محمد بن أبي بكر الرازي - 3 - نقد الكتب المقدسة / عبد الرحمن بدوي
خاص ألف
2010-12-18
و يوجه الرازي عناية خاصة إلى الكتب المقدسة ، فيحاول بيان فسادها بواسطة ما فيها من تناقض و إحالات. و نقده يهدف خصوصا إلى ما فيها من تشبيه و تجسيم ، فيأخذ على التوراة و القرآن و الحديث النبوي هذه الناحية. " فذكر ما في التوراة من ظاهر ما رسمه موسى عليه السلام في ذكر البساط و الخوان و وضع الشحم و الشرب على النار لشمة الرب ( في الأصل السنة ) ، و انه عتيق الأيام في صورة شيخ أبيض الرأس و اللحية ، و ما ذكر عن رواة الحديث و أعلام الأمة ، و نسبهم إلى الجهل. و ذكرهم بالتشنيع ( في الأصل : بالتسبيح ) لرواياتهم الأخبار التي ادعى عليها التناقض و التي تدل على التشبيه ، مثل ما روى عن النبي صلى الله و عليه و آله أنه قال : " رأيت ربي في أحسن صورة ، و وضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثندوتي " ، و ما في القرآن من الآيات التي ظاهر ألفاظها يدل على التشبيه مثل قوله عز و جل : " الرحمن على العرش استوى ( 1 ) " ، و قوله : " و يحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ( 2 ) " ، و قوله : " الذين يحملون العرش و من حوله ( 3 ) " ، و قول رسول الله صلى الله عليه و آله : " جانب العرش على منكب إسرافيل و إنه ليئط أطيط الرحل الجديد..." ( قطعة رقم 9 س 9 – س 20 ).
و لا يعني الرازي هنا أن يحسب حسابا لحركة التفسير العقلي لهذه الآيات و الأحاديث ، و هي الحركة التي قام بها المعتزلة خصوصا في القرنين الثاني و الثالث ، و لعله رأى أن هذا التفسير إنما هو نوع من التأويل إنقاذا لهذه الآيات من ظاهر ما تدل عليه مما يتنافى مع كمال الألوهية ، و هو كملحد لا يعتد بالتأويل ، لأنه في نظره و نظر أمثاله تحايل لا أكثر و لا أقل ، و هم إنما يتجهون إلى الأديان كما هي في نصوصها و كما تبدو عليه.
و لسنا ندري إلى أي مدى قام بنقد الكتب المقدسة الأخرى ، لكن يظهر أنه حاول أن يضرب هذه الكتب بعضها ببعض أولا ، ثم يفصل االقول الإيجابي في نقدها من جانبه هو ثانيا. فهو ينقد اليهودية و آثارها عن طريق المانوية ، إذ يقول أبو حاتم عنه : " و استظهر بدعوى المانية أن موسى عليه السلام كان من رسل الشياطين". و قال : من عني بذلك فليقرأ سفر الأسفار ( 4 ) الذي للمانية ، فإنه يطلع على عجائب من قولهم في اليهودية من لدن إبراهيم إلى زمان عيسى عليه السلام " ( قطعة رقم 10 س 7 – س 10 ) ، كما ينقد المسيحية - فيما يلوح ، و إن لم يظهر في النصوص التي بأيدينا – بما ورد في القرآن من تحريف الإنجيل ، كما أنه ينقد القرآن على أساس ما ورد فيه مخالف لما في المسيحية و اليهودية ، فقال : " إن القرآن يخالف ما عليه اليهود و النصارى من قتل المسيح عليه السلام ، لأن اليهود و النصارى يقولون إن المسيح قتل و صلب ، و القرآن ينطق بأنه لم يقتل و لم يصلب و أن الله رفعه إليه " ( قطعة رقم 12 س 7 – س 9 ). فمن هذا التضارب بين الكتب المقدسة يريد أن يصل إلى هذه النتيجة و هي أنها كاذبة لأن التناقض بين أمثالها يؤذن بكذبها جميعا ما دامت تدعي أنها تعود إلى مصدر إلهي واحد.
و لعل أهم عناية وجهها الرازي إلى الكتب المقدسة كانت تلك المتصلة بالقرآن. فهو يقول : " قد و الله تعجبنا من قولكم إن القرآن هو معجز ، و هو مملوء من التناقض ، و هو أساطير الأولين – و هي خرافات ". و هو هنا يهاجم إعجاز القرآن على نحو مشابه لما فعله ابن الراوندي ، فيهاجمه من ناحية النظم و التأليف ، كما يهاجمه من ناحية المعنى ( 5 ).
أما من ناحية نظم القرآن و تأليفه فإنه يقول : " إنكم تدعون إن المعجزة قائمة موجودة – و هي القرآن – و تقولون : " من أنكر ذلك فليأت بمثله " . ثم قال ( أي الرازي ) : إن أردتم بمثله في الوجوه التي يتفاضل بها الكلام فعلينا أن نأتيكم بألف مثله من كلام البلغاء و الفصحاء و الشعراء و ما هو أطلق منه ألفاظا ، و أشد اختصارا في المعاني ، و أبلغ أداء و عبارة و أشكل سجعا ، فإن لم ترضوا بذلك فإنا نطالبكم بالمثل الذي تطالبونا به ( قطعة رقم 16 س 3 – س 8 ). و الشبه واضح بين هذا القول و بين قول ابن الراوندي : إننا نجد في كلام أكثم بن صيفي أحسن من بعض سور القرآن ، و إن كان الرازي لم يذكر بليغا بعينه. و هذا الطعن في إعجاز القرآن من حيث النظم ينقسم إلى أقسام : من حيث الألفاظ ، و من حيث التراكيب ، و من حيث القدرة على الأداء أي الفصاحة ، و من حيث الموسيقى اللفظية. فيرى أن في كتابات البلغاء ألفاظا أكثر طلاقة ، و لعله يقصد بالطلاقة هنا السهولة و عدم التعقيد اللفظي ، و هو إن لم يشر إلى بلغاء معينين ، فلعله يقصد الألفاظ السهلة التي يستعملها خصوصا كاتب مثل ابن المقفع ، فلعله يعجب بأسلوب علمي كهذا أكثر مما يعجب بالأساليب الإنشائية، نظرا إلى ذوقه العلمي الذي يميل إلى التدقيق و البساطة أكثر ما يميل إلى التفخيم و جلال اللفظ. و ينقد تأليف القرآن ثانيا من ناحية طريقة التركيب ، أي الأسلوب بالمعنى المحدود ، فيأخذ عليه إسهابه و تطويله و تكراره ، و هو هنا أيضا يحكم ذوقه العلمي في الأسلوب ، و لا يعجب بالأساليب المطولة ذوات الفواصل المتكررة المعاني ، لذا لا ينتظر منه أن يعجب بأسلوب كأسلوب الجاحظ . ثم يهاجمه من حيث البلاغة و الفصاحة ، أي القدرة على أداء المعنى المقصود من أيسر طريق. و لقد كان هذا هو المثل الأعلى للبلاغة في ذلك العصر ، خصوصا بتأثير كتاب " الخطابة " لأرسطو و ما قام حوله و تأثر به من دراسات بلاغية كما يظهر من " نقد النثر " لقدامة بن جعفر. و أخيرا يتطرق الرازي إلى الناحية الموسيقية في نظم القرآن فيقول إن في كلام البلغاء ما هو أشكل منه سجعا ، و " أشكل " هنا بمعنى أنضج أي من شأنه أن يكون أكثر موسيقية. و هذا إما بأن تكون الكلمات المسجوعة أقرب في تشابه حروفها الأخيرة ، و لعله لاحظ هنا اعتماد القرآن على الحروف المتقاربة دون المتساوية في بعض الأسجاع ، و إما يكون السجع أقرب إلى العفو و الطبيعة بحيث لا يشعر المرء بأنه مقصود إليه أو معتسف.
أما من حيث المعنى فقد هاجم القرآن من عدة نواح تختلف عن تلك التي هاجمه منها ابن الراوندي. و لا عجب فأبن الراوندي كان يجول في محيط كلامي ديني ، لهذا تركز نقده في هذه النواحي ، أما الرازي فقد كان يجول في جو علمي. و هذه النواحي التي هاجم منها الرازي هي أولا أن القرآن مملوء بأساطير الأولين ، و ثانيا أن فيه تناقضا بين بعض أجزائه و بعض ، و ثالثا أنه لا توجد فيه فائدة. قاتل الرازي : " قد و الله تعجبنا من قولهم في حكاية أساطير الأولين ، مملوء مع ذلك تناقضا ، من غير أن تكون فيه فائدة أو بينة على شيء " ( قطعة رقم 16 س 8 – س 10 ).
و فيما يتصل بالناحية الأولى لا نجد في النصوص التي بين أيدينا ما يفصل القول فيها لكن يمكن افتراض أن نقده هنا إنما سحبه من التوراة على القرآن ، فبعد أن بين أن الأقوال الواردة في التوراة أسطورية ، قال إنها هي التي رددها القرآن ، فهو الآخر مملوء بأساطير الأولين التي هي خرافات ( قطعة رقم 11 س 2 ). و نقده للتوراة يتصل بنبوءات النبي دانيال خصوصا ، كما يذكر أبو حاتم. و كم كان بودنا أن نعرف كيف قام الرازي بهذا النقد التاريخي ، كيما نطلع على هذه الناحية من نواحي نشاطه العقلي.
و لقد بينا من قبل الناحية الثانية من هذا النقد ، و نعني ما أشار الرازي إليه من تناقض في القرآن ، و ذلك خصوصا بمسألة التجسيم و التشبيه و ما يخالف هذا من نعت القرآن لله بأنه " ليس كمثله شيء ( سورة 42 : 9 ) ، ثم الآيات المتصلة بالجبر و الأخرى التي تقول بالاختيار.. و لعل الرازي قد استقى هذه المسائل من كتب الكلام نفسها.
و الناحية الثالثة هي التي يوجه إليها الرازي كامل عنايته ، على الأقل فيما يبدو من النصوص التي لدينا. فهو يريد أولا أن يرد على الخصم حجته ، هذا الخصم يقول : " من أنكر ذلك ( أي إعجاز القرآن ) فليأت بمثله " ، فيقول الرازي : و نحن نقول لكم كذلك إئتونا بمثل ما في كتاب أصول الهندسة و المجسطي و غيرهما. قال الرازي : " إنا نطالبكم بالمثل الذي تزعمون أنا لا نقدر أن نأتي به " ، و هو بهذا التحدي يشير إلى أن الحجة نفسها ترتد على الخصم ، فليس في وسع أحد أن يأتي تماما بما أتى به آخر.
و هو يريد ثانيا أن يبين أن هذه الكتب العلمية و أمثالها أكبر فائدة و نفعا من القرآن و الكتب الدينية عامة ، لأن في الأولى من العلم ما فيه فائدة للناس في معاشهم و أحوال دنياهم ، بينما القرآن ( و كذلك الكتب الدينية الأخرى ) لا تفيد شيئا . فإن كان لا بد من التحدث عن الإعجاز و الحجة ، فالأولى بهما أن يعزيا إلى مثل هذه الكتب النافعة. قال الرازي : " و أيم الله لو وجب أن يكون كتاب حجة ، لكانت أصول الهندسة ، و المجسطي الذي يؤدي إلى معرفة حركات الأفلاك و الكواكب ، و نحو كتب المنطق ، و كتب الطب الذي فيه علوم مصلحة للأبدان – أولى بالحجة مما لا يفيد نفعا و لا ضرا و لا يكشف مستورا ، يعني به القرآن العظيم. و قال أيضا : و من ذا يعجز عن تأويل الخرافات بلا بيان و لا برهان إلا دعاوى أن ذلك حجة؟ و هذا باب إذا دعا إليه الخصم سلمناه و تركناه و ما قد حل به أن سكر الهوى و الغفلة مع ما إنا نأتيه بأفضل منه من الشعر الجيد و الخطب البليغة و الرسائل البديعة ما هو أفصح و أسجع منه. و هذه معاني تفاضل الكلام في ذاته ، فأما تفاضل الكلام على الكتاب فللأمور كثيرة فيها منافع كثيرة ، و ليس في القرآن شيء من ذلك الفضل ، إنما هو في باب الكلام ، و القرآن خلو من هذه التي ذكرناها " ( قطعة رقم 17 س 1 – س 11 ).
فنقد الرازي هنا يتجه إذا إلى بيان ما في الكتب العلمية من نفع لصلاح معاش الناس في دنياهم ، بينما لا يوجد في الكتب الدينية ، فهي أكثر فائدة إذا من الكتب الدينية. و هنا نشاهد في رد أبي حاتم على أبي بكر الرازي صاحبنا تلك الظاهرة التي نجدها في العالم الأوروبي اليهودي و المسيحي ، خصوصا عند فيلون اليهودي و القديس أوغسطين في " مدينة الله " و عند روجر بيكون ، و نعني بهذه الظاهرة نسبة العلوم التي اكتشفت إلى وحي الله على لسان الأنبياء ، و ما العلماء و الفلاسفة إلا آخذون متلقون عن هؤلاء الأنبياء الذين أوحى الله إليهم هذه العلوم.
فبينما الرازي يقول : " إن الفلاسفة استدركوا هذه العلوم بآرائهم و استنبطوها بدقة نظرهم و ألهموا ذلك بلطافة طبعهم – يعني ما في كتب الطب من معرفة طبائع العقاقير و الخصوصيات التي فيها. و ما في المجسطي و بطليموس من معرفة حركات الفلك و الكواكب و حساب النجوم و ما فيه من اللطائف و الأحكام ، و ما في إقليدس من علم الهندسة و المساحات ، و معرفة مقدار عرض الأرض و طولها و مسافة ما بين السموات و غير ذلك مما في هذه الكتب. فزعم الملحد ( أي الرازي ) أن ذلك كله باستنباط و إلهام ، و أنهم استغنوا عن أئمتنا في ذلك ، يعني الأنبياء عليهم السلام. ثم افتخر و قال : إن نفعها و ضرها أكثر من نفع كتب الشرائع و ضرها ، و تحجج بذلك. ثم قال : أخبرونا أين ما دلت عليه أئمتكم من التفرقة بين السموم و الأغذية ، و أفعال العقاقير ؟ أرونا منه ورقة واحدة كما نقل عن بقراط و جالينوس الآلاف لا الآحاد ( أي من الأوراق ) ، و قد نفع الناس و أرونا شيئا من علوم و حركات الفلك و علله نقل عن رجل من أئمتكم أو شيئا من الطبائع اللطيفة الطريفة نحو الهندسة و غير ذلك من أمر اللغات. لم تكن معروفة ، اخترعها أئمتكم؟ ثم قال : إن قلتم إن هذا كله أخذ أصله من أئمتنا ، قلنا هذه دعوى غير صحيحة و لا مسلمة لكم. و إنا لنعرف ما تدعون أنه من أئمتكم ، و هو الضعف الوتح ( اي القليل التافه الخسيس ) الذي شاع ذكره في عوام الناس و خواصهم. ثم قال : فإن قلتم : فمن أين عرف الناس أفعال العقاقير في الأبدان و حركة الفلك ، و بأي لغة تدعى إلى اختراع اللغات ؟ فإن لنا في ذلك أقاويل تستغنى عن أئمتكم ، فمنها ما تكون مستخرجة على رسومها المعروفة المشهورة عند أهلها كالأرصاد للنجوم و معرفة أفعال العقاقير في الأبدان و معرفة علومها و قوامها بالطعوم و الأراييح ، و منها ما أخذت أولا عن أول إلى نهاية الزمان ، و منها أن تكون معرفتها بالطبع كما يحسن الإوز السباحة من غير تعليم من أئمتكم و يدحض الاحتجاج الذي احتججتم به ( 6 ) – بينما يقول الرازي هذا مفسرا كيفية نشأة العلوم نرى أبا حاتم يرد عليه قائلا : " و أما هذه الكتب التي ذكرها و ذكر أنها ( نقلت ) عن أئمتهم ( أي الفلاسفة و العلماء ) فانا نقول : إنها من رسوم الحكماء الصادقين المؤيدين من الله ( ع ج ) ، و ليس اسم أئمتهم فيها إلا عارية. و هذه الأسماء التي نسبت هذه الكتب إليها مثل جالينوس و بقراط و إقليدس و بطليموس و غير ذلك مما يشاكلها فهي أسماء كني بها عن أسماء الحكماء الذين وضعوا هذه الكتب ، و هذه الكتب هي مبنية على الحكمة الصحيحة و الأصول المنتظمة. و قد كنت ناظرت االملحد ( اي الرازي ) علي أشياء هي في كتاب بليناتس ، و قد ذكر لنا أن صاحب هذا الكتاب محدث و أنه كان في هذه الشريعة ( أي الإسلام ) و تسمى بهذا الإسلام و وضع هذا الكتاب – و قد ذكرنا شيئا من كلامه و الأمثال التي ضربها كتابه – فذاكرت الملحد بذلك فقال : هذا هو صحيح و قد عرفناه ، و اسم هذا الرجل فلان ، و كان في أيام المأمون و كان حكيما متفلسفا. و هذا كنا سمعناه من غيره. فهذا الرجل سلك سبيل أولئك الحكماء و القدماء ، و تسمى بهذا الاسم الذي يشاكل تلك الأسماء ، و كلامه من ذلك االنوع ، و لكنه قد جود االقول في التوحيد و رد على أصحاب الإثنين الملحدين ... و هكذا كان سبيل سائر الحكماء الذين تسموا بهذه الأسماء " ( قطعة رقم 20 س 1 – س 17 ).
من هذا الاقتباس الطويل ( 7 ) يتبين لنا أن الرازي يرى أن العلوم إنما استخرجها الفلاسفة و العلماء بعقولهم ، و هي كافية لتحصيلها كما روينا من قبل في وصفه للعقل ، و لا حاجة إلى الأنبياء من أجل هذا التحصيل ، كما أنه لم يرد عن الأنبياء شيء في هذا الباب ، ثم يوضح طرق تحصيل العلم فيردها إلى ثلاثة : التحصيل العقلي وفقا لقواعد البحث و البرهان الممعروفة ، و النقل من السلف إلى الخلف و هكذا إلى غير نهاية بالرواية الصحيحة كما هي في علم التاريخ ، و الفطرة و الغريزة اللتان بهما يدرك الإنسان ما يحتاج إليه في معاشه و بقائه دون معلم و لا إعمال ذهن و لا تلقين من رواة. و لقد كان الرازي موفقا حقا في حصر طرق العلم هذه و إن كان لم يأت فيها بجديد غير ما هو معروف في مقدمات الكتب المنطقية ، فيما عدا الطريق الثاني ، طريق الرواية التاريخية. و على العكس من هذا نرى أبا حاتم الرازي يعنى برد هذه العلوم و المعارف كلها إلى الأنبياء و الأئمة ، و قد كان واجبا عليه أن يقف هذا الموقف لأنه إسماعيلي ، و قد رأينا نظرية الإسماعيلية في التعليم و كيف أنها ترد العلوم كلها إلى الأئمة المعصومين ، فكان طبيعيا أن يناضل عن هذا الرأي. و الطريف حقا هو تفسيره لنسبة هذه العلوم المعروفة إلى أمثال جالينوس و إقليدس و بقراط و بطليموس ، فهو يزعم أن هذه الأسماء ما هي إلا أسماء مستعارة " كنى بها أسماء الحكماء الذين وضعوا هذه الكتب ، و هذه الكتب هي مبنية على الحكمة الصحيحة و الأصول المنتظمة " ، أي على الوحي الذي تلقاه الأنبياء عن الله ، و يضرب لهذا مثلا بما جرى لكتاب بلنياس ( 8 ) من أن مؤلفه رجل محدث كان في عهد المأمون و أنه ألف الكتاب و نسبه إلى اسم بانياس ، مستعيرا هذا الاسم ، و كذلك فإن الأسماء المذكورة على أنها أسماء مؤلفي الكتب العلمية هي أسماء مستعارة ، و الواقع ان الكتب للأنبياء و مأخوذة عما تلقوه من وحي.
و هذا التفسير بعينه هو الذي نجد نظيره عند فيلون ( 9 ) و أوغسطين و روجر بيكون ، و هو الموقف الديني الذي لا بد أن يقفه رجل الدين في دفاعه عن حكمة الأديان ضد حكمة العلماء الدنيويين. و لذا لم يكن غريبا أن نجد تشابها كاملا في الموقفين بين العالم اليهودي و العالم المسيحي و العالم الإسلامي ، و أكد هذه الظاهرة في الإسلام مذهب الإسماعيلية بما تقتضيه نظرياته في الإمام المعصوم و التعليم. و هذا هو الأصل فيما نجده في كتب تواريخ العلماء و الحكماء في الإسلام من نسبة بعض العلوم إلى الأنبياء مثل إدريس الذي يقال إنه هرمس ( 10 ) . و لعلنا نعود إلى تفصيل هذه الظاهرة الإسلام و نتابع تطورها في فرصة أخرى ، مكتفين هنا بتسجيلها فحسب.
و الرازي يثير أيضا على هامش تلك المسألة العامة في نقد القرآن و الكتب المقدسة مسألة اللغات و كيف نشأت و قد رأيناها مفصلة بعض التفصيل في مقال كروس عن ابن الراوندي ( ص 122 – ص 126 ) و عرفنا قول الرازي و ما يثيره من مسائل ، فلا داعي إلى العود.
و من هذا كله يتبين لنا أن الرازي في نقده للقرآن من حيث المعنى قد عني خصوصا ببيان ما فيه من فوائد تتصل بأحوال الناس في حاجاتهم و معاشهم و عارضها بما في كتب العلماء و الحكماء من فوائد أجزل و أكبر في: نه يقف نفس الموقف الذي نشاهده لدى الملحدين من العلماء في العصر الحديث و بخاصة في القرن الثامن عشر و النصف الأول من القرن التاسع عشر ، و في وسع المرء أن يعقد مقارنات طريفة بين هذا الموقف و موقف مفكر حر آخر مثل فولتير : فكلاهما مؤمن بالعقل و مؤمن بالألوهية ، و كلاهما كافر بالأنبياء و الأديان خاصة على اختلافها ، و كلاهما كان متشائما يرى الشر في الوجود أكثر من الخير : أما فولتير فقد عبر عن رأيه هذا مرارا خصوصا في قصيدته التي نظمها عن " زلزال لشبونة " أما الرازي فرأيه هذا مثبوت في كتبه خصوصا في مواضع متفرقة من " الطب الروحاني " و مقالته في اللذة بعنوان " كتاب اللذة" ، و كذلك في كتاب " العلم الإلهي " إذ يذكر موسى بن ميمون في " دلالة الحائرين " ( جـ 3 ف 12 ، جـ 3 ص 18 من طبعة منك ، باريس سنة 1836 . انظر : رسائل فلسفية لأبي بكر الرازي ، نشرة كروس ، ص 179 – ص 180 ) أن " للرازي كتابا مشهورا وسمه بالإلهيات ضمنه من هذياناته و جهالاته عظائم ، و من جملتها غرض ارتكبه : و هو أن الشر في الوجود أكثر من الخير ، و أنك إذا قايست بين راحة الإنسان و لذاته في مدة راحته ، مع ما يصيبه من الآلام و الأوجاع الصعبة و العاهات و الزمانات و الأنكاد و الأحزان و النكبات – فتجد أن وجوده – يعني الإنسان – نقمة و شر عظيم طلب به. و أخذ أن يصحح هذا الرأي باستقراء هذا البلايا ليقوم كل ما يزعم أهل الحق من إفضال الإله وجوده البين و كونه تعالى الخير المحض ، و كلا ما يصوره محض بلا شك". و هو قول يشبه تماما قول بيرن : " عد ساعات سرورك ، و عد أيامك الخوالي من البلبال فأيا ما كنت ، اعترف بأن ثمت ما هو أحسن منه هو أن لا توجد " ( 11 ).
و قد بسط الرازي آراءه في شقاء الدنيا من هذه الناحية في فلسفته في اللذة و الألم التي عرضها في كثير من مقالاته و كتبه. بيد أننا لا نستطيع الجزم بموقف الرازي من العناية الإلهية ، و ذلك لأننا نراه يؤمن بوجود خالق حكيم ، إذ له كتاب بهذا العنوان " كتاب أن للإنسان خالقا حكيما " ( " الفهرست " لابن النديم ص 416 س 18 من الطبعة المصرية سنة 1929 ) ، ثم نراه يقول هذا صراحة في مناظرته مع أبي حاتم ( 12 ) و يشير إليه في مواضع متفرقة ، مما يدل على أنه كان فعلا يؤمن بوجود خالق حكيم ، و لكننا لا نستطيع أن نؤكد : أكان الرازي يدخل العناية ضمن حكمة الله أم كان يخرجها منها بحسبان الحكمة لا تقتضي بالضرورة العناية ، أو على الأقل العناية الجزئية الخاصة ببني الإنسان ؟ و لو كان لنا أن نرجح لقلنا إن مجرى تفكيره العام يفضي به إلى إنكار العناية الإلهية.
هوامش المؤلف :
1 – سورة 20 : 4 .
2 – سورة 96 : 17 .
3 – سورة 40 : 7 .
4 – هكذا في الأصل و الصواب : سفر الأسرار ، و هو كتاب ماني الرئيسي و في الفهرست لابن النديم بيان أبوابه ( الفهرست ، ص 470 س 9 و ما يليه ، طبعغ مصر سنة 1929 ).
5 – انظر فيما قبل.
6 – قطعة رقم 19 س 4 – س 27 .
7 – أطلنا في الاقتباس لأن النص المنشور في مجلة أورينتاليا من الصعب الحصول عليه.
8 – راجع فيما يتصل بهذذه الفقرة ما قاله كروس في : جابر بن حيان ، ج 2 ص 274 – 275 ، القاهرة سنة 1942
P Kraus : Jabir ibn Hayyan انظر المقال السالف عن جابر.
9 – راجع كتابنا : خريف الفكر اليوناني ، ص 127 ، القاهرة سنة 1943 .
10 – انظر ابن القفطي : إخبار العلماء بأخبار الحكماء ، ص 2 و ما يليها ، طبع مصر سنة 1326 هـ = سنة 1908 .
11 – راجع كتابنا : شوبنهور ، ص 208 ، الطبعة الثانية ، القاهرة ، سنة 19456 .
12 – رسائل فلسفية للرازي ، ص 295 س 14 – س 15 .
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |