Alef Logo
المرصد الصحفي
              

أميـرة بابليـة / محمود الزيباوي

2010-10-17

تحت عنوان "أميرة بابلية"، تعيد "دار الجمل" اكتشاف كاتبة من القرن التاسع عشر طواها النسيان تُدعى ماري تيريز أسمر. ألّفت هذه الكاتبة سيرة ذاتية مطوّلة نُشرت في جزءين، ويبدو ان نشاطها الأدبي اقتصر على هذا الكتاب الصادر في لندن عام 1844. بعد أكثر من قرن ونصف قرن، يصدر هذا الكتاب بالعربية في ترجمة "انتقائية" مختصرة حررتها الفنانة التشكيلية والمؤرخة أمل بورتر.

تستهل ماري تيريز أسمر سيرتها بالتعريف بنفسها. تقول إنها تنحدر "من عائلة من الشرق تعود أصولها إلى البراهما الذين اعتنقوا المسيحية من زمن بعيد على نهج كنيسة ترافنكور التي أسّسها توما رسول سيدنا المسيح في الهند"، وإن أجدادها رحلوا "منذ قرون مضت عن ترافنكور إلى بلاد فارس، واستقروا أخيرا في بغداد". كان جد ماري تيريز واسع الثراء، واسمه عبدالله، وكان يمتلك أراضي شاسعة "وممتلكات أخرى، "من بينها بيوت وأغنام ومزارع إنتاج الحرير والجمال التي بلغ عددها خمسة آلاف جمل". رحل عبدالله، وورثه أولاده الخمسة، منهم والد ماري تيريز الذي كرّس ثروته لـ"نشر الديانة المسيحية"، وكان "يتبع الطقوس الكنسية الكلدانية التي هي شريكة للكنيسة في روما". فتح الرجل أبواب منزله أمام كل إنسان بائس، "أكان مسيحيا أم يهوديا أم مسلماً"، وآوى لمدة سنتين مبشرا يُدعى غبريال دومبو "تعرض إلى حكم قاس أدى إلى قص لسانه".

تختصر هذه البداية أسلوب الكاتبة ومنطقها في الكتابة. يخال القارئ أن الروائية تكتب في الدرجة الأولى الى القارئ الإنكليزي، والصور التي تبتدعها هي التي تفتن هذا القارئ. تبدو قصة "كنيسة ترافنكور" عجيبة، والأرجح أن أجداد الكاتبة انتموا إلى الكنيسة السريانية النسطورية التي أسّسها توما الرسول بحسب التقليد، وكان لهذه الكنيسة دعاة وصلوا إلى الهند واسسوا فيها كنائس تتبع مذهبهم. تعرضت الكنيسة الكلدانية لسلسلة من النكبات منذ القرن الرابع عشر، وانضم قسم منها إلى الكنيسة الكاثوليكية في مطلع القرن التاسع عشر، منشئا الكنيسة الكلدانية. ولدت ماري تيريز أسمر في تلك الحقبة، وكان والدها من أتباع هذه الكنيسة، والمبشر الذي آواه معروف، وهو راهب سرياني من ماردين قضى حرقا في دير مار ربان هرمز عام 1832. تتحدث الكاتبة عن ظلم الأتراك وبطشهم، وتصف ثروة عائلتها بلغة استشراقية واضحة يتردد اصداؤها على صفحات سيرتها الذاتية.

انتقلت العائلة إلى بغداد، وحين انتشر الطاعون عام 1804، هربت إلى الريف بالقرب من خرائب نينوى حيث كانت تمتلك منزلاً يُعرف باسم "دار العزة". وُلدت ماري تيريز في تلك الفترة في خيمة قريبة من هذه الدار، وكانت الخيمة مكانا لنواح والدتها بعد فقدانها بعضا من أفراد عائلتها بسبب الطاعون. عادت العائلة إلى بغداد بعد انتهاء الوباء، وتعرضت للعديد من المصائب، وانتقلت من مدينة إلى أخرى. على طريقة رواة القرن التاسع عشر، تسترسل الكاتبة في وصف الأمكنة والناس، وتستطرد في الحديث عن التقاليد والعادات، كما أنها تبالغ في هذا الوصف في أغلب الأحيان، كما في كلامها عن قصر العائلة في تلكيف، نواحي الموصل، وتأكيدها أن هذا القصر كان يحتل مساحة "واسعة وشاسعة تصل إلى مساحة اللوفر". تلقت ماري تيريز تربية استثنائية كما يبدو، واتقنت "لغات عدة كاللاتينية والإيطالية والفرنسية والهندونستانية والسريانية والكلدانية والعبرية والعربية"، واللافت أنها كانت تدعو الى المساواة بين الذكور والأناث، وأنها فتحت مؤسسة تعليمية لتدريس اللغات للنساء في الموصل، واشتركت مع سيدتين من أقاربها ومعارفها في تعليم اللغات التركية والفارسية والكردية والكلدانية، ويبدو أن هذه المدرسة اللغوية جذبت الكثير من نساء الطبقة العالية، ومنهن اخت الباشا التي دعتها إلى العشاء في بيت شقيقها.

يشكل كل حدث من هذه الأحداث مساحة لوصف التقاليد الشرقية التي تثير القارئ الغربي، كما في الحديث عن الأزياء النسائية، أو طقوس الحمّام الحريمي. تقول الكاتبة في متعة تدخين النارجيلة: "أعتقد ستحتاج المرأة الأوروبية إلى وقت طويل لتستمتع بمتعة المرأة الشرقية بالنارجيلة، رغم أن المرأة الأوروبية الآن قد عرفت متعة شرقية أخرى وهي الشاي الذي جاءها من أرض تشرق منها الشمس". يغلب هذا الطابع الإستشراقي على الوصف، لكننا نقع على بعض الومضات "الأصيلة" تشهد لوعي مثير للإعجاب، كما في قول الكاتبة: "أنا لا أريد أن أعطي أبناء وطني مكانة المتنورين الأوروبيين نفسها، وأعرف أنهم لم يماروا الغرب في مهارتهم. نحن لا ندّعي بأننا نملك خصائص رقة حضوركم البدني أو لطافته، وليس لدينا قابليات مهاراتكم في الجدال والمماراة. نحن متواضعون ومعفرون. ميراثنا أمسى غريبا بيننا. صار للغرباء. أصبحنا يتامى. أمهاتنا أرامل. ندفع المال لنرتوي بمياهنا. نشتري حطب أرضنا. منهكون لا راحة لنا. كانت مدننا شاسعة وتنعم بالملايين. بيوتنا عالية الجدران وأبراجنا المرتفعة في مسوبوتاميا الكبيرة والعظيمة بتاريخها وتراثها، إلا أنها ترزح تحت وطأة عويل بنات آوى والضباع أو صراخ الوهابيين الذين يغافلون المسافرين. هذه الأصوات تُسمع بدلا من نقرات الدفوف أو أوتار القيثارة التي كانت تشنف أسماع الأمراء الذين نسوا مخافة الله".

من الصحراء إلى جبال لبنان

ارتحلت ماري تيريز في الصحراء، وعرفت البدو عن كثب، ولاحظت أنهم يحبون القهوة جدا، "على عكس الوهابيين الذين يحرّمونها"، وأنهم "يعتقدون أن البشر كلهم سواسية ويعتبرون الطائفية الدينية في جميع الأديان ممقوتة جدا ولا يمارسون الصلاة المنتظمة". وصلت الأميرة البابلية في ترحالها إلى بلاد الشام، وبلغت جبال لبنان، وكتبت في وصفها: "إن سلسلة جبال لبنان العظيمة تثقب السماء بقممها الشاهقة والصلبة. وفي الجهة المقابلة البحر الواسع الرحب تطفو على سطحه أشرعة بيضاء تلتمع على السطح الأزرق كنجمات تشع ساطعة في قبة السماء، لا حدود لها ولا نهاية أيضا". استقرت ماري تيريز في هذه الجبال، وتعرفت عن كثب الى طوائفه، وكانت تزور دير مار انطونيوس قزحيا قرب إهدن، وهذا الدير "يُبجّل ويُعظّم ليس فقط من قبل المسيحيين، بل من قبل الدروز والمتاولة الذين يجلبون النذور باستمرار عربونا لاحترامهم وإجلالهم". دخلت "الأميرة البابلية" قصر الأمير بشير الثاني الشهابي الكبير، وهو بحسب تعبيرها "الأمير العظيم من لبنان"، و"أحد أعظم معاقل المسيحية في الشرق"، وقد حظيت برعايته وعطفه، وسكنت قصره كمرافقة لزوجته. يجد القارئ اللبناني في هذا الفصل من الكتاب مادة غنية مليئة بالإثارة، وتبرز هذه الإثارة في وصف الأمير الذي اعتنق المسيحية مع تمسكه "ظاهريا بعادات الأتراك من أتباع النبي"، كما في وصف عادات الشيعة والدروز. تقول في وصف "المتاولة" أنهم "لا يأكلون مع الكفار إلا أنهم في غاية الكرم بالنسبة للغريب من كل الطبقات الاجتماعية، إلا أنهم يكسرون ويحطمون الأواني التي أكل منها أو شرب بها كل من لا يتبع مذهبهم"، وتضيف "إن المارونيين والدروز وبقية سكان الجبال ينظرون بازدراء إلى المتاولة". وتقول في وصف الدروز: "لا أعرف أناسا يتمتعون بالود وعدم التحيز أكثر من الدروز".

ترسم ماري تيريز صورة طوباوية للأمير بشير: "إن الأمير الحالي، والذي كان من حسن حظي أن أكون ضيفته، يحكم منذ أربعين سنة وسياسته اتسمت بالقوة والحرية خلال تلك الفترة الطويلة. وبهذه السياسة وطّد العناصر المختلفة وجعلها تميل لتكون كياناً واحداً، وعمّ السلام في الجبال ولم يعد المسلم متعطشاً لدم المسيحي شريكه في المواطنة. باختصار فإن الماروني والمحمدي والدرزي والمتوالي ينظرون أحدهم إلى الآخر كإخوة". تتحدث عن الأميرة التي حضنتها، وهي الزوجة الثانية للأمير، وقد "اشتراها من اسطنبول بسعر باهظ مع مجموعة من الجواري لغرض اختيار شريكة مناسبة له بعد وفاة زوجته الأولى الست شمس، تلك التي عاش معها الأمير أربعين سنة والتي لم يتغير حبه لها، إلا أنها أصيبت بمرض الاستسقاء وبقيت لفترة طويلة مريضة قبل وفاتها". من جهة أخرى، تقدم الكاتبة سيرة مختصرة لكل من أبناء الأمير بشير الثلاثة، وتتحدث بإسهاب عن نسوة عائلة الشهابي، و"عوائل شيوخ الدروز والموارنة والمتاولة واليونان والأتراك وأصحاب السطوة".


المنفى الأوروبي


من لبنان، أبحرت ماري تبريز إلى قبرص، و"ودّعت الشرق إلى الأبد" في عام 1932 لتمضي اثنتي عشرة سنة في أوروبا بين إيطاليا وفرنسا وإنكلترا. تشكل سنوات المنفى هذه مادة الفصل الأخير من الكتاب، وفيها تشكو الكاتبة ألمها وحسرتها وغربتها بتعابير يغلب عليها الطابع الرومنطيقي. تحنّ إلى لبنان وتقول: "أنا الآن أشتاق بجد إلى أصدقائي في لبنان. ولو كانت صحتي أحسن مما هي عليه ولولا خوفي مما أصابني في البحر لذهبت إلى لونجهورن وأخذت أول باخرة إلى لبنان". تزور "حديقة النباتات" وتتحدث مع أرزة لبنان، "الثابتة والغريبة مثلها". يصلها خبر تنحّي الأمير بشير عن عرشه بعد فشل الحملة المصرية التي ناصرها، فتتحسر وتندب حالها وحال الشرق، وتقول إن حال الأمير "أفضل قليلا" من حالتها "الشقية والمنبوذة". تنتهي رحلة الأميرة البابلية في حديقة الحيوانات في "ريجنت بارك" حيث تجد نفسها "وحيدة وغريبة في أرض غريبة". تنظر إلى الجمل وهو "يتحرك ببطء وحزن من جهة إلى أخرى في مربطه الضيق". تخاطبه بالعربية وتقول له: "هنا لا يجب عليك أن تقطع الصحارى القاحلة وأنت تئن تحت ثقل الأحمال ولا يفرض عليك تحمل العطش الشديد. ولكن ألا تفضل كل الصعوبات في أرض موطنك على أن يطول حبسك وتبقى تحت سماء غير أنيسة ومزرية، لا تُكلَّف مهمة ولا يُعتمد على فطنتك؟".

أوصت ماري تيريز أسمر بأن يكتب على شاهدة قبرها: "هنا ترقد ابنة النكبات"، واستشهدت في رحلتها ببيتين من الشعر الإيطالي نقلتهما أمل بورتر بلغتهما الأصلية من دون تحديد مصدريهما. البيت الأول مصدره النشيد الخامس من "جحيم" دانتي، ومعناه: "ليس هناك من ألم أشد من أن تتذكر الزمن السعيد في البؤس". أما البيت الثاني، فيعود إلى قصيدة لفرنشيسكو بيتراركا، وهي "صلاة للعذراء"، ومعناه: "باحثاً عن هذه الطريق أو تلك، لم تكن حياتي سوى لهاث متعثر" ¶

عن ملحق النهار الثقافي
10/10/2010

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow