فراس السواح في حوار مع
خاص ألف
2010-09-29
فــراس الســــواح باحـــثاً ورائيـــاً
أنت أستاذ كبير.. أعني هذه الكلمات الثلاث.. أعنيها تماماً، وأتوجّه إليك بالأسئلة التالية، وهي أسئلة تهمّني ثقافياً وإبداعياً وحياتياً، وأعتقد أنّ هناك من يشاركني الهمّ والاهتمام..
* حين قرأت كتابك الأول "مغامرة العقل الأولى" أدركتُ أنّك مَعنيٌّ بالحرفيّة المعرفيّة، وبالسؤال الثقافي، وأنّ كتابك نواة مشروع ثقافيّ قادم.. ثم توالت كتبك..
الآن، هل لي أن أتساءل عن البواعث التي أثارت هذه النواة؟ ما هي هواجسك الأولى؟ هل تتذكّر؟
- كنت مثقلاً منذ الطفولة بقلق ديني ناجم عن اختبارٍ شديد الوطأة «للقدسي»، لذلك المجهول الذي يعلن عن نفسه في أعماق الروح كحقيقة تتجاوز عالم الظواهر المادية ولكنّها متصلة به بشكل غامض كل الاتصال. هذه الخبرة تعطي صاحبها الخوف والانجذاب في آن معاً، خوفا يبلغ حد الهلع من ذلك «القدسي» الذي يقتحم السياقات النفسية دون استئذان، وانجذاباً له يبلغ حد النشوة. وأنا هنا أصف تجربة انفعالية غير عقلية تأبى على الوصف بالمصطلحات والتعابير المعتادة في وصف التجارب الحسية. وإذا كنتُ قد استعملت كلمة «حقيقة» أعلاه في وصف القدسي فقد عنيت بها الحقيقة النفسية لا الحقيقة الموضوعية، وهذا لا يعني أنني أقلل من قيمة هذه الحقيقة إذ أصفها بالنفسية، لأن الحقائق النفسية تكون في كثير من الأحيان أبلغ تأثيراً على الأفراد والمجموعات وعلى تاريخ البشرية من الحقائق الموضوعية. يضاف إلى ذلك أنّ الحدود الفاصلة بين النفسي (وبشكل أعم: الذاتي) والموضوعي، لم تعد على ما نشتهي من الوضوح. فلقد علّمتنا فيزياء الكم الحديثة أن عناصر الظاهرة المادية موضع الاختبار تسلك بشكل مختلف عندما تتعرض للرصد، لأن المراقب ينخرط بشكل عضوي في العالم الذي يراقبه إلى درجة التأثير فيه. وهذا يعني أن «الأشياء في ذاتها» - على حد تعبير الفيلسوف كانْت - لا يمكن اكتناهها، لأنها لن تكون «أشياء في ذاتها» حال تبديها للوعي الإنساني. هذا القلق الذي وصفتُه ذو طبيعة عامة، بمعنى أن كل الأفراد يتعرضون له ولكن على درجات متفاوتة، ويتعاملون معه بوسائل مختلفة. فبينما تلجأ الكثرة إلى ممارسة الطقوس الدينية المتوارثة من أجل التخفيف من وطأته وتدجينه، وهذا ما يقودها في النهاية إلى تبنّي العقائد السائدة دون مساءلة، فإنّ قلّة قليلة من الناس تجد في نفسها القوة والقدرة على المواجهة الانفرادية مع ذلك القلق، وعلى وضع العقائد والطقوس السائدة موضع المساءلة قبل تبنّيها والعمل بموجبها. وأنا من هذه القلّة التي حافظت على حيرتها في مواجهة كل الألغاز التي يطرحها علينا الكون، حيرة تدفع فعالياتك النفسية والعقلية والروحية إلى ذروة نشاطها قبل أن تصل بك إلى حال الطمأنينة الكاملة.
* جلجامش.. أسئلة الوجود الأولى.. الأديان في ما بعد حاولت أن تجيب، وحاولت أن تعزّي.. هل كانت إجاباتها كافية؟
- ما من إجابة واحدة كافية لمن قرّر السير وحيداً على الطريق الذي وصفته آنفاً، لمن فضل أرق الحيرة على الطمأنينة الزائفة للإيديولوجية. لأنه على انتمائه لثقافة بعينها ولدين بعينه، فهو ينتمي في الوقت نفسه للعالم بكل ثقافاته وأديانه، إنه مواطن كوني. كل الأديان تقدّمت بإجاباتها. ولكنّي أميّز هنا بين نوعين من الإجابات، الأولى إجابة مفتوحة والثانية إجابة مغلقة. في الإجابة المفتوحة يقدّم لك الدين مقاربة عامة ومنظومة رمزية، تسمحان لك بقدر كبير من حرية التفكير وحرية الاختيار. ففي أديان الشرق القديم على سبيل المثال، لا يوجد هنالك أسطورة وحيدة في التكوين تقص عن كيفية خلق العالم، وإنما أكثر من أسطورة، وبالتالي فإنّ الفرد حرّ في تصديق هذه الرواية أو تلك. كما أن خالق العالم ليس بالضرورة الإله الأعلى، وهو غالباً ما ينسحب إلى السماء السابعة بعد إتمام مهمته، تاركاً شؤون الدنيا لآلهةٍ أكثر منه شبابا وحيوية. وفيما يتعلق بالطقوس الدينية، فإنّها ليست على جانب كبير من التوحيد، فعلى الرغم من وجود طقوس رسمية دورية تقام تحت الرعاية الملكية، ويتقاطر الناس من الأقاليم للمشاركة فيها، إلا أنّ لكل إقليم طقوسه وآلهته الخاصة. ونستطيع متابعة هذه اللامركزية الدينية وصولاً إلى الأسرة الواحدة التي كانت تختار لنفسها إلهاً يلعب دور الراعي والحامي لها. في ظل هذا النوع من اللامركزية الدينية، لا عجب إذا وجدنا في بعض الثقافات (مثل اليونانية) أن الشرائح الاجتماعية المنبوذة لها آلهتها الخاصة أيضاً، فهناك إلهٌ حامٍ للعاهرات وآخر للصوص.. وهلم جرّا.
في الإجابة المغلقة، وهي التي ميّزت الأديان الشمولية المتأخرة تاريخياً تحل الدوغما والعقيدة محل الأسطورة في تحديد طبيعة العلاقة بين عالم الألوهة وعالم البشر. فالدين الشمولي يحتكر الحقيقة ويؤطرها في عقائد جاهزة لا يأتيها الباطل من ورائها أو من أمامها، ويقدمها لأتباعه الذين يتوجب عليهم الإيمان المطلق بها والعمل بمقتضاها دون تفكير أو مساءلة، لأنّ المساءلة تعني الكفر والهرطقة. وهذان المصطلحان لم يظهرا إلى الوجود قبل ظهور الأديان الشمولية، ولم أعثر لهما على أثر في كل ما قرأت من الأدب الديني للثقافات القديمة شرقاً وغرباً. ذلك أن إنسان تلك الثقافات كان متديّناً بطبيعته، وفي ظل تلك المرونة التي تبديها أساطيره وطقوسه كان بمقدوره التحول من هذه العبادة إلى تلك، ومن الولاء لهذا الإله الذي أدار وجهه عنه إلى غيره، دون أن يتهمه أحدٌ بالهرطقة.
وحتى في عصرنا الراهن الذي أخذت فيه العلمانية تستولي على مواقع متقدّمة للدين لا أعتقد بوجود إنسان واحد ملحد، لأن ما يوصف بالإلحاد ما هو إلا مراجعة يقوم بها الفرد للعقائد والطقوس التي تربى عليها منذ الصغر أو لبعضها، وهي مراجعة محظورة تصمه بالكفر والإلحاد حتى ليصدّق هو نفسَه أنه كافر وملحد، وما هو بالنسبة لي إلا متدين ثائر.
هذه الطبيعة المغلقة للأديان الشمولية هي التي قادت إلى حروب دينية لا نهاية لها، سواء بين طوائف الدين الواحد أم بين الأديان المتخالفة. ولقد درستُ تاريخ الإنسان السياسي والحضاري منذ العصر الحجري القديم إلى أواخر الألف الأول قبل الميلاد، ولم أعثر على خبر واحد عن حرب قامت لأسباب دينية، وغالباً ما كان القائد الغازي يقدم فروض الولاء لآلهة المدينة التي تفتح له أبوابها دون قتال، أما إذا أقام الغازي في الأراضي المفتوحة فإنّه سرعان ما ينسى آلهته ويتحول إلى عبادة الآلهة المحلية. ولعل أوضح مثال نضربه عن تعايش الأديان المفتوحة في مقابل نزاعات الأديان المغلقة، هو ذلك التعايش بين «الشنتو» وهي الديانة اليابانية التقليدية وبين البوذية التي وفدت من الصين. فالأسرة اليابانية الشنتوية لا تجد غضاضة في ممارسة طقوس بوذية في بعض المناسبات، ولا الأسرة البوذية كذلك، ويتضح هذا التداخل في الطقوس بشكل خاص في طقوس الولادة وطقوس الموت. فعندما ترزق الأسرة بمولود جديد تأتي بكاهن شنتوي لقيادة طقوس الميلاد، وعندما يموت أحد أفرادها فإنها تلجأ إلى كاهن بوذي يقود طقوساً بوذية صرفة من شأنها مساعدة روح الميت على العبور بسلام إلى العالم الآخر.
إنّ ما قاله الإله «يهوه» لموسى في وصيته الأولى: «لا يكن لك آلهة أخرى أمامي، لأنّي أنا الرب إلهك إله غيور» هي سابقة لم أعثر على مثلها في تاريخ الأديان الإنسانية منذ عصر النيادرتال هبوطا نحو زمن تدوين الأسفار التوراتية في أواسط الألف الأول قبل الميلاد.
* الفلسفة حاولت أن تجيب أيضاً، وبنت صروحاً من العقل.. كيف تنظر إلى مغامرتها في هذا الخصوص؟
- الدين والفلسفة صنوان من حيث طرحهما للأسئلة الأساسية ومحاولة الإجابة عنها، ولكن ما يميّز الفلسفة عن الدين وعن أشكال الحكمة الإنسانية الأخرى هو أنها تقوم على مبدأ البرهان العقلي. من هنا فأنا مع الفلسفة عندما تبحث في المنطق وفي نظرية المعرفة وفي علم الجمال وما إلى ذلك من موضوعات يمكن إعمال العقل فيها. ولكن الفلسفة ليست مؤهلة لسبر أغوار الروح حيث لا ينفع منطق ولا برهان تجريبياً كان أم عقلياً. وعندما حاولت الفلسفة اختراق مجال الروح تحولت إلى ما يشبه الدين، وهذا ما حصل للأفلاطونية المحدثة التي جعلت من الروح محور بحثها، فودّعت البرهان ودخلت في الأسطورة وفي المنظومات الرمزية، ولم يكن ينقصها شيء إلا الطقوس لكي تتحول إلى دين.
إنّ صلاة ذهنية تمارسها في صمت داخل مسجد كلاسيكي أو كاتدرائية أو معبد بوذي تجعلك على صلة مع الأسرار الكونية أكثر من قراءة مجلّدات في الفلسفة. والصلة هنا لا تأتي من جلال العمارة المسيحية أو جمال العمارة الإسلامية، بل من الرموز التي تنطوي عليها تلك العمارة، وهذه الرموز تجتاز عتبة العقل والمنطق لتودع فيك رسالتها دون جهد منك. إنّ رموز العمارة المقدّسة تحكي بلغتها الخاصة ما تحكيه الأساطير بلغتها أيضاً. وفي كليهما هنالك رسائل تتطلب ما لا يحصى من الخطاب المنطقي لشرحها والتعبير عنها.
* الصوفيون حاولوا أيضاً، لاسيما ابن عربي.. مزجوا بين الفكر والفن.. كيف تنظر إلى محاولتهم؟
- التصوّف هو خبرة دينية فردية تقع خارج مجال الأنظمة الدينية ولذلك فإن المتصوّفة من كل الأديان يتكلّمون لغة واحدة، ويعبّرون عن خبرتهم بالقدسي بالمجازات والرموز ذاتها. والمتصوّف لا يرى في الطقوس والعبادات المتعارف عليها ما يكفي لعقد الصلة مع الإلهي، لاسيما إذا كان الهدف من ورائها أجراً ومثابة، ولذلك يقول النفّري: «يا عبد، عُكوفُك على الدنيا أحسن من عبادتك للآخرة». وتقول رابعة العدوية: «ما عبدته خوفاً من ناره ولا حبّاً لجنته فأكون كالأجير السوء، بل عبدته حباً له وشوقاً إليه». إنّ الصلة العليا التي ينشدها المتصوف هي تحقيق ذلك التماهي بين الروح الفردية والروح الكونية السارية في كل الموجودات. في هذه الحالة العليا من زوال الحجب بين الطرفين يشعر المتصوّف بصوت الحق يناديه مباشرة دون وسيط. ولذلك نجد النفّري في كتاب المواقف يستهل كل موقف بالقول: «أوقفني في... وقال لي»، وفي كتاب المخاطبات يبدأ كل مخاطبة بالقول: «يا عبد...» يلي ذلك خطاب مباشر يودعه صوت الحق في القلب.
إن الطبيعة العالمية للفكر الصوفي وتحليقه عالياً فوق الصيغ الدينية الرسمية، تجعل منه جسراً يصل بين أديان الإنسان التي تبدو متخالفة شكلاً ومتواحدة مضموناً. وقد وصل محي الدين بن عربي في توحيده للمعتقدات حدّا جعله يعطي حتى للوثنية دوراً في طريق الإنسانية لمعرفة الله. ذلك أن عبادة الحجر والوثن وما إليها ليست إلا الشكل الأدنى على ذلك الطريق أوصلنا إلى الشكل الأعلى، وهذا معنى قوله في كتاب فصوص الحِكم: «فإن للحق في كل معبود وجهاً يعرفه من يعرفه ويجهله من يجهله.» وقوله: «فما عُبد غير الله في كل معبود.» وأيضاً: «فإنّهم إذا تركوهم – أي معبوداتهم – جهلوا من الحق على قدر ما تركوا من هؤلاء.» ولعلّ أبلغ ما عبّر عنه التصوّف في وحدة الأديان هذه الأبيات لابن عربي:
لقد صار قلبي قابلاً كلّ صورة
فمرعى لغزلانٍ وديرٍ لرهبانِ
وبيت لأوثانٍ وكعبةُ طائفٍ
وألواح توراةٍ ومصحف قرآنِ
أدينُ بدين الحبّ أنّى توجّهتْ
ركائبه فالحبُّ ديني وإيماني
* تجاذب الثقافة العربية العقل والنقل، وأرى أن الثاني طغى على الأول! هل ترى ما أرى؟
إذا رأيتَ ذلك ما الأسباب القارّة وراء هذا الطغيان؟ هل من أمل في التجاوز؟
- أود هنا أن أستبدل مصطلح «العقل والنقل» بمصلح «الإبداع والنقل» لأنّه في رأيي أكثر تعبيراً ووضوحاً، ثم أقول إنّ النقل والإبداع هما مرحلتان تمرّ بهما أية ثقافة بين نشأتها ونضجها، ففي فترة النشأة تحتاج الثقافة أكثر ما تحتاج إلى النقل من الثقافات السابقة لها زمنياً والمتقدّمة عليها، وهذا ما يزوّدها بالأدوات اللازمة لكي تشقّ طريقها بنفسها. وعندما لا يكون هذا النقل عن ثقافات متقدّمة أخرى بل عن ماضي الثقافة نفسها عندما كانت في طور الإبداع، ندعو هذا النقل بالسلفية أو الأصولية، أي العودة إلى الأسلاف وإلى الأصول. فإذا كانت هذه العودة رحلة باتجاه تجاوز القديم بعد فهمه واستيعابه، فإنّها بادرة صحيّة، وإذا كانت تقديساً للماضي باعتباره الكمال الذي لا يمكن تجاوزه، فإنّها علامة اختلال مَرَضي لا بدّ من معالجتها بكل الوسائل الممكنة.
في مرحلتنا الراهنة نحن بحاجة إلى النقل عن الثقافات المتقدّمة وإلى العودة إلى الأصول في آن معاً، فالنقل يضعنا في قلب الأزمنة الحديثة، والأصول تحفظ هويتنا الحضارية. بهاتين الوسيلتين نستطيع دخول العصر والمساهمة في الإبداع الحضاري.
* فيزياء الكمّ حاولت الإجابة عن أسئلة الدين.. كيف تنظر إلى هذه المحاولة؟ هل ستكون إجاباتها كافية في يوم ما؟
- الفيزياء الحديثة اليوم هي رأس الحربة في طموح الإنسان المعرفي، وعندها تلتقي حكمة الإنسان وفلسفاته وأديانه. لقد قدّمت لنا الفيزياء الكونيّة معلومات لم نكن نحلم بها عن طبيعة الكون وأصله ومكوّناته وصولاً إلى حوافه الخارجية، حيث تفرّ المجرات المحيطية عن المركز بسرعات تقارب سرعة الضوء في كل اتجاه. كما رصدت لنا فيزياء الكمّ أعماق المادّة وصولاً إلى الجسيمات ما دون الذرية. والفيزيائيون يعملون الآن على صياغة الحلم العلمي الكبير، وهو النظرية التوحيدية النهائية، أو نظرية كل شيء، والتي من المتوقع لها أن تفسّر الكون في عدد من المعادلات الرياضية التي تشبه في بساطتها معادلة أينشتاين في النسبية الخاصة وهي: ط (الطاقة) = ك (الكتلة) × س² (مربع سرعة الضوء). إن الفيزياء هي دين الإنسان الحديث، وكما يَعتبر الدين كلّ شيء ضمن دائرة اهتمامه، كذلك هي الفيزياء التي تجعل من العالم كلّه مجالاً لاهتمامها.
* أخيراً، ما مصير الميثولوجيا؟ وهل ثمّة ميثولوجيا جديدة قادمة؟ ما مصير الفنون، والشعر ضمناً؟
- اليوم لا توجد أساطير فاعلة على نطاق واسع في حياة المجتمعات الحديثة. غير أن الأسطورة لا تمارس تأثيرها من خلال نصوصها المتداولة بين الناس فقط، وإنما من خلال نزوع أسطوري متجذر في السيكولوجيا الفردية والجمعية، يعمل متخفّياً وراء آليات التفكير العلمي ويخفف من سلطان النزعة العقلانية. هذا النزوع الأسطوري يجد تجسيده الأكثر إيجابية من خلال الشعر والفن اللذين يُعيدان برقعة الطبيعة بذلك الستار الصوفي الأخّاذ بعد أن نزعت الثورة العلميّة عنها قداستها، وكشفت عن الكثير من أسرارها، ويعيدان إلينا وحدتنا معها باعتبارنا كائنات «طبيعانية» قبل أن نكون كائنات عقلانية.
إن الفن والشعر يُرجعان إلينا ذلك الحدس الخلاق والإدراك الباطني للمدهش والرائع والفائق والقدسي. والفن الذي لا يصدر عن مثل هذا النزوع الأسطوري هو أشبه بفن الحواسيب الفائقة التي تقوم اليوم بكل المهام التي توصف بالإبداعية. غير أن النزوع الأسطوري، باعتبار طبيعته غير العقلانية، ينطوي على جوانب سلبية علينا الانتباه إليها لاسيما في مجال السيكولوجيا الجمعية. فقد يظهر طيف السيدة العذراء في أي وقت وفي أي مكان، ويجد أصحاب العقول الأكثر رجاحة صعوبة في مقاومة دافع التوجه إلى ذلك المكان لرؤية المعجزة والحصول على البركة. وقد تنبعث من أعماق اللاشعور الجمعي رموز ميثولوجية قديمة وتتجسّد في ظواهر يصبغ عليها الهوس الجمعي طابعاً إعجازياً. من ذلك ما حدث في بلدة سورية نائية، قيل أن تيساً من الماعز أخذ يدر حليباً وحليبه يشفي من كل الأمراض، فراح الناس يتقاطرون من كل حدب وصوب للحصول على قطرة من ذلك الحليب. وهكذا بُعث إله الخصب القديم من خلال أحد رموزه الحيوانية يسرح بين الناس ويوزع بركاته عليه.
خاص ألف ألكترونيا
نشرت مجلة المنتقى العدد /1
08-أيار-2021
04-نيسان-2020 | |
07-آذار-2020 | |
20-تموز-2019 | |
21-تموز-2018 | |
10-شباط-2018 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |