"النكاية" باعثاً للفكر الإسلامي / محمد أمير ناشر النعم
2011-01-09
يظنّ بعض الناس أنّ العلماء والمشايخ ورجال الفكر الإسلامي الغابرين منهم والمعاصرين رهط مؤتلفون، وزملاء في الله، لا تحركهم إلا روح عذبة وإرادة طاهرة، ونحن إن سلّمنا بذلك لبعضهم أو لقلّة قليلة منهم، فإننا نجزم أنّ أكثريتهم ليس لهم من باعث ومحرك ودافع سوى (المنافسة) و(النكاية)، بل نعتقد أن أخوّتهم تناحرية، وصداقتهم تشاكسية، على اعتبار أن العلماء والمشايخ هم أشد تنافساً من التيوس في زريبة واحدة، وفي حومة تطاحنهم تُجدَل أحابيل الدهاء فينتج عنها ما نسميه في العرف العام (مواقف)، وفي خضم تناطحهم تنقدح شرارات متطايرة فنسميها في العرف الفقهي (فتاوى) وفي العرف الكلامي (مقالات).
أما المطلع على المعاصرين فيعرف أنّ كلّ واحد منهم هو أعظم في نفسه من جلفر بين الأقزام، ومن البراق بين الحمير، أمّا المنغمس فيهم فيعرف ما في صدورهم على بعضهم من سخيمة وكتيفة وحسيكة، وما في قلوبهم من غلّ وضغن ووغم ووغر، وليس هذا أمراً طارئاً ولامستحدثاً، فلو رجعنا إلى المؤلفات والكتب التراثية فإننا سنجد توثيقاً كاملاً لما ندّعيه، وخذوا على سبيل المثال الباب الذي عقده الإمام ابن عبد البر في كتابه "جامع بيان العلم وفضله" تحت عنوان (باب : حكم قول العلماء بعضهم في بعض)، ومما نقرأ فيه:
– عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "استمعوا علم العلماء ولا تصدقوا بعضهم على بعض فو الذي نفسي بيده لهم أشدّ تغايراً من التيوس في زُرُبها".
– عن مالك بن دينار : "يؤخذ بقول العلماء والقرّاء [حفظة القرآن] في كل شيء إلا قول بعضهم في بعض فإنهم أشد تحاسداً من التيوس تنصب لهم الشاة الضارب فيثب هذا من ههنا، وهذا من ههنا".
ونقرأ في هذا الفصل عرضاً موثقاً بالأسانيد المتصلة لآراء أئمة العلم في بعضهم بعضاً فيصيبنا الذهول والعجب، فهذا الإمام مالك يصف ابن إسحاق مدوّن السيرة النبوية الأهمّ بـ(دجّال من الدجاجلة)، ويتحدث عن فقهاء العراق فيقول : انزلوهم منكم منزلة أهل الكتاب، لا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا آمنّا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد.
وهذا ابن أبي ذؤيب يتكلم في الإمام مالك بكلام فيه من الخشونة والجفوة ما يُخجل ابن عبد البرّ عن إيراده، أمّا إبراهيم بن سعد فلم يكن يكتفي بالكلام على الإمام مالك بل كان يدعو عليه، وكذلك تحامل على الإمام مالك الإمام الشافعي وبعض أصحاب الإمام أبي حنيفة في شيء من رأيه حسداً لموضوع إمامته، وعابه قوم في مسائل منها إتيان النساء في الأعجاز.
وهذا حمّاد بن أبي سليمان فقيه الكوفة وشيخ الإمام أبي حنيفة يقول لأهل الكوفة بعد أن يعود من مكة : يا أهل الكوفة إني لقيت عطاء وطاوساً ومجاهداً فلصبيانكم وصبيان صبيانكم أعلم منهم.
وهذا الزهري يقول : ما رأيت قوماً أنقض لعرى الإسلام من أهل مكة.
أما الشعبي فيُذكر عنده إبراهيم النخعي فيقول عنه : ذاك الأعور الذي يستفتيني بالليل ويجلس يفتي الناس بالنهار. وعندما يُذكر ذلك لإبراهيم يقول عن الشعبي ذاك الكذاب لم يسمع من مسروق شيئاً.
وأما سعيد بن المسيب وعكرمة، وأما الأعمش والإمام أبي حنيفة فكان بينهم تكذيب وانتقاد واتهام يصل إلى حدّ التخوين.
أما ابن معين فقد كان لديه فضلُ طاقة تجريحية تدميرية لم يسلم منها الأوزاعي ولا الزهري ولا طاووس ولا الإمام الشافعي.
ويقول الذهبي في كتابه ميزان الاعتدال : "كلام الأقران بعضهم في بعض لا يؤبه به، لا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمنصب أو لحسد، وما ينجو منه إلا من عصمه الله، وما علمتُ أنّ عصراً من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئت لسردتُ من ذلك كراريس". ج1، ص: 111.
نعم… إن دارسي التشريع الإسلامي كانوا وما زالوا يدرسون الأسباب الموضوعية لاختلاف الفقهاء ويبحثون عنها في طبيعة النص وفي طرق دلالاته واحتمالاتها إلى آخر ما هنالك من أسباب معروفة مشهورة، ولكنهم لم يمتلكوا الجسارة التنويرية ليدرسوا الأسباب الذاتية النفسية والنفعية التي تحرّك الفقيه أوالعالم لتبنّي رأي على رأي، أو تدفعه للاصطفاف في طابور ضدّ طابور آخر، ولو على خلاف ميوله الهاجعة، ولم يتوجهوا لصياغة ذلك ضمن رؤية بانورامية تجعلنا نفهم ما جرى وما يجري، وما أوردناه للتوّ يكشف لنا حقيقةً لسنا في حاجة للجدال بشأنها من كون (العلماء) ليسوا في قلعة حصينة منيعة من الغرائز والطباع، فهم أولو هواجس، ينتابهم ما ينتابنا من انفعالات، ويحيق بهم ما يحيق بنا من وساوس! ويخضعون لآليات التنافس والتحاسد نفسها التي يخضع لها أرباب المهنة الواحدة، وهذا ما قرره الجاحظ وابن الجوزي، وهذا ما أسهبا في شرحه وضرب الأمثلة له، ولئن أكدا أنّ أهل الظرف قلما يتحابون فيما بينهم، فإنني أؤكد أن (أهل العلم) قلما يتصافون، فضلاً عن أن يتحابوا، غير أنهم يمتازون من الجميع بأنهم ذوو جِبلّة حارة وقائظون، ولا يطيقون شيئاً فوق ذواتهم، فقد اعتادوا أن يكونوا أولاً، وأن يكونوا مُرادين، وأن يكون الناس مريدين تابعين، لذا فهم يَشْقَوْن بالمنافسة ويعيشون حالة من التوهم الكئيب الذي يسومهم سوء العذاب، ويحيون بتأهب دائم لأن تترعرع الحفيظة في نفوسهم ودواخلهم ضد مزاحميهم، ولأنهم بشر فهم يعلمون أنّ النُّجح يسوّغ كل رذيلة، وينسي كل جريمة. ولأنهم بشر فإنّ لهم شياطينهم أيضاً، وهي كشيطان كزنتزاكس الذي يكمن منتظراً وراء فضائلهم لابساً لبوس الفضيلة، وهو واثق أن ساعته ستجيء عاجلاً أم آجلاً، وهي عندما تأتي لا يتجه عملهم غالباً إلا إلى إساءة فهم أقوال المنافس، وإلى تشويه رأيه أوموقفه تشويهاً مسبقاً، ثم إلى محاربته على أنه شيء رهيب وخطير، من دون أن تأخذهم في الله لومة لائم، أما سيوفهم في ذلك فالتقصي الدائب عن لوازم الرأي أوالموقف أوالفتوى وتضخيمها وتهويلها لينقضّوا بها على ذلك الموقف أوليَنقُضُوا بها تلك الفتوى، ناسفين بذلك القاعدة العلمية التي جفّ حلقها وهي تصيح وتنادي : "لازم المذهب ليس بمذهب". وأما حِرَابهم فالحفر والتنقيب في النوايا والبواعث والمقاصد والمرامي، فهم الأقدر على تولي (السرائر) وعلى كشفها وهتكها وفضحها وإبلائها، لأنها أهم من (الظواهر) وأصدق منها، وهي الأساس وعليها المعوّل، بغض النظر عن صلاح (الظاهر) أوصلاحيته للصلاح، وأما سهامهم فالتفتيش والتقميش حول العلاقات الخفية المشبوهة المنسوجة وراء الأكمة، في غفلة منا نحن عباد الله، ومن هنا فإن كثيراً من آرائهم التي يبثونها، أو فتاويهم التي يقدمونها، أو مواقفهم التي يتبنونها ما هي إلا شكل من أشكال الغثاثة المتبادلة المنطوية على متعة إيذاء الخصم وتحطيم المنافس، والتي لا ننكر أنها من أظرف متع الدنيا ومن أطرف نزواتها، وهكذا تنشأ عن الفتاوى فتاوى مضادة، وعن الآراء آراء مخالفة، وعن المواقف مواقف مباينة، وكلها ليس بينها نِسَب منطقية على الإطلاق، لأنها في المحصلة ليست سوى مضاربة على كسب مرضاة ذبذبات السلطة أوالمعارضة أوالشعب، والمحظوظ من هؤلاء (العلماء) من يتغلب بالسعاية والمكيدة والحيلة والاختلاق والقوة والفضيلة والمعونة الربانية.
على أنّ (النكاية) لا تكون في حدود الأشخاص فقط، ولكنها تعبر للمذاهب والطوائف بل والأديان، وهنا تكون (النكاية) في الأعم الأغلب خالصةً لوجه الله، أوليست هذه النية الحسنة أحد أبرز دوافع حركة (الوضع) و(الاختلاق) في الحديث الشريف والسيرة النبوية، والتي اجترحت للنبي محمد صلى الله عليه وسلم إرهاصات ومعجزات تضاهي بل تفوق معجزات عيسى وموسى، (نكاية) باليهودية والمسيحية، ولو راجعنا أسماء الوضّاعين والكذّابين في تراثنا الإسلامي فسنقع على مقولات عدة لهؤلاء كانوا يقولون فيها: "إنما نكذب لرسول الله ولا نكذب عليه". وهي نفسها الدافع وراء إخراج كم هائل من الروايات مما بات يعرف بـ (المناقب والفضائل) التي تتوزع بالتساوي على أفراد آل البيت وعلى أفراد معينين من الصحابة، بل وتطال قبائل وأمكنة وبلداناً، وقد أورد الإمام مسلم في مقدمة صحيحه عن سعيد القطان قوله : لم نرَ الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث.
وببركة مبدأ (الاستصحاب) فإنّ ما صدق على الماضي يصدق بصورة أفدح وأفظع على الحاضر، والأمثلة الحاضرة تملأ أيضاً كراريس، ولكننا نمسك عن إيرادها لمناسبة أخرى
عن موقع الأوان
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |