ظاهرة الإلحاد في الإسلام / عبد الرحمن بدوي
خاص ألف
2010-11-06
ظاهرة الإلحاد من أخطر الظواهر في تطور الحياة الروحية، و هي أيضا ظاهرة ضروررية النشأة في كل حضارة حينما تكون في دور المدنية، و إنما تختلف وفقا لروح الحضارة التي انبثقت فيها. ذلك أن الإلحاد نتيجة لازمة لحالة النفس التي استنفدت كل إمكانياتها الديني، فلم يعد في وسعها بعد أن تؤمن. و إذا كان الإلحاد الغربي بنزعته الديناميكية هو ذلك الذي عبّر عنه نيتشة حين قال : " لقد مات الله " ، و إذا كان الإلحاد اليوناني هو الذي يقول : " إن الآلهة المقيمين في المكان المقدس قد ماتت " فإن الإلحاد العربي – و هو الذي يعنينا هنا – هو الذي يقول : " لقد ماتت النبوة و الأنبياء". ذلك أن الإلحاد العربي كان لا بد أن يصدر عن الروح العربية، و ما تضعه هذه الروح من صلة ، في تدينها الخاص ، بين الله و بين العبد. فإنها لما كانت تنظر إلى هذه الصلة على أنها صلة افتراق و بعد كامل فقد وسطت بينهما الكلمة ، كلمة الله. و كلمة الله لا ترد عنه مباشرة لوجود الهوة الهائلة بين العبد و الله ، بل بالوسيط ، و هو النبي. لهذا كان الأنبياء هم الذين يلعبون أخطر دور في الحياة الدينية عند الروح العربية. و من هنا نفهم كيف كان الأنبياء جميعا من أبناء هذه الروح وحدها. و إذا فالدين و التدين عامة إنما يقومان على فكرة النبوة و الأنبياء. و على هذا فإن الإلحاد لا بد أن يتجه إلى القضاء على هذه الفكرة التي تكوّن عصب الدين و جوهره لدى تلك االروح. و هذا يفسر لنا في أن الملحدين في الروح العربية إنما اتجهوا جميعا إلى فكرة النبوة و إلى الأنبياء ، و تركوا الألوهية ، بينما الإلحاد في الحضارات الأخرى كان يتجه مباشرة إلى الله. و لا فارق في الواقع في النتيجة النهائية بين كلا الموقفين لأن كليهما سيؤدي في النهاية إلى إنكار الدين ، فبإنكار الإله عند اليوناني ينتفي التدين ، و بإنكار الإله اللامتناهي عند الغربي ينتفي الدين ، و بإنكار النبوة و الأنبياء عند العربي تزول الأديان. لذا يجب أن نبصر المعنى الخفي المستتر وراء إنكار النبوة ، إذ لا بد أن نفسر هذا الإنكار عالى أنه يتعداها إلى الألوهية نفسها ، لأنه ما دامت النبوة هي السبيل الوحيد الذي تعرفه هذه الروح العربية للوصول إلى الألوهية ، فإنها بقطعها إياه قد قطعت في الوقت نفسه كل سبيل إلى الألوهية كذلك.
و لقد كانت الروح العربية في القرون الثاني و الثالث و الرابع للهجرة قد استنفدت كل قواها و إمكانياتها الدينية الخصبة التي كانت لها من قبل خصوصا في المسيحية و اليهودية و المانوية و الزرادشتية ثم الإسلام الذي توج هذه الأديان كلها بأن أعطى أكمل صورة للدين قدر لهذه الحضارة العربية بلوغها ، فكان لا مناص لها بعد هذا أن تنحدر من تلك القمة و تستفرغ إمكانياتها الدينية حتى تغيض عنها موارد التدين جملة ، و هذا ما تم فعلا في القرن الثالث و القرن الرابع على وجه التخصيص. و كان هذا التطور ضروريا يقتضيه المنطق العضوي للتطور الحضاري ؛ أما العوامل الأخرى فعوامل مساعدة فحسب ، و ليست هي العوامل الحاسمة. و هذه العوامل المساعدة هي الانتقام الشعوبي من جانب المغلوبين و ما يستتبعه من تعصب لدينهم القديم ، لأن العصبية في الحضارة العربية كانت تقوم دائما على أسباب من الدين بحسبان الدين هو العامل الحاسم في تكوين القوميات و الدول في بلاد تلك الحضارة ؛ و هذا يفسر لنا السر في ارتباط الشعوبية بالنزعة الدينية ، إذ الدين هو المظهر الأكبر في التراث القومي و العصبية الشعوبية ؛ أما في الحضارات الأخرى فلم تكن الحال على هذا النحو من التوحيد بين الدين و الدولة ، بل قامت العصبية القومية في تلك الحضارات بمعزل عن كل عصبية دينية ، وفقا للروح الخاصة بكل حضارة و ما نراه من قيمة عليا لديها. و ثاني العوامل هو نزعة التنوير التي نشأت في العالم العربي الإسلامي كنتيجة لانتشار الثقافة اليونانية في تلك الأصقاع ؛ و هي نزعة بدأت من قبل عند نهاية دور الحضارة في الحضارة العربية ، و ذلك في بلاط كسرى أنوشروان مما يتمثل خصوصا عند بولس الفارسي و عند برزويه إن صح الباب المنسوب إليه في كليلة و دمنة . و ما كانت حركة ابن المقفع و ابن الراوندي و ابن زكريا الرازي إلا امتدادا لنزعة التنوير الفارسية هاتيك – و كان شأنها شأن كل نزعة تنوير تقوم دائما على أساس تمجيد العقل و عبادته بحسبانه الحاكم الأول و الأخير و الفيصل الذي لا رادّ لحكمه و لا معقّب لقضائه في كل شيء ، مما يتمثل في النزعة العقلية المتطرفة التي نراها في كل أدوار نزعة التنوير في جميع الحضارات : فهي كانت كذلك عند نزعة التنوير اليونانية لدى السوفسطائيين . و في نزعة التنوير الأوروبية في القرن الثامن عشر لدى النزعة المعروفة بهذا الاسم و التي على رأسها فولتير و كانت ، و الأمر كذلك أيضا (...) بالنسبة إلى كل ممثلي نزعة التنوير من الملحدين في الحضارة الإسلامية العربية ، و بخاصة عند ابن الراوندي و ابن زكريا الرازي.
و تقوم ثانيا على فكرة التقدم المستمر للإنسانية ، و هي فكرة أكدها خصوصا جابر بن حيان في الحضارة العربية و كانت تمثل اتجاها مضادا للاتجاه السني الخالص الذي يرد كل شيء من العلم إلى النبي و يرى في كل تباعد عن عهد النبي تقهقرا في العلم و بالتالي في الحضارة و التمدن ، و هذا يفسر لنا السر في ترتيب العلم ترتيبا تنازليا من عهد النبي فنازلا من الصحابة إلى التابعين ، ثم تابعي التابعين ، و هكذا في طبقات تنازلية يقل حظها من المكانة و العلم و التقدير كلما بعدت عن عهد الرسول. و ما هذا إلا كنتيجة للصورة التي وضعها أهل السنة للتطور المتقهقر ابتداء من الرسول. فجاءت نزعة التنوير ، و بخاصة في اتجاهاتها الإسماعيلية و في المذاهب الغنوصية الإسلامية و المذاهب المستورة في الإسلام عامة ، تؤكد هذا الاتجاه و تنظر إلى الإنسانية على أنها تتقدم باستمرار في خط يسير قدما بغض النظر عن البعد أو القرب من الرسل و الأنبياء.
و تتصل بتلك الخاصية خاصية ثالثة هي النزعة الإنسانية التي ترمي إلى الارتفاع بالقيم الإنسانية الخالصة في مقابل القيم الإلهية و االنبوية ؛ و إنّا لنجدها واضحة تماما لدى الشعراء خصوصا تلك الجماعة المعروفة " بعصابة المُجّان " على حد تعبير ماجنها الأكبر أبو نواس. فما ينسب إليهم من عبث و شك إنما كان يقصد به إلى السمو بكل ما هو إنساني أرضي حسي يشعر بمعنى الأرض ، و إلى الحط من كل ما هو فوق أرضي ، بوصفه وهما زائفا ينتزع الدم و الحياة من الإنسان الحقيقي ، الإنسان الحي المكون " من لحم و دم " ، أي أنه كائن حي عيني يريد أن يعب من كأس الحياة و يلتصق بالأرض ، أمه الحنون الحقيقية ، و ليس خيالا كاذبا أو هيكلا نورانيا مزعوما ينزع إلى الموت و يشيح بوجهه عن الحياة كما يدعى المتدينون. و إن كان من الملحدين مع ذلك من يئس من الظفر بمعنى الأرض فلاذ بنوع من الزهد المذعن كأبي العتاهية ، أو العزوف الكظيم كابن زكريا الرازي.
و أخيرا اتصف تنويرهم بأنه يطلب الحرية بكل ثمن دون أن يعبأ بما سيناله من جرائها ؛ فاندفع الزنادقة يعلنون آراءهم الهدامة بكل شجاعة و صراحة ، على الرغم ممكا كان يتوعدهم به السلطان – أعني الخليفة – من عذاب ، و ما لقيه أكثرهم من اضطهاد. و فضل أغلبهم الاستشهاد فقدموا أرواحهم فداء لتلك الحرية الفكرية التي لم يرضوا بغيرها بديلا ، كما فعل ابن المقفع و صالح عبد القدوس و مئات غيرهم على النحو الذي فصلناه ، و يلوح أن الدولة قد آثرت أخيرا أن تحرم هؤلاء من فخر الشهادة فتركهم أخيرا في النصف الثاني من القرن الثالث ، و طوال القرن الرابع يفعلون ما يشاءون.
و كل هذه الخصائص مجتمعة تكشف لنا عن تيار روحي خطير في داخل الحياة الروحية في الحضارة الإسلامية .
- مقدمة كتاب ( من تاريخ الإلحاد في الإسلام ) لمؤلفه عبد الرحمن بدوي. 1945
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |