الصراع بين الليبراليين والإسلاميين: فرز طائفي وتضييع للحقوق
2008-02-13
ظهرت قبل مدة موجة من الدعوات والردود على الدعوات تناولت مجموعة فتاوى تتمحور حول ’’تكفير الليبراليين‘‘ في المنطقة العربية. وكان للملكة العربية السعودية ومصر النصيب الأوفر من هذه الفتاوى، ما دفع صديقنا السيد ولد أباه إلى نشر مقال في صحيفة الشرق الأوسط اللندنية حول فتاوى الشيخ صالح الفوزان ’’المكفرة لليبراليين‘‘ والتي طالت ارتداداتها مجمل المنطقة العربية. أثارتني المقالة والسبب أمران دفعاني للتعليق على ما جاء فيها، معرجا على خلفية صاحبها، ودافعا بالنقاش حول السياق الذي تأتي فيه إلى عتبات أرحب.
1)المتابع لمسيرة وكتابات ولد أباه منذ أحداث 11 سبتمبر وما تلاها
يلاحظ إصراره الكبير على التنبيه إلى تغيّر الأحوال وإلى ما ينتظر العرب شعوبا ونُخَبًا وساسة من ضرورة تغيير زاوية النظر إلى قضاياهم المحلية أو إلى نوعية علاقاتهم مع العالم. وهو ما دفعه إلى القيام بعمل
النظر إلى قضاياهم المحلية أو إلى نوعية علاقاتهم مع العالم. وهو ما دفعه إلى القيام بعمل تحليلي- تقييمي – ترميمي لمعالم المشهد الثقافي العربي، ودق ناقوس الخطر أمام النخبة العربية بمختلف أطيافها، مؤكدا على ضرورة التنبه إلى حيوية الأخذ بآليات نظر جديدة، والتخلي الطوعي عن "أوهام" المعارك الدنكشوتية. وقد أطلعني منذ أكثر من سنتين (وكان لا يزال موظفا في الأليكسو) على مخطوطة كتاب يتناول فيه بالحفر والتفكيك خطاب بعض رموز التيار الإسلامي الخليجي (والسعودي بشكل خاص) في شكليه المتوتر والاستعراضي، وتموقعه بالنظر إلى العلاقة مع الغرب أو مع شركاء الوطن (الليبراليين). وكان في تناوله لآراء ذلك التيار متفهما لمفاصل تشكّله وتحرّكه الشعبوي لحدّ "الانخراط" (الإفتراضي)، كما كان ناقدا للمخاطر المؤسسة في بعض من خلفياته وتركيباته النفسية-الدغمائية لحد القطيعة والتمفصل "الفارق". كان ذاك منهجه الذي دأب عليه في دراسة الفكر السياسي للتيارات الإسلامية الصاعدة، ولكن أيضا لمختلف ألوان الطيف في الليبرالية العربية ورموزها. كان في كل مرة يفضحه إصراره على محاولة ترشيد كل من التيارين عبر فتح "مستمر" لآفاق أرحب من المراجعة والتلاقي.
وأنت تقرأ للرجل لا يمكن إلا أن تحترمه وإن اختلفت معه في الرأي، لا بل إن أقصى ما سمعته في انتقاده كونه ’’لا يبلل أكمامه‘‘ وهي عبارة فرنسية يعاب بها من يرفض "الدخول في المعمعة" واتخاذ المواقف الصارمة مع / أو ضد... وهو عندنا الجالس على الربوة!!!
طبعا لا يمكن لنا أن نشاطر مثل هذا الرأي في الرجل، لأن مواقفه من القضايا الرئيسية للأمة معلومة عنه ومعروفة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لعلمنا دقّة وصعوبة القبول بالمنهج الذي يعتمده ولد أباه في قراءته للفكر السياسي العربي في مرحلة تبقى أهم عناوينها ’’الفرز‘‘ في كل شيء...تستحيل المواقف إلى اللغة الرقمية الثنائية (0 أو 1) وهي لغة أنظمة الكمبيوتر.. كما تستحيل الألوان إلى الأبيض والأسود .... لا منطقة وسطى .. فأنت معي، أو حتما ضدّي !!! وقد رافقت عملية الفرز هذه عجزا "مستديما" حتى عن القراءة ... عن تصفح أوراق التاريخ (الحاضر برمته لدينا) ... عن الاستمناء في حلم النوم دون تأزّم ... إنه القــفر يا صاح!!!
أنظر جمال الدين النويري (تـ 832 هـ) قاضي قضاة الشافعية في مكة، وأخوه ولي الدين (تـ 842 هـ) قاضي قضاة المالكية بمكة، وأخوهما كمال الدين (تـ 852) قاضي الحنفية بمكة...لم يمنعهم كونهم أبناء علي بن أحمد بن عبد العزيز العقيلي النويري إمام المالكية بالحرم الشريف من أن يختاروا المذهب الذي يريدون وأن يبرّزوا فيه ويرتقوا فيه أعلى الرتب العلمية والوظيفية....هل اضطرّهم ذلك للإنسلاخ عن العائلة؟ أو لمعاداة بعضهم بعضا؟ أو للقيام بعملية فرز واسعة داخل العائلة؟
ثم انظر محمد بن أحمد الحرازي (830-891 هـ) الحنفي المذهب، يصلي عليه عند وفاته قاضي قضاة الشافعية عند باب الكعبة ... هل اعترض الأحناف عن الصلاة وراء الإمام الشافعي طبقا لقاعدة الفرز؟ أم هل استاء الشوافع من تقدم إمامهم للصلاة على حنفي في حضور أئمة الأحناف؟
ليس ضربنا لهذه الأمثلة (وهي عديدة لا تحصى في ثقافتنا مما يحوّلها من مجرّد أمثلة إلى قواعد عامة في النظر والسلوك) يعود لكون أعناقنا مشدودة إلى الوراء على قول كثير ممن يسمّيهم أبو يعرب المرزوقي بـ’’سلفية التنوير‘‘، بل لتبرير ذلك الإصرار من ولد أباه على عدم الانزلاق إلى مستنقع الفرز الذي يحاول كل من الإسلاميين الجدد (سلفية التثوير) والليبراليين الجدد (سلفية التنوير) جرّنا إليه (أنظر مقاله: "محنة الليبراليين العرب" الصادر في الشرق الأوسط 15/12/2005؛ أو مقاله: "أزمة الفتوى ومأزق مؤسسة الإفتاء" الصادر في نفس الصحيفة في 25/05/2007؛ أو مقاله: "تكفير الليبراليين والعجز عن التفكير" الصادر في 06/07/2007؛ أو غيرها كثير من الدراسات والمقالات الصحافية المنشورة على طول الوطن العربي).
ونعتقد مع السيد ولد أباه أن عقلية "الفرز" هذه التي طالت الثقافة والاجتماع والسياسة في بلادنا هي بصدد تحويلنا إلى مجموعات ضيقة جدا، يرتهن بقاؤها الوجودي بالقضاء على المجموعات الضيقة الأخرى، جزر وهمية في قفر الصحراء... إنها ببساطة أدوات للفوضى الخلاقة التي تهدف إلى تحويل الفضاء إلى صحراء قاحلة!!
2) وبالعود إلى "الفتوى" التي أطلقها الشيخ صالح الفوزان بـ"تكفير" الليبراليين، وهو موضوع مقالة ولد أباه التي نتناولها هنا، فأعتقد أن هذا الأخير، وإن كان قد تفطن منذ زمن إلى أن جوهر القضية سياسي بامتياز، لم يوفّق تمام التوفيق في محوَرَة المناقشة حول تداعيات هذا المِفْصل العصبي للعلاقة الذي أشرنا إليه. يقول الكاتب عن ذلك الصراع بين الليبراليين والإسلاميين (المتعصبين كما يسميهم) في المملكة السعودية وفي الخليج بشكل عام: ’’ فيما يبدو صداما عقديا ليس في واقع الأمر سوى مظهر صراع سياسي ملتبس‘‘، ولكن الناظر إلى تحليله للرهانات الثلاث التي تدور في فلكها تلك العلاقة يلاحظ تركيز نقده على موقف "السلفيين المتعصبين" منها، مبينا خطورة المنحى المؤدية إليه. وبقدر توافقنا مع إعلانه بأن ’’الليبراليين في محنة‘‘ إلا أننا لا نشاطره تماما عند حديثه عن أن "التكفير عجز عن التفكير" أو أن "الفتوى في أزمة" وأن "مؤسسة الإفتاء في مأزق". والسبب أن هذه الاستنتاجات/ المواقف تتعارض – برأينا – مع المقدمة التي أقرها الكاتب (وأعرف أنها قناعته منذ سنوات عديدة) والقائمة على مصادرة مفادها أن الصراع بينهما سياسي وليس عقديا أو فكريا.
عندما نقوم بتفكيك الفتوى الدينية الصادرة عن الشيخ الفوزان مثلا، نلاحظ توزّعها إلى مراتب أربعة تؤلف وحدتها وتقوم عليها بنيتها: 1- السائل 2- عناصر السؤال المادية 3- الإجابة المخصوصة 4- نوعية استجابة المتلقي وتحويل المخصوص إلى العام. كل هذه الأركان الأربعة لا تخرج عن كونها تعبيرات اجتماعية حية، تتحرك في واقع مخصوص، وتمتلك كل واحدة منها قبل الدخول في علاقة مع الأخرى على بناء مادي ونفسي ولغوي مستقل. إننا هنا أمام التقاء مجموعة من المصالح المستقلة (بالمعنى العام للمصلحة) لتكوين مصلحة كبرى واحدة تنصهر فيها مختلف تلك المصالح. ليست الفتوى "خيالات نورانية" تتحرك في المطلق. إنها تعبير صريح عن رغبة قوية في تحقيق مصلحة عينية في مكان ما وفي زمن محدد. وهي بذلك أداة من الأدوات المستعملة في معركة تموقع المصالح في مجتمع ما. فالسائل (في حالة فتوى الشيخ الفوزان) شخصية اعتبارية واقعية، بقطع النظر إن كان شخصا أو مجموعة أشخاص، يتحرك ضمن علاقات اجتماعية تربطه بطريقة ما بهؤلاء "الذين يدعون إلى الفكر الليبرالي في البلاد الإسلامية"؛ وصيغة السؤال المطروح تحوي موقفا مسبقا من مصالح نقيضة لتلك التي يطمح إليها السائل، وهو ما دفعه إلى عدم الاقتصار على السؤال بل عمد إلى تحديد معنى الليبرالية التي يضع نفسه بمواجهتها حتى قبل الحصول على الجواب؛ أما الإجابة المخصوصة فقد صدرت من الشيخ صالح الفوزان المتوجَّه إليه بالسؤال. لماذا الشيخ الفوزان بالتحديد؟ لسببين رئيسيين: الأول موقعه الاعتباري بوصفه أحد ممثلي أعلى مرجعية دينية في المملكة السعودية وما يمثله ذلك من تأثير في جمهور المؤمنين، والثاني لمطابقته الكبيرة لنوعية المصالح التي يتبناها السائل (أنظر على سبيل المثال لا الحصر كتابه الموسوم بـ"شرح رسالة الدلائل في موالاة أهل الإشراك" الذي يكفر فيه من وقف في وجه دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب، بمن فيهم الجيش المصري بقيادة محمد علي باشا؛ وغير ذلك كثير من الفتاوى والدراسات). التوجه إلى الشيخ الفوزان إذا هدفه طلب النصرة لا طلب المعنى، وتجييش العامة لا تنقية "العقيدة". إننا بإزاء تكوين جبهة لقيادة معركة ضد "مصالح" مناقضة توحي الفتوى بأن الليبراليين هم أحد رموزها. هي بكل بساطة عملية شحذ الأسلحة في معركة التموقع والفرز. وما يزيد من دعم هذا الرأي طريقة الاستجابة والتعامل مع الفتوى (الركن الرابع). وهي بنظرنا صنفان:
الصنف الأول صدرت عن "المؤيدين المفترضين" الذين تعمل الفتوى على "تجييشهم" لصالح الجبهة. وقد التقط هؤلاء سلاح التكفير ذاك للدخول إلى المعركة ورص الصفوف. نحن هنا أمام تشكّل مصلحة عليا، تنتفي قيمة الفتوى نفسها منها، وتستحيل إلى موقف "مشرعِن" للمعركة...بإشراف السلطة الحاكمة...وبتفويض مباشر من أحد أركانها الأساسيين (المؤسسة الدينية). وهل إن سكوت الشيخ الفوزان عن الإجراءات اللازم إتباعها ضد "الليبرالي" الذي يستتاب فيرفض العودة عن آرائه كما يرفض إخراجه من دائرة الإسلام يدخل في باب "الغفلة" (ونعوذ بالله من اتهام الشيخ بذلك)، أم في باب المسكوت عنه المقصود سلفا؟ ألا يحق للمعنيين هنا أن يخشوا على وجودهم الفعلي لا على أفكارهم فحسب؟ هل يحقّ لنا القول إن الفتوى ليست أكثر من غطاء شرعي لكل التصرفات الممكنة (التلقائية الفردية منها والجماعية المنظمة سواء) التي قد يتعرض لها هؤلاء؟
أما الصنف الثاني من الاستجابات فهو ذاك الذي يصدر عن المعنيين بمصطلح "الليبراليين" هنا. لقد فصّل الدكتور ولد أباه في العديد من مقالاته النقدية في أسباب وتداعيات المحن التي يتعرض لها الليبراليون العرب. وهو وإن يرفض الخلط والاختزال الذي يصاحب هذا الفكر وأصحابه في الساحة الإسلامية، إلا أنه في مقاله هذا لا يركّز بما يكفي على الأخطاء القاتلة لهؤلاء، وأهمها عدم الاستفادة من المزالق والمطبّات التي عرفوها منذ عقود عديدة. ولعل فشلهم الرئيسي كان في عجزهم عن التوصل إلى المعادلة التي تجعلهم يحصّنون أنفسهم بشعوبهم عبر الانخراط الواضح في قضاياها العادلة وتطلعاتها المشروعة، وفي نفس الوقت القيام بعملية إصلاح ثقافي شامل من الداخل. لقد كان الليبراليون العرب منذ فترة نضالات التحرير الوطني أكثر قربا من أمثالهم في فضاءات أخرى (بما فيها تلك التي تصنّف بالفضاءات العدوّة) أكثر من اقترابهم من معاناة شعوبهم. وقد بقي الحال على ما هو عليه في فترات بناء الدولة وفترات التنمية لدرجة أن كثيرا من بينهم كان يترحّم علنًا على "قيم المستعمر"، بل إن منهم من انخرط في السنوات الأخيرة في "نظرية الاستقواء بالأجنبي" لتغيير الأوضاع السياسية والاجتماعية ببلدانهم. لم تكن أفكارهم في يوم من الأيام "دعوات نورانية" لعالم برزخي، بل تكتّل مصالح اجتماعية تعبّر عن نفسها فيما يطرحونه من أفكار.
لقد تحولت طبيعة المعركة عند هؤلاء من حركة إصلاح اجتماعي وديني عند بعض مصلحي القرن التاسع عشر إلى بحث عن السلطة عبر الانفصال الطوعي عن ثقافة المجتمعات الإسلامية "المتخلفة" والإدّعاء بالتميّز والرفعة، وهو ما جعلهم يستعيضون عن طموحاتهم "الرومنسية" بالبحث عن التموقع والدفاع عن شرعية مصالحهم عبر استعمال كل الأسلحة المتاحة. وبالنتيجة، لا هم استطاعوا الحفاظ على ثقة شعوبهم بهم، ولا هم تمسكوا بأحلام الليبرالية في الانتشار الأفقي للثقافة وولادة الثقافة الشعبية أو ما يسمى بالرأي العام الضاغط...
وكان هذا الفشل في تحقيق شعارات الطموح الليبرالي هو الذي زاد في اتساع الشرخ بين ممثلي هذا التيار والإسلاميين الشعبويين (ومِن ورائهم جماهير المؤمنين الكادحين) .... ثم انفرط عقد الثقة بينهما.
... وأصبحت خلفية المعارك بينهما اليوم هي الاستحواذ على رقع صغيرة ... مقطوعة الأصل والمآل.. ومعرّضة باستمرار لمزيد التشرذم ...ثم التشرذم...ثم التلاشي...تلك هي الفوضى الخلاقة.
ولا يصدّقنّ أحد أن المعركة هي معركة إسلام...أو ليبرالية... هي فقط معركة الجشع!!!
وصدق الرسول الأكرم عندما دوّت صرخته:’’من قال هلك الناس فهو أهلكهم‘‘.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |