الكرامة الصوفية و الأسطورة و الحلم – تمهيد / علي زيعور
خاص ألف
2011-01-10
في الكرامة ، و في التصوف بوجه عام ، مرحلتالن متعاكستان : الأولى هي مرحلة الانغلاب التي هي قهر و انسحاق للذات ، حيث نجد الشخصية منجرحة ، مهزومة ، توجه عدوانيتها إلى الداخلا ، و تبخس ذاتها بذاتها ، و تضئل قيمتهات بتخيل مستمر للموت و الذنوب الهوامية ( الفانتازم ). و هنا تتخلى الأنا عن إرادتها ، بل و عن وجودها ، لمصلحة أنا عليا متمثلة في خوف هوامي من الله بل و من الأب و من السلطة عموما أو من الشيخ المعلم. و في المرحلة الثانية ، مرحلة التغلب ، تنقلب الأدوار فيستعيد الصوفي اعتباره لذاته ( جسمه ، روحه ، قيمته ) منتصرا على مخاوفه الهوامية و قلقه و شتى عوامل انجراحه. و بذلك الانتصار يحقق توازنه الانفعالي المفقود ، و يشعر بشخصيته و قد تمثلت القيم العليا التي كان يرهبها. بل إن شعوره بذاته يتضخم ، و يبلغ درجة مرضية قد توقعه في العظام ( بارانويا ) و النفاج ( ميغالومانيا ) و التخريف ( فابيولي ). فمن إذلال الذات ، و اجتياف تبخيسها المستمر ، ينتقل الصوفي إلى أحاسيس بالعظمة ، و إلى التقييم المغالي للذات. هنا يرى نفسه أسمى من المحيط ، و اقدر من الإقران ، فينتفخ و ينتفش و ينتفج ، ذاك ما يدفعه أحيانا كثيرة للتعبير عن إحساساته تلك بالكرامات التي تظهره إلها ، خالقا ، قادرا ، ساميا و من طينة غير بشرية. فهنا يقول أنا الله ، سبحاني ما أعظم شأني ، أنا أحيي و أميت ، لوائي أعظم من لواء الأنبياء ، أنا شفيع الناس كافة يوم القيامة... هنا نزعته للإظهار و الاستعراض ، هنا السلوك الناجم عن " عقدة المشهدية " التي نعرفها كمصطلح شهير في التحليل النفسي.
و في الكرامة جانبان متعاكسان : الواقعي ، الظاهري ، الخارجي ، و ما يقدم للإنسان العادي من جهة ، و الرمزي ، الدلالي ، الإشاري ، أو الإيحائي من جهة أخرى. فالجانب الأول أساء للمجتمع و الفرد إلى حد يجعلني أرى في التصوف أسوأ كارثة حلت بالذات العربية. فهنا الاختلاق ، و احتقار الدهماء ، و التنكر للواقع و الجسد و العقل ، و الانعزال و الانسحاب و السلبية ، و اللاإجتماعي بل و ما هو ضد المجتمعي ، و التوجه نحو الثقافة المَوْتية و القتامة في الحياة. أما الجانب الثاني فيتوجه إلى ما هو نفسي ، إلى عالم الانكفاء على الأنا و الصميم و الداخلي. هنا يبدو العطاء الصوفي ، كرامات كان أم شعرا أو سلوكا و بطولات و ما إلى ذلك ، يطال العالمية ، و يطل على الإنسانية ، و يقدم الإنسان سيدا على مسرح الطبيعة و الحرية و المصير. فهنا يبدو الإنسان دعوة لأن يكون ، و لأن ينوجد و يتقدم ، لأن يسمو فوق تناقضاته و فوق نفسه ، و أن يتخطى المألوف و الشائع و العمومي و العادي و العاداتي كي يخلق نفسه و عالمه و قدره. و هنا تظهر الكرامة خلقا ، أو إعادة خلق بشري للعالم و للقوانين ، و يكون التصوف نداء للإنسان كي يغير و يثور و يصقل الأنا الصميمي وفق قيم الكمال و الحكمة و البطولة. و هنا يظهر الفرد صاعدا إلى المطلق ، مستبدا باستمرار و دون توقف للمثل ، طامحا للتكامل و لبلوغ ذاك المستوى الأعلى الذي يفصل الإنسان عن الله. و هنا يحاور الإنسان الله ، يرضى عن الله ، يقبل الله ، و يجعله في قلبه و قسما من الذات البشرية عن طوع و بقصد و حرية. هنا الثورة الصوفية ، هنا فهمنا للحرية و الله و الآخر و القيم فهما من أسمى و ألطف ما عرفته الذات العربية و ما تستطيع تقديمه للبشرية.
و في الكرامة قطاعان : الواعي حيث يسود الفكر و الوضوح ، و اللاواعي حيث المضمر و المقنّع و الرمزي ، و هما عالمان : عالم الوقائع الخارجية التي تجري فعلا و تحصل أمام العين ، و عالم التجارب الصميمية التي يفصح عنها بواسطة الرموز. لكن المحتوى الخارجي ، الواعي ، الواقعي يتوازى مع المحتوى المضمر للكرامة. من هنا الصياغة بواسطة حوادث و وقائع خارجية و فعلية عن تجارب " روحية " أو صميمية أو صوفية. فالصوفي الذي ، مثلا ، يأتيه الملاك ( أو الجني ، أو الطارق الغريب ) قائلا أخرج إلى الناس أو إلى المسجد ، فيخرج و يحل مشكلة أخلاقية هو صوفي يستمع إلى صوت الضمير ( الملاك ، نداء الله ، الهاتف ... ) بعد عزلة أو جدب أو تردد أو تمنّع. و الذي رفض الخروج من البئر إلا بعد لأي ، و عندما أنقذه الأسد ، هو شخص تجاذبته نزعاته الجسدية من جهة و ضميره من جهة أخرى ... المهم هنا أن القطاع اللاواعي ، بحكم موازاته للعالم الواعي ، و القطاع الخارجي الفعلي ، بحكم موازاته للعالم الذاتي و الروحي ، قد وجدا تعبيرا عنهما بحوادث قابلة لأن تحصل في العياني و أمام العيان. استكشاف اللاواعي ، إذن ، كان في كتابنا هذا بالانتقال مما هو رواية مجريات الواقع و وقائع إلى ما هو تجربة صميمية و أواليات نفسية.
و في الكرامة اتجاهان : اتجاه يرفض المجتمع و الجسد باحتقار ، و ثان هو مرحلة تالية ينصرف عنهما ليعود أقوى ، أو ليبني المجتمع الأكمل ، و الجسد الأسلم انقيادا للقيم.
و فيهما اشتياقان : توق إلى المطلق و اللامحدود و الخلود ، و آخر إلى نسيان قهر الواقع للإنسان و الهروب من الانجراحات ، الخاصة و الفردية ، و منهجان : عملي يمارس الرياضيات و يكابد الجسد ، و فكري يتأمل المطلق و القيم. واحد يروض البدن ، و ثان يصقل النفس من الداخل أو يعمل على " البدن " النفسي. و هنا اندمج المنهجان في مبدأ حياتي هو سلوك ، و طريقة عيش ، و أسلوب تطهر و درب للخلاص و حل مشكلة الإنسان أمام القدر و الموت.
و فيها أيضا لغتان : لغة الكلام و المنطق و الاقناع ، و أخرى أقدر على الإثارة ، و التوجيه ، و التوصيل و الأداء ، و أقرب إلى الإيحاء و الإشارة ، و تدق عن العبارة و الصراحة.
و فيهما ، بعد أيضا ، قطاعان : سوي و مرضي ( باثولوجي ) ، حاضر و سحيق ، متحضر و هعمجي أو ابتدائي. و نوعان من القلق : قلق تجاه المصير ، فتحل المشكلة هنا بإخراج الذات المقهورة من قبل القدر إلى الكل ، و بإدخال الفردي في الرمزي ، و الأنا في المطلق. و قلق إزاء المجتمع و السلطة و شتى رموز الأب القمعي تخفف التوتر الناجم بمحو الذات ، و القفز فوق الواقع طلبا لبلوغ المطلق كي تغرف منه القدرة على التنوير و البناء ، و إزالة ذلك القلق و المخاوف المجتمعية.
بسبب تلك الثنائية في الذات و الوعي – في الكرامة ، في الأمثال الشعبية ، و الإناسة ، و التصوف – تقوم النظرة المتجاذبة و ( المتكافئة أو الثنائية ) القيمة. قد يتغلب خط على آخر ، قد ينتصر الهادم أو الفاتر على الاتجاه البناء و الأخر الإيجابي و الموضوعي ، و قد يتوازنان دون رجحان كفة على أخرى ، أو قد يتصارعان ... ، لكن الإثنين ، معا ، واحد. و هما ، سويا ، نتاج ذات واحدة في مجتمع واحد. لذا فالتجهم – كالرفض الفظ – لا يبني ، و لا يكون عادلا ، و لا يرى إلا بعين واحدة. فالتصوف يعطي حكمة تنبع من صميم الذات العربية و تصلح لأن تخدم الإنسان أو البشرية ، لكنه ، من جهة مقابلة ، يبدو مجملا من السلبيات و الانسحاب و ما إلى ذلك. بل و يبدو ، بعد أيضا ، ظاهرة عالمية ، و لغة عالمية. و ليس عملنا ، في هذا الكتاب ، تقييم التصوف ، و لا عرضه أو مناقشته ، فالقضية التي تهمنا تحلل ما نراه يؤوب إلى اللاوعي في الذات العربية.
**
تبدو الكرامة الصوفية للوهلة الأولى نتائج عقلية لا منطقية أو قبل منطقية : من هذه الزاوية سنقول بتسرع إنها " كذبة " على الذات و الغير. في هذا القول قساوة ، لكنها قساوة ضروررية في المجتمع الذي تكثر و تحيا فيه بقوة كحال مجتمعنا. فهي ما تزال تحتل طبقة عريضة في عقلية الفرد ، و تقود سلوك فئة اجتماعية. و ما تزال بأشكال و ألوان مختلفة مستمرة داخل الذهنية الفردية حتى هذه الأيام : عند الشاعر و الطفل و المنحل عن المجتمع و في حالات مرضية كثيرة ، و في ثنايا بعض تفسيراتنا للظواهر و الكون ، و في حالات عجز العلم عن تقديم إجابة مشبعة ، و إلى حد ما في الاستمتاع النسبي بسماع أو قراءة أو مشاهدة المغامرات السينمائية و القصص الشعبية البطولية.
الكرامة موجودة كالأسطورة ، فقط درجة تأثيرها هي التي تختلف. إنها موجودة في كل العالم ، لكنها عندنا أشد فعالية ، و أكثر حدة ، و ديمومة و اتساعا ، إنها مخيفة داخل الأمة العربية. بعض أساطيرنا ، نجد ما يشبهها في الكثير من بلاد العالم : بعضها موجود دون اختلافات تذكر في أمصار بعيدة عنا ، و عبر أزمنة متعددة. و التشابه في هذا المضمار يبلغ درجة مدهشة في بعض الحالات مما يدعو إلى البحث في كراماتنا و أساطيرنا عن رموز عالمية و شاملة ، تهم الإنسان عامة ، كل إنسان.
يبدو قبل كل أمر أن الكرامة فكرة و تطبيق ، واقع و نظر ، كلام و سلوك ، إنها حالة معاشة ، و حقيقة تمارس. يذكرها الصوفي مقتنعا ، و يقدمها على أنها حصلت و تحصل فعلا... و على هذا المبدأ يتوجه في حياته و أقواله ، و يلتف حوله مؤمنون و به واثقون. فيتهم هؤلاء بعدم الفهم من لا يصدق الكرامة ، و يعزون إلى الله سبب عدم هداية المتشكك و سبب اجتراحها عند الصوفي ، المسمى أحيانا " ابن جد " في التعبير الدارج.
قراءة الكرامات نافعة : فهي نافذة واسعة على اللاوعي الشعبي ، و على التمثلات الاجتماعية التي لم تتحقق ، و الأحلام المرجوة ، و هي طريق لاحب إلى معرفة التاريخ الروحي للشعوب الإسلامية. و توفر إمكانيات استكشاف الصراع داخل الذات المتصوفة في مآسيها المتلاحقة ، و تظهر بمثابة وسيلة لدراسة قدرتها الخيالية الخلاقة. عبرها و بها تعرف التأثيرات الدينية في سير الإنسان ، بل و في التاريخ العربي ، و يتم التقاط التاريخ الترهي العربي ( و الإسلامي عموما ) ، و تقميش الأساطير العربية – الإسلامية ، و الإطلالة على القطاع الأنثروبولوجي.
من مقدمة كتاب الكرامة الصوفية و الأسطورة و الحلم للدكتور علي زيعور. منشورات دار الطليعة ببيروت. 1977 .
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |