ندى عبد الصمد ويهود لبنان / سناء الجاك
2010-10-05
ي كتابها، "وادي ابو جميل- قصص عن يهود بيروت"، فتحت ندى عبد الصمد الماضي لتستعيد ذاكرة جيل يتحدث افراده بمودة عن "جيران قدامى" راحوا الى غير رجعة. في فيلمها الوثائقي، "يهود لبنان... الولاء لمن؟"، فتحت المستقبل على اسئلة عن "قدامى الجيران" الذين يسهل تصنيفهم اعداء ويصعب البحث بحياد عن الأبعاد الانسانية التي يمكن ان تلغي الاحكام المسبقة بإدانتهم مع خطيئة انتمائهم الى ديانة اصبحت رمزاً لإغتصاب الأرض والحقوق وتشريد الشعب الفلسطيني.
وفق هذه المعادلة التي لا تستقيم، وجد المشاهدون انفسهم مع لبنانيين بالهوية والولادة، يطرح حضورهم في الفيلم الوثائقي جدلية احتمال وجود "يهود عرب"، لهم سيرتهم اللبنانية، او يهود غير اسرائيليين طمحوا للحصول على جنسية لبنانية بعد هجرتهم من العراق او ايران ولم ينجحوا، فاضطروا الى التفتيش عن وطن بديل.
صحيح ان بعض هذه الشخصيات نجح في امتحان الانتماء، والبعض فشل، وهناك من بقي متأرحجاً على ايقاع حلم مختلف للعودة، لكن الوجه الآخر للمسألة يكمن أبعد من الفيلم والكتاب، ويتمثل في مدى قبول اللبنانيين فكرة "اليهودي" خارج إطار "إسرائيليته" و"صهيونيته" وتآمره على كل ما هو عربي ومسلم، بعدما تمكنت اسرائيل من جعل قضية فلسطين القومية قضية المسلمين "الذين لا يستحقون عطف العالم لأنهم ينتجون الارهاب".
من هنا كان نقاش الذين تابعوا الوثائقي السينمائي عن مدى التعاطف مع الان عبادي وهو يتحدث من تل ابيب عن ذهابه المتكرر الى الحدود الشمالية لرؤية وطنه الثاني من بعيد، وعن متابعته المحطات التلفزيونية اللبنانية و"الخناقات" السياسية "الطريفة" التي تضحكه، وعن رفضه الانخراط في الجيش الاسرائيلي.
من هنا بدت مارسيل التي احتفظت بصورة صديقتها اليهودية ستين عاما، وبتذكارات اخرى لأصدقاء انقطعت اخبارهم منذ الرحيل، كأنها تروي حكاية عن جماعة لا علاقة لها بإسرائيل. بقي السؤال مطروحاً عندما ضحك الجمهور مع تيريز التي حكت ببراءة قصة صداقتها مع ماري المسيحية المتزوجة من يهودي، والتى غادرت الى اسرائيل بسبب الفقر. تيريز بكت على الهواء عندما تبلغت ان صديقتها ماري توفيت. وأضافت انها فتشت عن ماركو، ابن ماري، بين الجنود الاسرائيليين الذين غزوا لبنان عام 1982، حتى حسبها هؤلاء الجنود مجنونة.
السؤال وجد جوابه ومبرراته عندما حضر الى الشاشة ماركو مزرحاي ليروي كيفية مغادرته لبنان، وعودته اليه جندياً حاملا صوره القديمة. لم يشفع له انه تحدث بحنين عن دموعه طوال عام شوقاً الى غير ارض الميعاد. وعندما استذكر "عبدو حابب غندورة" ووديع الصافي وصباح وفيروز. او عندما اوضح وهو يفتش عن كلماته بالعربية، انه رفض العمل جاسوساً على اللبنانيين، لكنه حمل سلاحه ووضع نصب عينيه ضرورة قتل من يواجهه خلال الاجتياح... حتى لا يموت هو.
صدمة المشاهدين بما قاله ماركو، خففت من نسبة تعاطفهم مع جاك بصل الذي يعيش اليوم في كندا محتفظا ببزة والده العسكرية وعمرها خمسة وستون عاما، عندما كان ايلي بصل مفوضا عاما وهي اعلى رتبة عسكرية يصلها يهودي في السلك العسكري في لبنان، ليروي كيف رفض والده مغادرة لبنان وكيف اضطر الى ذلك بسبب الحرب الداخلية. وقد غادر على امل العودة بعد هدوء الحال، لكن الحرب طالت فبقي في كندا حيث توفي مطلع التسعينات. ثم عرض هويته اللبنانية ليؤكد انه لم يشعر بالاعياد بعد هجرته الى كندا.
التعاطف يبقى اسير وجهات النظر المتناقضة حيال داني لينيادو المقيمة في مكسيكو، التي قالت بحنان ودموع انها ستتحدث بالعربية، لتسترسل في استعادة لبنان وفترة "الصبا الذهبية"، واضطرارها للسفر مع عائلتها هرباً من الحرب الأهلية. تقول ان والدها ديزيريه لينيادو "لم يعرف كيف يعيش خارج لبنان" حتى وفاته.
قد تجيب عبد الصمد أن الكتاب والفيلم لا علاقة لهما بهذه الأبعاد الايديولوجية والسياسية، لكن العلاقة فرضها الجمهور العريض والواسع والمتنوع الانتماء والاعمار، الذي تدفق الى سينما "متروبوليس امبير" واستوجب استيعابه فتح صالة ثانية لعرض الفيلم ضمن "ايام بيروت السينمائية 2010" الاسبوع الماضي.
هل يكفي تبرير صاحبة العمل بأن "الفكرة الاساسية من الوثائقي هي استعادة مناخ ذاكرة حلوة احتفظ بها اشخاص يتقدمون في العمر وقد تضيع الذاكرة من بعدهم"، كما قالت لوكالة فرانس برس؟ وهل يمتنع المنتقدون عن كيل الاتهامات لها بالتطبيع والترويج ليهود عاشوا في لبنان وحملوا هويته، على رغم التوضيح الذي حرصت على تقديمه في نهاية العرض من انها لم تذهب الى اي مكان لمحاورة الشخصيات اليهودية التي ادلت بشهاداتها من كندا والمكسيك و... اسرائيل؟
ربما لا بد من العودة الى الكتاب الذي يتحدث عن الرحيل الصامت والطوعي ليهود لبنان والصادر عن "دار النهار". ففكرة الكتاب ولدت قبل ثلاث سنوات على خلفية برنامج أعدّته عبد الصمد للإذاعة عن طوائف لبنان، ومن ضمنهم اليهود الموجودون على لوائح النفوس في السجلات الرسمية، والغائبون عن الأرض اللبنانية. هذا الواقع الذي يشكل ظاهرة فريدة، تضاف إليه وقائع أخرى يقولها الكتاب علانية أو مواربة، ليؤرخ لمرحلة من مراحل التاريخ القريب المهمل، والمثير للجدل في ظل الصراع العربي - الإسرائيلي عموماً، واللبناني - الإسرائيلي خصوصا، ما يعني اننا حيال كتاب سجالي، مع أن كاتبته لم ترد له ذلك، وهو كتاب ريادي أيضا من حيث عملية "التجميع" التي اعتمدتها عبد الصمد في بحث دؤوب عن خيوط الذكريات الواهنة لكبار السن الذين عايشوا تلك الحقبة.
الكتاب يقدم إلى قرائه مرجعا ثمينا لليهود الذين عاشوا حرية معتقدهم وسط تعددية المذاهب اللبنانية. كما يثير مع الفيلم المكمل له، أسئلة عن المواقف المسبقة لليهود من جهة، وللعرب والمسلمين من اليهود من جهة ثانية، بمعزل عن الدين.
الواضح أن الغلبة كانت وستبقى للدين على الاقل في المدى المنظور، فلا شيء يبرر رحيلهم، ذلك أنهم كانوا يعيشون مرحلتهم الذهبية قبل حرب 1967. ولا شيء يوحي بإمكان التسامح القريب، حتى اذا نجحت المفاوضات في اجراء تسوية بين الفلسطينيين والاسرائيليين. الاسباب كثيرة ومتكررة ومؤلمة.
لكن العمل التوثيقي يستحق التوقف عنده بمعزل عن الابعاد الاخرى. ففي الفيلم نكتشف صدقية الرواة الذين اعتمدت عليهم الكاتبة لتجميع مادتها. وفي حين تشير إلى أنها لم تقم برقابة ذاتية على المعلومات التي حصلت عليها، بقي هاجس عبد الصمد: الدقة، والموضوعية، والصدقية، كذلك المجهود الواضح لتكريس حياديتها بمعزل عن أي خلفية لديها أو لدى رواتها.
تعود الاسئلة العويصة عندما يطرح مثل هذا العمل: هل يكفي الحياد ومعه الدقة والموضوعية عندما يتعلق الأمر باليهود؟
النقاشات التي دارت بين الجمهور خارج القاعة تدل على الجدل الذي يحمله كل عمل عن اليهود اذا لم يكن منطلقاً من الاتهامات المباشرة و"المعلّبة" أحياناً. هذا الامر الذي تعرفه عبد الصمد، لم يحل دون اصرارها على البعد عن "تركيب للخلفيات الصادرة من النظرة الحالية للبنانيين تجاه اليهود. فهدف الكتاب لا يهدف الى توجيه رسالة سياسية، وتحقيقه لم يكن سهلا. نحن عشنا مأساة اللاجئين الفلسطينيين، وحروب الإسرائيليين ضد لبنان. وليس عاديا تصور جندي إسرائيلي ولد في لبنان، ثم عاد ليشارك في غزونا". السبب أنها لا تريد أن يثير مضمون كتابها نقاشا حول مدى صحة المعلومات الواردة فيه. وتشير الى انها لم تجد يهوديا واحدا حاضرا للكلام عن طائفته لملفّها عن طوائف لبنان. لذا، استقصت وحصلت على أسماء يهود لبنانيين يعيشون في كندا. وهاتفتهم لإعداد ملفّها. اكتشفت حينذاك أنها لا تعرف شيئا عن هذه الجماعة التي عاشت في وادي أبو جميل مع باقي اللبنانيين. قررت أن تعرف وبدأت تسأل، وأجرت ما يقارب الخمسين مقابلة مع أناس سكنوا الوادي. ثم ركّبت القصص بعد فرز مضامين المقابلات، والتأكد من الشخصيات التي ورد ذكر كل منها على لسان رواة. وحصلت على معلومات كثيرة، تحدثت عنها إلى أصدقاء في مجال عملها، فاقترحوا عليها فكرة الكتاب. وهذا ما حصل. بعد الكتاب كان الفيلم الوثائقي من ضمن سلسلة "ما لا يقال" التي تعدّها الـ"بي بي سي" لينقل شخصيات الكتاب ورواته الى الشاشة ويكمل معهم رحلة الماضي واسئلة الحاضر. حرصت على ان يقيم الفيلم مسافةً بين الحالة الانسانية والتداعيات السياسية، ويتجنب الإحالة، ما أمكن، على الصراع العربي - الإسرائيلي، لأنه يبحث عن "الذاكرة الضائعة" لدى يهود لبنان. لكن الاحالة تبقى بيت القصيد في اكتمال الكلمة بالصورة، مع ما تفرضه هذه العملية من بناء جسور او لعب بالنار. الحالتان موجودتان في بلد تتناقض ثقافاته وصولاً الى الانفجار، ليبقى الاكيد ان الكاتبة لم تلعب بالتاريخ انما سارعت الى توثيقه، ليصار الى مناقشته بعيداً من النار التي ألفنا كلبنانيين اللعب بها، بيهود او بغيرهم ¶
ملحق النهار الثقافي
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |