أنوثة المتخيل الشعري في قصائد سوزان إبراهيم / أحمد حسين حميدان
2011-01-08
في مجموعتها الشعرية الجديدة اختارت الصحفية والإعلامية الزميلة سوزان إبراهيم أن تبدأ خطابها للمرأة وللقارئ بصفة عامة بالإعلان على صدر غلافها " كثيرة أنتِ " وهو عنوان ملتبس مفتوح الدلالة على مقاصد مختلفة ومتباينة بين قيمة المرأة الإنسانية وبين تاريخها الذي مرت من خلاله بأطوار متعددة.. فهل هي كثيرة حتى ولو كانت واحدة بصيغة المفرد باعتبارها كمالة المعادلة الإنسانية وشريكة أساسية فيها, أم أنها كثيرة بأناها الجمعية وبمكانتها المدونة بنقائضها عبر الأساطير والفنون والآداب.. فهي الآلهة قبل الأديان وهي الحبيبة وهي الأَمة المسبية وهي الملكة والأميرة من بلقيس إلى حتشبسوت وكليوباترا وشجرة الدر وزنوبيا...هي كثيرة إذاً بشهادة التاريخ, فهل ذهبت سوزان إبراهيم بشهادة هذا التاريخ في اختيار عنوان مجموعتها الشعرية " كثيرة أنتِ " وأوغلت بملامحه السحيقة سعياً منها لتذكير بنات جنسها بعلو كعب شأنهن لتوقد في صدرهن شعلة الفعل والتحرر من الهامش الحياتي الذي أسرنَ بأغلاله باعتبار أن التاريخ هو تاريخ الروح والحرية كما يقول كروتشة وهيغل وهي تخرج من هذا التاريخ متأبطة حيرتها من تباين مكانة النساء ماضياً وحاضراً متسائلة:
كثيرة أنتِ
نساء في امرأة
فمن أسجن, ومن أنفي؟
من أكره منهن, ومن أحب.. ص11
ثمة مفارقة حادة إذاً في الملامح التاريخية والإنسانية للمرأة تمضي إليها سوزان إبراهيم وتأخذها من مخزونها الجمعي وتدفع بها إلى ذاكرة القصيدة بمرارة باعتبار أن المسافة بين كل منها جارحة في تبايناتها وهي في السياق الذي تمضي فيه لا تذرف الحسرة على مكانة المرأة الملكة كما أنها لا تنظر بعين الرضا إلى صورتها المعاصرة التي تبدو في غالب المشهد الراهن أكثر امتداداً في البؤس, وهي في مسعاها الذي تنشد من خلاله الخلاص من هذا البؤس لا تتوجه في نصها الشعري إلى خطاب الرجل لتحميله أسباب الحالة المتردية للمرأة كما يفعل الخطاب النسوي في كثير منه بل تختار في توجهها ناحية المرأة نفسها في الخطاب محملة إياها مسؤولية المآل الذي بلغته جراء إذعانها للظلم وباعتبارها شريكاً اجتماعياً مساهماً في تلوين الأنوثة القادمة من رحمها وفق المجتمع وأناه الذكورية وهو ما يذكّر بما ذهبت إليه من قبل غادة السمان منذ بواكيرها في مجموعتها " عيناك قدري " كما يعيد إلى الأذهان ما أكدت عليه سيمون دوبوفوار في قولها في كتابها " الجنس الثاني " نحن لم نولد نساء هكذا..في سياق ذلك تكرر سوزان إبراهيم الرؤية المراهنة على المرأة الفاعلة التي تبلغ وحدها حريتها الحقيقية وحضورها المنشود الذي لا ينوب عنها أحد في تحقيقه إلا هي لذلك تجعل صوت الأنوثة الرافض لحالتها الراهنة المتردية هو المعول عليه وتوجهه بداية في علوه ضد الأنوثة المذعنة " للأنا " الاجتماعية ولقيودها معلنة ذلك على نحو صريح قائلة:
امرأة أنا يا أمي / صندوق عرسكِ لا يلزمني / أكره أساوركن / قلائدكن / خواتمكن /
وكل ما يشتهي الإحاطة بي.. ص13
إن الجملة الشعرية عبر هذا الفحوى تأخذ بقصائد سوزان إبراهيم نحو مخالفة طبائع النساء في إعلانها كره ما يحببنه من أساور وقلائد لتتمكن من استثمارها لصالح نشدان الحرية بعد أن جعلت الشكل الدائري لأدوات الزينة معادلاً رمزياً للقيد إلا أن البناء الشعري فيها لا يحقق هذه المخالفة ولا يغامر في استحداث تراكيب لغوية غير معهودة يمكن أن تومض بصورة أخرى غير مألوفة بل ظل في معظم تكوينه منشغلاً في إيقاظ المعنى الموجه لرسم ملامح " الأنا " الفردية للأنوثة الغائبة في مجاهيل " الأنا " الجمعية المذكرة عبر بنية شاعرية سردية مكثفة ومستقطرة استفادت سوزان إبراهيم من تجربتها القصصية في إنجازها لتمضي من خلالها في نشدان ذات المرأة الضائعة والمأخوذة في غيابها القديم الذي جلبتها منه لتقابل بها الذات الذكورية التي رأتها بأنها أوغلت في طغيانها ووحدانيتها المتضخمة في المشهد الحياتي لذلك في الوقت الذي نقلت فيه عن صوت هذه الذكورة: أشهد أن لا أنا إلا أناي/ المبشر بالخلود/ أنا المفرد.. قابلته بصوت أنثوي يعلن: " لعشرة سنوات ذهبن/ حاولت فيهن/ أن أكون أنا " ص5.. إذاً ذات بذات, وحضور بحضور لتبدو الصورة الإنسانية بكمالتها المشتهاة التي تحلم بها قصائد " أنتِ كثيرة " والتي تهمس عبر فحواها للآخر المذكر:
في غيابكَ تجالسني الوحدة / أشكوكَ إليّ / فألومني..وأغفر لكَ / مازلتُ وطنكَ /
مازلتَ غربتي! / تعبت أن أكون أنتَ /أنا ما تغيرتُ / بل عدتُ إليّ.. ص90
إننا لا نبالغ إذا قلنا بأن المحور الرئيس الذي نهضت عليه ـ ومن أجله ـ قصائد مجموعة " كثيرة أنتِ " في مبناها وفي معناها هو استحضار " أنا " الأنوثة من تغييبها القديم ومن غيابها الحديث في آن. وهو ما ذهبت إلى تبيانه سوزان إبراهيم على صدر مجموعتها الذي اختارت عليه ضمير المخاطب الحاضر " أنتِ " جاعلة الكثرة في المدخل المركزي لقصائدها مقترناً بهذا الضمير وليس بضمير " هي " الذي يفاد من استخدامه خطاب الغائب وهو ما اعتمدت عليه مرة أخرى في متن القصائد التي تناولت فيها القضايا الوطنية والقومية وأزماتها كالاحتلال الأمريكي للعراق وتخاذل النظام الرسمي العربي إزاء ما يحصل فاستدعت من تاريخ القبائل زرقاء اليمامة وليلى وبثينة لتشكو لهن عقم فعل الذكورة المعاصرة كما استدعت من خلال التناص مع القرآن الكريم امرأة العزيز وهاجر لتستنجد بها في زمّ النفط والدم العربي المراق, مؤكدة أن الراهن يتمثل أسوأ حالاتنا صارخة كمن يطلق نداء استغاثة وهو على شفير الهاوية:
بين الماء والماء/صوت الزرقاء يتصادى/أبطال يتقنون الرقص/وألف ذيل تحت إبط غفلتهم
رباه أينكِ هاجر! / هاجر اضربي برجليك أرضاً تميد / زمّي بأصابعكِ بئر النفط والدماء..
ويا امرأة العزيز, إنا نعتذر / كلُّ القمصان قدت من دبر..ص80
على هذا النحو المباشر تعاظم حضور المرأة في قصائد مجموعة " كثيرة أنتِ " والذي سعت من خلاله سوزان إبراهيم إعادة الاعتبار للأنوثة ووضع حد لغيابها المزمن على مختلف الصعد وإذا كان ذلك جاء بمثابة رد الأنوثة على الذكورة وممارساتها الفردية والجمعية في آن, فإن ما ذهب إليه الخطاب الشعري في النصوص التي سُميت " بالمرايا " يضع ذات الأنوثة والذكورة أمام مواجهة لشخصها الداخلي أي نظرة الذات لذاتها وإلى مكنونها الذي سلكت سوزان إبراهيم إلى استقرائه منحى صوفياً يعتمد تقصي الماورائية ـ الرؤية الداخلية والميتافيزيقية ـ محاولة الاستفادة مما تسميه الفلسفة الصوفية بالكشف جاعلة المرآة في بعدها الرمزي وسيلة معينة لبلوغ هذا المسعى الذي تقبض فيه الذات على ذاتها وعلى ملامحها الأخرى المتوارية والعميقة التي تبلغ حدّ الحلول والذوبان حباً بالآخر وهو ما دفع الخطاب الشعري الذي يكرس ذات الأنوثة عند سوزان إبراهيم أن يذهب إلى نقيضه داعياً الأنا التخلص من أناها مخاطباً إياها على نحو صريح:
أمام المرآة / أيكما في الآخر؟ /
أمام المرآة / ما الذي يجمعك بك؟../
وحيداً تأتي / وحيداً تمضي / فكن بينهما سواك..ص58
إن سوزان إبراهيم تقيم في هذا السياق تناصاً مع الصوفي الكبير أحمد أبو ماضي القائل: ليس بينك وبين الله إلاّ الأنا فامحوها تلقى المسرة والهنا.. والشاعر العراقي المعروف شوقي عبد الأمير يقول في هذا الصدد: لو أستطيع نسيان اسمي لحفظت كل الأسماء..ثمة مسافة إذاً بين المائل والمأمول والمُتَأمل وثمة ألم مزمن بين الواقع والحلم. وبين مرايا الحضور ومرايا الغياب التي تعود إليها سوزان إبراهيم لتوقظ من خلالها أسئلة قصائدها المجروحة بالتغييب وبالغياب المحيط بالنساء مستفسرة من خلالها:
ماذا تفعل المرايا حين نغيب؟../ حين نغيب نفطمها عن حليب وجودنا../ ألهذا تدمن المرايا / حقائب النساء؟!..
هكذا بين أنوثة الواقع الراهن وأنوثة الواقع الآخر المنشود تمضغ قصائد سوزان إبراهيم مرارتها وإذا كانت قد اختارت لها عنواناً رئيساً " كثيرة أنتِ " لتدل به على المرأة, فإنه جاء محمّلاً بفحوى المرأة الحاضرة الغائبة ليقول لها كثيرة أنتِ في حضورك..كثيرة أنتِ في غيابك وذلك للدلالة على التواجد الأنثوي وتمظهره السطحي والاستهلاكي وعلى التواجد الأنثوي الآخر وحضوره الفاعل الذي يتجلى ويتجسد بالمرأة المثقفة والنخبوية وهو ما يجعل سوزان إبراهيم أكثر مراهنة على الكثرة العمودية العميقة وليس على الكثرة الأفقية العددية التي قد يخدعنا عنوان مجموعتها بها وهي في سبيل هذه المراهنة قدمت نصها بجملة شعرية محمومة بأفكارها المسبقة مما جعل بعضاً من فضاءاتها أسيراً للمفردة التقريرية والذهنية وخصوصاً تلك التي جاءت هاجسة بمعاناة النساء على حساب الصورة الفنية في خطابها الشعري وفي تراكيبها الموحية التي تقلصت مساحتها في العديد من قصائدها مما جعل سياقها متفاوتاً في نواحيه التعبيرية والجمالية..
أحمد حسين حميدان
الأسبوع الادبي
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |