربية بيروت و دمشق و حتى العراق بينما كانت مصر مترددة في تقبل هذا الجديد , لكن و مع ذلك كانت الانطلاقة مع أمل دنقل متواترة رغم صعوده المفاجئ منابر هذه القصيدة و تسليمه مركز الريادة في الشعرية المصرية , و القارئ لمجمل ما كتبه أمل دنقل في بداياته و قبل دخوله المستشفى بسبب مرض عضال , سيلحظ بعض تأثيرات شعراء لبنان و سورية مع اعتراف أمل بذلك، وخاصة في شكلية البناء و البنية التركيبية التي لم تكن تشكل الاهتمام بهذا الجانب أو حتى الغوص فيه، فقد كان اهتمام الكثير من جايل دنقل هو بالصورة الشعرية و المضي في تقنياتها , و ربما مجموعة (عشر طرق للتنكيل بجثة ) للشاعر المصري عماد فؤاد التي بين يدينا هي عودة جديدة إلى مراجعة بسيطة لشعرية الثمانينات و التغييرات التي لم تستطع النجاة منها مع الاعتبار أن الزمن الكتابي ليس مقياساً إبداعياً بقدر ما هو مقياس زمني تطوري مطرد , يمكن من خلال الزمن حساب نهوض النص أو نكوصه , أظن أن البناء الهرمي الذي اشتغل عليه معظم شعراء تلك الفترة كان شعوراً عارماً بالتجديد لقصيدة النثر.
للعودة إلى كتاب ( عشر طرق للتنكيل بجثة) ثمة ثلاثة أبواب رئيسة هي ( الجنازات العشر للفقيدة محبة ) و ( ستة أقدام تحت الأرض ) و ( شاهد على قبر ) محتويات كتاب ( عشر طرق للتنكيل بجثة ) و هي مطولات شعرية بالغة التعقيد ويصعب التحكم في قراءتها لأول مرة أو لا يمكن أن تمر عليها مرورا مسالما دون أن تخرج منها بذلك التعب الشهي و المشقة العالية في البحث عن وراء الكلمات وما تحملها من مفاجآت مدهشة تثير التفكير فيها و تجعلك رهيناً لما قد توحي إليك التماعاتها و إشراقاتها , و قد يتضح هذا التعقيد أكثر في نهايات الجمل و التكوينات اللغوية التي تتجه أحياناً إلى الإيحاءات ( الصورية ) التي غالبا ما تنقطع و تختفي لتظهر و تندلع على هيئة صور أخرى و دهشة أكثر شراهة و صراخاً , لكن و بطريقة أخرى ما تتجه النصوص بعيدا نحو استراحة لغوية طويلة , طويلة إلى درجة أنك تعود مثقلاً بالملل أو ما يشبه إعادة النظر لتلك القراءة التي أخذت ذاكرتك و مزاجك و أصبحت قاب قوسين من أن تترك الكتاب و تخلد إلى النوم , و قد تبدو النصوص القصيرة أكثر أشراقاً و صفاءً , فهي تقوم بتشغيل الشعر و تزوده بنهايات جمالية و تنقذه من مطبات النثرية الفجة و تبعده من التلقائية المجانية و الفضاءات المتشعبة التي تعيد تشكيل اللغة بطريقة الشاعر القاموسي الساذجة :
الرَّجل الذي كان ها هنا..
صارَ تحت عينَي الصَّقر الذي يحوِّمُ الآن بجناحيه في الأعالي
مستضيئاً محفورًا في الأرض
ينظرُ الصَّقر فيقول في نفسه:
هذا قبر حيّ يسيرُ على قدمين
وما من شاهدٍ واحد
يدلُّ العابرينَ الطَّارئين
إليه.
يبقى كتاب عماد فؤاد الجديد نصاً مفتوحاً ومفتوناً بالنهايات والمساحات العريضة للغة التي لا تقوم هنا بعمل الكشف على مكامن الجمال وحسب، بل تشتغل أيضا في إرواء النص أبعاد معرفية و فلسفية تصل إلى حد التصوف أو إعادة بناء ذاكرة أخرى للأنا الشاعرة عبر المناخات الإيحائية المتشنجة الصاعدة الهابطة برشاقة اللغة نفسها .
( عشر طرق للتنكيل بجثة ) عماد فؤاد
شعر عن دار الآداب 2010 بيروت
كتب / جريدة الثورة
الأربعاء 1-9-2010م
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |