من الصعب فهم المأزق الحضاري الذي يعيشه المجتمع العربي اليوم دون دراسة متعمقة لتاريخ الدولة العثمانية، هذه الدولة التي بنت الجيش الانكشاري، أو اليني شهري، أو الجيش الجديد المسلح، حسن التدريب والذي استطاعت به قهر العالم الإسلامي، والعربي، والأوروبي الغربي حتى فيينا، هذا الجيش كان عماد صعودها العسكري والسياسي والإمبراطوري، ولكن الجيش الانكشاري ككل مؤسسة بشرية إن لم تطوَّر وتحدَّث تتحول إلى عبء على الحياة وعلى المجتمع، وهذا ماوصل إليه المجتمع العثماني بكافة تلاوينه بعد انحطاط الجيش الانكشاري والمؤسسة الإمبراطورية العثمانية ككل، فتحولت المجتمعات العثمانية وعلى رأسها العربية إلى مجتمعات متكلسة تخلت عن إشراقات الهلينستية، وجماليات الأموية، وانتصارات الأيوبية، وأخذت في الانهيار حتى تحولت إلى كتل متراصفة، متعادية، متحاربة، لا لشيء إلا لفقدان الهدف الحضاري للمجتمع ككل.‏
في القرن التاسع عشر وبعد الاختلاطات القهرية مع الغرب، قناصل، ومستشرقين ورحالة، وإرساليات اختصَّت كل منها بمجموعة سكانية تعلمها، وتقودها إلى الغربنة على طريقتها، وليس عبثاً أنَّ الكاتب الكبير ميخائيل نعيمة كان من أوائل المتعلمين في روسيا القيصرية الأرثوذكسية وهو الأرثوذكسي، وليس عبثاً أنَّ فارس الشدياق الذي تحول أخوه إلى البروتستانتية، فسجنه البطريرك الماروني واضطهده حتى مات في السجن، فغضب فارس، وتحول إلى الإسلام حتى ينجو من انتقام البطريركية المارونية، ثم مضى إلى فرنسة وإنكلترة وقام بترجمة الكتاب المقدس إلى العربية بالتعاون مع الإرساليات البروتستانتية، ثم حين عاد إلى استانبول كان من أوائل التنويريين الشاميين وماكتابه (الساق على الساق) وهو من أوائل كتب السيرة الشخصية المكتوبة روائياً وبالضمير الثالث أي (هو) إلا الرد على تحجر العلاقات الدينية في الشرق وتوقفها عن دورها التنويري وتحولها إلى ماكينات جباية، وحصار لمنتسبيها خوفاً من ضياع الرعية، وقد شرحنا في مقال سابق أن كلمة الرعية تعني الدواب التي يرعاها الراعي.‏
في القرن التاسع عشر هذا بدأت الثورة المعرفية في إيتاء أكلها في الشام، فبعد الثورة المعرفية المصرية الهائلة بعد غزوة بونابرت، وإرسال محمد علي للطلاب المصريين إلى فرنسا، ثم نقلهم المعارف الجديدة. وبعد احتضانه وإلجائه لرجال نابليون الذين عاداهم ونقم عليهم الملك لوي الثامن عشر ومن تلاه في اعتبارهم رجال النظام البائد.‏
لجأوا إلى مصر فحدثُّوها عسكرياً وتقنياً، ثم في شق القنوات، وإقامة القناطر الخيرية، وترجمة الكتب التي قام بها الطلاب العائدون وعلى رأسهم نبي التحديث الأزهري رفاعة رافع الطهطاوي، ثم علي باشا مبارك والقائمة طويلة.‏
وكان احتلال، أو فتح، أو تحرير مصر للشام حدثاً انفجارياً زلزل سكونية المجتمعات المتعايشة كرهاً، وقدّم نموذجاً جديداً للتعايش، إنه شراكة المواطنة، الشراكة التي لاتهتم بدين، أو مذهب، أو عرق، فالوطن لأبنائه العاملين بإخلاص له....‏
هذا التحديث لم يلبث أن قذف إلى الساحة بعدد كبير من الأسماء الشامية التحديثية، وعلى رأسهم أبو خليل القباني. فمن هو هذا القباني؟‏
يكفي أن نعرف أنَّ عبد الحميد قد أعلن الخلافة الإسلامية بعد خفوتها عثمانياً لأربعة قرون وادّعاها، وأقام مشيخة للإسلام جعل على رأسها الشامي أبو الهدى الصيادي وصار السلطان ظل الله على الأرض.‏
فما الذي فعله القباني، فأثار عبد الحميد، لقد خرج بالإنسان من شيء ثنائي الأبعاد يجسده مايسمى بالكراكوز وعيواظ الصورة ذات بعدي الطول والعرض فقط، فلا عمق، ولا ظل، ولا ارتباط بصرياً له بالعالم الخارجي إلى التمثيل الحي، إلى إنسان كامل الأبعاد ثلاثيِّها... لقد قال مسرح القباني: إن الإنسان مخلوق منفصل عن سلطانه، لقد قال: إن الإنسان حتى العامي منه مثل أبو حسن المغفل في مسرحيته المسماة بهذا الاسم، مخلوق يستطيع أن يكون السلطان الأفضل من السلطان القائم لو أتيحت له الفرصة، وقد أتاحها القباني في لعبته الدرامية لأبو حسن المغفل، أفليس هذا كافياً لغضب المؤسسة العثمانية المتخشبة، الخائفة من تحرك العامة المبعدين عن أي دور سياسي، أو ثقافي، أو اجتماعي لقرون...‏
ملحق ثقافي
3/3/2009م