أسطرة البوح الأنثوي قراءة في سرديات بسمة الشوالي / عماد كامل
خاص ألف
2010-09-04
(المرأةُ تعرفُ أسرارَ الجسدِ أكثرَ مِن كلِّ الكائناتِ)
الجسدُ ذلك الكائنُ الوجودي الذي يحملُ دلالاتٍ كثيرةً تعكسُ الفضاءَ القيميّ الدالِ على المنظومةِ الثقافيةِ المنتسبِ إليها، فالجسدُ كائنٌ لا يفهمُ بغيرِ سياقِه التاريخي والثقافي والإيديولوجي، وبقدرِ ما يحاولُ الإنسانُ التعرفَ على فهمِ لغةِ الجسدِ فأنه سيعرفُ ما حوله من أسرارِ الكون،لأنّ الجسدَ اختزالٌ للعالم،بل هو كما يصوره إبراهيم محمود هو الكائنُ في العالم،ولكنه المكونُ فيه والمتكون به،وهو الذي يكون باستمرارٍ باعتباره حقيقةٌ تدرك أكثرَ فأكثرَ كلما كان هناك تشعبٌ أكثر في العالم، وقد حَظِيَ الجسدُ باهتمامِ الفلاسفةِ والمفكرين منذ القِدَمِ فقد اعتبرهُ أفلاطون الحاجزَ الذي يمنعُ سموّ النفسِ إلى عالمِ المثلِ،فهو السجنُ الذي لا خلاصَ للنفس منه إلاّ الموتَ. أما الفلسفةُ الحديثةُ فقد حَاوَلتْ الفصلَ بين الجسدِ(البيولوجي) المادي،والجسدِ الذاتي(المعنوي) إذ اعْتُبِرَ الجسدُ أداةً لتواصلنا مع العالمِ،حيثُ يرى بارت أن الفتراتِ التي يهبُ فيها الجسدُ ذاته كانت محدودةً جداً في المجتمعاتِ التقليديةِ ومفصولةً عن بقيةِ فتراتِ الحياةِ،فتراتِ الاحتفالاتِ التي كانت تسمحُ للمرءِ بأنْ يلبسَ بشكلٍ مختلف: الأعيادُ والرقصاتُ الطقوسية ،وكانت الحياةُ منقسمةً إلى قسمين: لحظةَ يعطي فيها الجسدُ عَبرَ الاحتفالِ،وهذه نادرةٌ جداً.والجزءُ الثاني والأكبر من الحياةِ يُنَمِّطُ المألوفَ،حيثُ لا يوجدُ الجسدُ إلا ضمنَ إطارِ العملِ.
أما في الوقتِ الحاضرِ ونظراً لتغيرِ طبيعةِ الظروفِ الحضاريةِ والثقافيةِ للمجتمعات فقد تَبَدَلَتْ نظرةُ الإنسانِ وعلاقتُه بجسدهِ، فقد انتُزِعَتْ عنه القداسةَ التي كان محفوفاً بها،فلم يعدِ مصدرَ خجلٍ أو مجلبةً للعارِ،وإنما أصبحَ مصدرَ اهتمامٍ وعنايةٍ، بل استطاعَ الإسهامَ في إنتاجِ واستهلاكِ مقوماتِ الحضارةِ الإنسانيةِ،إذ أسماه فوكو بـ(ميكروفيزيا السلطة) حيثُ اعتبر الجسدُ المعاصرُ عبارة عن شبكةٍ من العلاقاتِ والإشاراتِ الوظيفية، وبذلك فقد الجسدُ العديدَ من خاصياتهِ الأصليةِ والحقيقية، وكمثال على ذلك، عارضةُ الأزياءِ والتي لا يشكلِّ جسدُها في حدِّ ذاته موضوعاً للرغبةِ والإثارةِ، بِقَدرِ ما هو علامةً ورمزاً للموضة، ذلك إن الرغبةَ تنصبّ على البضاعةِ المعروضةِ لا على الجسد.
السردُ القصصي عند (بسمة الشوالي) يتطورُ وينمو داخلَ النصِ، ويتخذُ عدةَ أشكالٍ فهو هادئ أحياناً ومتوترٌ في أحيانٍ أخرى،هذه السمةُ انطبعت في كتابات الشوالي الكاتبة المهمومة بروحِ الكتابةِ الجدّية،حيث تنحى في كتابتها عن تقليدِ الآخرين إذ تكتبُ بعفويةٍ واضحةٍ، عفويةٍ فنيةٍ تكشفُ عن مستوى الإبداعِ، كما تكشفُ لغتها السرديةِ عن مكنوناتِ كاتبةٍ متجددةٍ في أدواتها وقدراتها التي استطاعت من خلالها تصويرَ قضايا الإنسان في مجتمعهِ وخصوصاً قضية (الجسد) وإشكالية السترِ والكشفِ.
في قصةِ (ردة) تسردُ الكاتبةُ تفاصيلَ حياةٍ يوميةٍ، متضمنةً حكاياتٍ تتسمُ بالمتعةِ والجاذبية، إذ تشعرُ أحياناً إن ما تكتبه ليس قصصاً بل هو صورة حقيقية نعيش تفاصيلها اليومية، ربما حين أتاحت الساردة في (ردة) لفتاةٍ أنيقةٍ أن تصفَ نفسها
( كنتُ أنيقةً جدّا هذا اليوم، عاريةَ الذّراعين والرّكبتين كما لم يَعْتدْ أن يراني، والهواءُ الغريبُ يتسلّلُ إلى جسمي من شقِّ الثوبِ على صدري، وبَشَرَتي التي لم تعرف كهذا السّفور من قبل يترجرجُ بياضُها مبقّعاً بالخجلِ ..)
ثم يتحولُ السردُ إلى تقديمِ رؤيةٍ صادقةٍ من أعماقِها الحارةِ المفتونةِ بالحياةِ،والمتألمةِ بسببِ تناقضِ الظروفِ الاجتماعيةِ المحيطةِ بها،كما إنها لا تكتفي بسردِ الواقعِ بل تحاولُ أن تدخلَ معه في شبكةٍ من العلاقاتِ الإبداعيةِ التي تكشفُ مخبوءَ هذا التناقضِ،وكأنها تحاولُ أن تسردَ الواقعَ عاكسة ًمن خلالهِ الهواجسَ النفسية َللجسدِ المكبوتِ، إذ تقول:
اِلْتَفَتُّ حولي كثيراً لأرصدَ اللّعناتِ التي أحسبها ترقبني ، غير أنّي سرعان ما اطمأننتُ وعراءُ الرّكبِ والأذرعِ متفشٌّ حولي ، والشّعورُ منسدلةٌ تغمرُ وجوهاً شبْهَ متلاصقةٍ يحفحفُ بينها هوى فضائيّات الغناءِ الرّاقصةِ تبثها الهوائيّاتُ الرّابضة ُعلى السّطوحِ من الذّرى الشّاهقةِ إلى مرابض الحمير ومعالف الأبقار في ربوعنا الحجريّة .
لكأنّ هؤلاء الصّبايا خرجنَ مثلي إلى مواعيدهنّ من سيناريو أغنيةٍ عربيّةٍ تركتهنّ كما تركتني، بعد دقائقَ من الفرجةِ ، مفغورةُ الحواسّ والشّهواتِ بين دهشةٍ ودهشة... مُزْنُ الذّكرياتِ تنهمرُ على مكانهِ الخالي إلى جانبي وتثيرُ حنينَ المساءِ لصوته. كان على حزنٍ كثيفٍ صوتُه ذلك المساء الأخير قبل سفره ، يغرورق كلّما داهمه الضّحك، ويَكْلَحُ إذا صمت. وكان يلتهم بعينيه الصّورَ المتحرّكةِ حولنا وتفاصيلَ الأشياءِ المحيطةِ بنا. يبتلعني بنظرةٍ واحدةٍ ثمّ يزفرني فأرتابُ: أتعشقني عيناه حقّاً أم يتمرّن فيَّ على عشقٍ آخرَ يصادفه بعد السّفرِ ..؟
لغةٌ تعكسُ فيها عذاباتِ المرأةِ المسكونةِ،عذاباتٍ لا تبارحُ الذاكرةَ،الذاكرةَ المشحونةَ بالأسئلةِ لما سيحلُ بروحها من ضياع،أسئلةٌ تُعَبِّرُ عن تواصلٍ إنساني حميم ٍتزينه الرغبةُ الإنسانيةُ الرفيعةُ،الرغبةُ التي يتلمسها القارئ جليةً وصريحةً عندما يواصل السيرَ في دروبِ هذا النصِ الهادئ الذي جَمَعَ بين البساطةِ والعمقِ،فـ(الشوالي) تصفُ أدقَّ مشاعرِنا وتصورُ آلامنا التي نحاولُ عبثاً تجاهلها،وهذه الحالاتُ السرديةُ بلغةٍ شاعريةٍ بسيطةٍ تبتعدُ عن التكلفِ، لغةٌ استطاعت من خلالها طرحَ موضوعاتها بروحٍ مهمومةٍ ومتألمةٍ فتحيلُ الخيالَ إلى واقعٍ يثيرُ فينا الأسئلةَ والإعجاب.ولهذا فأن سردَ (بسمة) يتجاوزُ الحدودَ التقليديةَ في استحضارِ المشهدِ عبرَ الزمانِ والمكانِ،بل هو يحاولُ الغورَ في عمقِ السردِ المتوترِ بشجنِ اللغةِ،لتكشفَ خبايا السلوكِ الإنساني، برؤيةٍ متجددةٍ للأشياءِ وللواقعِ اليومي لتحيله أدباً رفيعاً يقدمُ صوراً عن بؤسِ تعاملنا مع الجسدِ كقيمةٍ عليا.
عاشقٌ أحمقُ أنتَ يا جسدي.. تلك الأغاني المصوّرة التي أغْرَتْ محاسنَك بالسّفورِ لم تفصّل فساتينَ السّعادةِ على مقاسِ الأيّام المُحْدَوْدِبَة شقاءً على ظهركَ، والبحرُ الذي أغواكَ بالانتظارِ على حاشيتِهِ ليس بركةَ العرقِ اليوميّ إن نغرقَ تنجينا خشبةُ أملٍ طافيةٍ.. ضفّةُ البحرِ الثّانية ليست كضفّتهِ الأولى وقلبه حُوَّلُ الطّبع لا حدّ فيه بين الضّحك والبكاء..
ها ضمّةٌ واحدةٌ ولحظاتٌ من الرّغبةِ المختبئةِ في لقاءٍ وحيدٍ ، عقِب بِعادٍ طويلٍ وتفجّعٍ ، جعلتك تغادرُ معجمَ الصّفاتِ المؤنّثةِ مخذولاً ، وجعلتني أتوهُ فيكَ عن دقّةِ التّعريفِ، مكتفيةً من الصّفاتِ بدرجةِ الأنثى المنتهكةِ ومرتبةِ الدّم المهدورِ لا يدركه أحدٌ ويُخلي سبيله إلى الحياةِ إلاّ وشربَ منه حدّ الارتواءِ . خسرنا يا جسد ..
هنا نسمع صوتَ الشوالي الخاص صوتاً يخاطبُ الروحُ ويذهبُ بالقارئ إلى أعماقهِ،سرداً يصورُ لنا لهاثنا اليومي الاستهلاكي فيمنحه الحياة، لذا فأن الشوالي تعتبر الأدبَ مهمةً جوهريةً وظيفته أن يعيدَ الإنسانَ إلى ذاتهِ، الذات المأزومة ليمنحها الثقةَ ويتصالح معها،
سقطَ عن وجوده إلى جانبي معناه الضّروريّ . ربّما لأنّ العشقَ كالنّجم البعيد نرنو له معجبين مُكبرين ويوم يفقدُ استحالته ويدنو من ملامسنا يصيرُ فعلاً عاديّاً وحدثاً متداوَلاً قابلاَ للقيسِ والمقارنةِ والعمليّاتِ الحسابيّةِ المختلفةِ ، أو ربّما لأنّي استطعتُ ببساطةٍ أن أطرحَهُ من معادلةِ السّيرِ والذّهابِ مفردةً بين الأرقامِ المتزاحمةِ على أرصفةِ الوجود .. بعد ما حدثَ بيننا لم يعد الصّفرُ في موقعِ النتيجةِ يرهقني.
لم يكن السردُ الفني الخالي من التعقيدِ والتكلفِ هو ما أعطى التميزَ لنصِ الشوالي فحسب، بل رؤيتها للواقعِ الذي استطاعت من خلاله التعبيرَ بأسى عن همومِ واقعِ الحياةِ اليوميةِ التي غالباً ما تصورُ شخوصَها متألمين بصمتٍ، وكذلك نلحظُ في سردِ بسمة حضوراً فاعلاً للجسد،كما نلاحظ التماهي بين الواقعِ الافتراضي والواقع الحقيقي،فهي تحقق هذا التمازج ببساطة رغمَ إنها مهمومةٌ بواقعٍ صعبٍ،فنصوصها عبارةٌ عن إدانة لكلِّ ممارساتِ الزيفِ والخداعِ التي نمارسها في حياتنا اليومية وفضحٍ للمفاهيم المغلوطة التي نتمسك بها.
ويمكننا ملاحظة الحضور الطاغي للجسدِ في سرديات(الشوالي) باعتباره الصوت المعبر عن الروح التواقة التي تحاول الإفلات من الأغلالِ التي تكبلها،فحضورُ الجسدِ يتخذُ صورةَ البطلِ لديها.فحين تستحضرُ الجسدَ في سردياتها إنما تستحضره من منظورٍ يجعل من الجسدِ شعوراً داخلياً يخترقُ الذات،مستلهمةً عبرَ كتابتها تجربةَ العشقِ والرغبةِ اللامتناهية،عبرَ الجسدِ العاري،حيثُ يهيمن العريُ على سلطةِ النص.وقد أظْهَرَتْ الجسدَ في نصها عارياً ولكن ليس العريَ المبتذلَ وكأنها تريدُ التأكيدَ على مقولةِ رولان بارت إن (الجسدَ البشري لم يكن أبداً عارياً بالكامل) ومعنى هذا إن عريَ الجسدَ رمزٌ للتحررِ والرفضِ بمنتهى أشكالِه وبكافةِ ألوانه ويمكن ملاحظة بعض دلالات العري في هذا النص منها أنها مَزَجَتْ بين القبولِ والرفضِ بين العري والخجلِ من فعله وهذه الإشكالية التي ما انفكت مجتمعاتنا من أسر قيودها، أسرِ (الرغبة والكبت).
بسمة عالمها السردي لا يشبه عالماً آخرَ،عالماً تتوقُ فيه الأرواحُ إلى أجسادِها،والأجسادُ إلى أجسادٍ أخرى،لتجعلَ من هذا الفعل حقيقةً تتلبسنا مثل أرواحنا.
××××××××××××××××
نقل المواد من الموقع دون الإشارة إلى المصدر يعتبر سرقة. نرجو ممن ينقلون عنا ذكر المصدر ــ ألف
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |