محمد بن أبي بكر الرازي – 4 – خاتمة / عبد الرحمن بدوي
خاص ألف
2010-12-26
و بالجملة كان الرازي ممن ينكرون النبوات للأسباب التي فصلناها في أول هذا البحث ، و يرى أن العقل الإنساني كفيل وحده بهداية الإنسان إلى السبيل القويم في حجياته ، و ما دام كذلك فإن مبدأ الاقتصاد في الفكر و التقدير يدعو إلى إنكار النبوة ، لذا يقول : " أخبرونا هل يكون مصيبا من وجد إلى أمر طريقين فسلك الأطول منهما و الأوعر ؟ و هل يكون مريدا للأفضل و الأصلح من يجد إلى تعريف شيء من وجهين سبيلا ، فيعرفه من أعسرهما و أبعدهما و أكثرهما ريبا و شكوكا و جلبا لسوء العواقب ، و يدع ما خالف هذه الوجوه ؟ فإن قلتم : لا ، قلنا : فهلا ألهم الله عباده معرفة منافعهم و مضارهم في عاجلهم و آجلهم . أما في عاجلهم فلتصديق كل أمة إمامها و ضرب بعضهم وجوه بعض بالسيف و اجتهادهم في ذلك". ( قطعة 14 س 1 – س 9 ) . فكأن الخير و الحكمة كانا يقتضيان عدم إرسال الأنبياء حتى لا تقع الفرقة بين الناس ، و لعله هنا يريد أن يعارض الآية : " و لو شاء الله لجعلكم أمة واحدة " ( سورة 5 : 53 ) ، إذ " لو لا ما انعقد بين الناس من أسباب الديانات لسقطت المجاذبات و المحاربات و البلايا ، لأن المنازعات تقع إما لعاجل أو لآجل. و أورد كلاما طويلا في هذا الباب ، و لكن هذه جملته ( قطعة رقم 14 س 9 – س 11 ) ، و كنا نود أن نرى هذا الكلام بالتفصيل ، لنرى إلى أي حد حاول أن يرد على من يؤيدون النبوات أسبابا اجتماعية إصلاحية ذاكرين ما يعود على الناس من فوائد في جماعتهم إن اعتنقوا الأديان و تمسكوا بأوامرها و نواهيها. و هو بهذا لم يدع وجها من أوجه الدفاع عن النبوة إلا هاجمه أو أخضعه لنقد صارم ، خصوصا هذه الناحية المصلحية البرجمتية التي تضاف إلى النبوة حتى مع افنتراض عدم صحتها من الناحية النظرية ، و كأن هذه الفوائد العملية التي تترتب عليها تغني عن البحث في صحتها من الناحية النظرية. و يلوح أنه تناول طويلا هذه الناحية إذ نراه بعد هذا يرد على معترض ينسب هذا التنازع و تلك المحاربات إلى الناس و المعتنقين للديانات ، لا إلى نفسها ، فيقول : " إن قلتم إن المجاذبات و المحاربات من أجل إيثارهم أعراض الدنيا ، قلنا لكم : هل رأيتم أحدا آثر القليل على الكثير إلا لشك منه في نيل الكثير ؟ فإن قلتم : نعم ، كابرتم ، و إن قلتم لا ، فكذلك إيثار المؤثر لأغراض الدنيا و شهواتها على الأمور الجليلة و الثواب العظيم القدر الذي يعجز الواصفون عنه – ليس ذلك إلا لشك منه في نيل ذلك الكثير العظيم الدائم الذي يعجز الواصفون عنه ( لاحظ ما هنا من تهكم ) ، كما نرى الرجل يؤثر المائة الدينار على الألف إذا خاف فوت المائة و الألف ، و إذا كان مستيقنا أنه يصل إلى الألف مع ترك المائة فإه لا يرى أخذ المائة . قال : و كذلك لو أن الناس أخلصوا اليقين بقول أئمتكم فيما و عدوهم من الثواب الجزيل لما آثروا القليل من عاجلهم على الكثير من آجلهم ( القطعة نفسها ، س 12 – س 21 ). و على فإن الرازي يرى أنه حتى من الناحية العلمية -- البرجمتية – لا فائدة في النبوات و الأديان ، فإن أضفت هذا إلى بطلان النبوة من الناحية النظرية ، ثبت – في رأيه – فساد النبوة إطلاقا.
الرازي إذا يؤمن بإله خالق حكيم ، و لكنه لا يؤمن بالنبوة و الأديان ، و ينزع نزعة فكرية حرة من كل آثار للتقليد أو العدوى ، و يؤكد حقوق العقل و سلطانه الذي لا يحده شيء و ينحو منحى تنويريا شبيها كل الشبه بحركة التنوير عند السوفسطائيين اليونانيين ، و خصوصا بحركة التنوير ( 1 ) في العصر الحديث في القرن الثامن عشر ، و يدعو إلى إيجاد نزعة إنسانية خالصة خالطتها روح وثنية حرة ، مما يجعل من الرازي شخصية فكرية من الطراز الأول ، و واحدا من أحرار العقول النادرين في التاريخ ، و من أجرأ المفكرين الذين عرفتهم الإنسانية طوال تاريخها ، و لا يسع المرء إلا أن يمتلئ إعجابا بهذا الجو الطليق الذي هيأه الإسلام للفكر في ذلك العصر ، مما يدل على ما كان عليه العقل الإسلامي في ذلك العصر من خصب و نضوج.
أترى يتحقق مثل هذا الجو مرة أخرى في حضارتنا العربية التي نأمل في إيجادها؟
هوامش المؤلف :
1 - راجع وصفها و خصائصها في كتابنا : نيتشة ص 111 و ما يليها ، الطبعة الثانية ، القاهرة سنة 1945 .
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |