بداية الترجمات العربية وحقيقة "بيت الحكمة" /محمد نعيم
2011-02-02
من الواضح أن زمن انتقال الفلسفة إلى فضاء الحضارة العربية الإسلامية مسألة يلفها كثير من الغموض وليس بين أيدينا أدلة صُلبة يمكن التعويل عليها في إصدار أي حكم قاطع ونهائي. والأمر غير متوقف على زمن انتقال الفلسفة فقط، بل يمكن القول: إن زمن الترجمات العربية لنصوص الحضارات القديمة، سواء العلمية أو الفلسفية، غير محدد بشكل دقيق؛ فرغم أن كثيرا من المصادر العربية قد عملت على ربط زمن الترجمات العربية للنصوص القديمة ب"بيت الحكمة" وزمن الخليفة المأمون(1)، فإن الدراسات المعاصرة المتخصصة والجادة، أعادت النظر في هذا الادعاء، وبينت أن الترجمات العربية أنجزت قبل عصر الخليفة المأمون، وهذا يعني أن زمن اطلاع العرب المسلمين على علوم الحضارات القديمة يعود إلى الفترة الأولى من عصر الفتوحات الإسلامية واحتكاك المسلمين بغيرهم من أصحاب الديانات الأخرى، لأن الجدل المستمر بين المسلمين من ناحية والنصارى والأمم التي دخلت في الإسلام بثقافتها الهيلينية من ناحية أخرى كان لابد أن يؤدي إلى إثارة اهتمام المسلمين بالفلسفات والعلوم(2).
لكن المسألة التي بقيت معلقة ترتبط بطبيعة هذه الترجمات المنجزة مبكرا وبقيمتها العلمية، فالترجمات المنجزة في العصر الأموي كان باعثها، أساسا، هو الهم التنظيمي، لأنه بعد الفتوحات العربية الأولى أصبحت الترجمة من اليونانية إلى العربية، خلال الفترة الأموية، أمرا ضروريا في تدبير شؤون الدولة والحياة اليومية. وقد اقتضت المصلحة، من أجل الحفاظ على استمرار الأمور، أن يحتفظ الأمويون الأوائل بالموظفين الناطقين باللغة اليونانية في إدارة الدول في عاصمة الخلافة(3)، لكن السؤال المعلق هو هل رافق هذه الترجمات، المنجزة للمسائل التنظيمية والإدارية، ترجمات للكتب الفلسفية والعلمية، أم أن الأمر بقي مقتصرا على مسائل الدواوين وتدبير شؤون الدولة؟
حسب المصادر العربية، فإن ترجمة الكتب الفلسفية والعلمية ومنها الطبية والخيميائية بدأت مع العصر الأموي، حيث تخبرنا أن الأمير خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان كان أول من اشتغل بعلوم الأوائل، وهو بذلك قد عوَّض الخلافة التي آلت لعبد الملك بن مروان. ولتوضيح المسألة ما علينا سوى استحضار روايات المصادر العربية في هذا الشأن، وهكذا نبدأها برواية ابن النديم الذي يقول فيها: " كان خالد بن يزيد بن معاوية يسمى حكيم آل مروان، وكان فاضلا في نفسه، وله همة ومحبة للعلوم، خطر بباله الصنعة، فأمر بإحضار جماعة من فلاسفة اليونانيين ممن كان ينزل مدينة مصر، وقد تفصّح بالعربية، وأمرهم بنقل الكتب في الصنعة من اللسان اليوناني والقبط على العربي، وهذا أول نقل كان في الإسلام من لغة إلى لغة" (4) ثم بعد هذا يضيف: " وهو أول من ترجم له كتب الطب والنجوم، وكتب الكيمياء… ويقال والله أعلم، إنه صح له عمل الصناعة(=الخيمياء). وله في ذلك عدة كتب ورسائل. وله شعر كثير في هذا المعنى ورأيت منه نحو خمسمائة ورقة. ورأيت من كتبه؛ كتاب الحرارات. كتاب الصحيفة الكبير. كتاب الصحيفة الصغير. كتاب وصيته إلى ابنه في الصنعة"(5). أما حاجي خليفة صاحب كشف الظنون فيقول: " أول من تكلم في علم الكيمياء ووضع فيها وبين صنعة الإكسير والميزان ونظر في كتب الفلاسفة من أهل الإسلام خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان… وذلك لأنه وفى لعلي واعترف له بالخلافة وترك الإمارة"(6). ونجد أيضا رواية ابن خلكان تقول: " أبو هاشم خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الأموي؛ كان من أعلم قريش بفنون العلم، وله كلام في صناعة الكيمياء والطب، وكان بصيرا بهذين العلمين متقنا لهما، وله رسائل دالة على معرفته وبراعته، وأخذ الصناعة عن رجل من الرهبان يقال له مريناس الراهب الرومي، وله فيها ثلاث رسائل تضمنت؛ إحداهن ما جرى له مع مريناس الراهب المذكور، وصورة تعلمه منه، والرموز التي أشار إليها، وله أشعار كثيرة مطولات ومقاطع دالة على حسن تصرفه وسعة علمه"(7).
لكن إلى أي حد يمكن التعويل على هذه الروايات والتسليم بأن ترجمة الكتب الفلسفية والعلمية إلى اللغة العربية قد تمت فعلا في العصر الأموي، بل وأن أميرا أمويا اشتغل بهذه الصنائع وأبدع فيها ؟ خصوصا وأن للاعتراض الذي أقامه ابن خلدون وجاهته حين قال: " ومن المعلوم البين أن خالدا من الجيل العربي، والبداوة إليه أقرب، فهو بعيد عن العلوم والصنائع بالجملة، فكيف له بصناعة غريبة المنحى مبنية على معرفة طبائع المركبات وأمزجتها، وكتب الناظرين في ذلك، من الطبيعيات والطب لم تظهر بعد ولم تترجم. اللهم إلا أن يكون خالد بن يزيد آخر من أهل المدارك الصناعية تَشَبّه باسمه، فممكن"(8).
إذن فاستنادا إلى رأي ابن خلدون نرى أن المجتمع الإسلامي في عهد بني أمية كان مجتمعا بدويا ولا يزال في بداية انتقاله إلى طور العمران المدني(9) وبالتالي فمن المحال أن تظهر فيه مثل هذه الصنائع لأنها من صميم المجتمعات المدنية، لذلك فقد أُرجع السبب في ذلك إلى أن تعلم العلم، من جملة الصنائع وهي "إنما تكثر في الأمصار. وعلى نسبة عمرانها في الكثرة والقلة والحضارة والترف تكون نسبة الصنائع في الجودة والكثرة، لأنه أمر زائد على المعاش. فمتى فضلت أعمال أهل العمران من معاشهم انصرفت إلى ما وراء المعاش من التصرف في خاصية الإنسان، وهي العلوم والصنائع"(10). ورغم أن صاعد الأندلسي يذهب مذهب ابن خلدون في القول بابتعاد العرب في بداية الإسلام عن العلوم، إلا أنه يستثني صناعة الطب و يقر لخالد بن يزيد بصناعة الخيمياء، حيث يقول: " وكانت العرب في صدر الإسلام لا تعني بشيء من العلوم إلا بلغتها ومعرفة أحكام شريعتها حاش صناعة الطب فإنها كانت عند أفراد من العرب غير منكورة عند جماهيرهم". ثم يضيف إلى جماعة الأطباء خالد بن يزيد فيقول: " وكان منهم خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان وكان بصيرا بالطب والكيمياء وله في الكيمياء رسائل وأشعار بارعة دالة على معرفته وبراعة فهمه"(11).
ومن المعلوم أن كثيرا من الدارسين المعاصرين يؤكدون رأي ابن خلدون المشار إليه، فمنهم من اعتبر أن ما روي عن ترجمة كتب في الكيمياء والتنجيم وغير ذلك من العلوم العربية للأمير الأموي خالد بن يزيد أمر تم اختلاقه في زمن لاحق(12). ومنهم من ذهب إلى القول : أنه ليس من شك أن خالد بن يزيد حفيد معاوية بن أبي سفيان أول الخلفاء الأمويين قد أظهر ميولا علمية، وكان لديه اهتمام خاص بالخيمياء. لكن بالرغم من أن حقيقة هذه الميول قد ضاعت في ظلام الأساطير فإن كتب الخيمياء التي تنسب إلى خالد بن يزيد منحولة في مجموعها(13). ولقد عثر روسكا من جهته على أحد الكتب المنسوبة لخالد بن يزيد، لكنه بعد الفحص والتمحيص أثبت أن الكتاب منحول؛ لأنه من جهة يشبه كتب القرن الثالث عشر الميلادي، ومن جهة ثانية لم يجد ذكرا لمثل ذلك الكتاب في المؤلفات الخيميائية التي كانت تستلهم الكتابات السابقة(14).
ولا شك أن مسالة بداية العلوم مع خالد بن يزيد يلفها الكثير من الغموض وتكاد تتكافأ فيه الأدلة بين المنكرين والمثبتين، وما يمكن التعويل عليه لإثبات صحة نسبة العلوم للأمير خالد هو ما ذكرته المصادر العربية القديمة ومن بينها ما ذكره جابر بن حيان، من أن خالد بن يزيد كان على دراية بعلم الخيمياء وأنه أخذ ذلك عن خيميائي إسكندري يسمى مريانس(15) . الشيء الذي يدفعنا إلى الاتفاق مع هولميارد الذي أشار إلى أن نفي روسكا لصحة نسبة الخيمياء لخالد بن يزيد أمر مبالغ فيه، وليس هناك سند علمي لذلك، وهذا ما كان قد نبه إليه مجموعة من الدارسين أمثال ستبلتون Stapleton مبينين أن طريقة روسكا في تعامله مع خالد بن يزيد غير مثمرة، خصوصا أن الأمر يتعلق بمجال الخيمياء وهو مجال غامض جدا(16).
وعموما فإننا نميل إلى ترجيح الرأي الذي ينافح عن أن بداية الترجمات العربية لعلوم الأوائل، ومن بينها الطب والخيمياء، كانت مع العصر العباسي الأول، لأنه العصر الذي توفرت فيه مختلف شروط تحققها. حقا فالعباسيون هم من تمكن من دمج الثقافة التي كانت سائدة في البلاد الواقعة شرقي العراق مع المجرى الرئيسي لثقافتهم، فتم تشييد حضارة جديدة ومركبة من الناحية البشرية والثقافية، فنتج عن ذلك إيديولوجيا ترضي متطلبات المسلمين على اختلاف انتماءاتهم العرقية والمذهبية، وفي نفس الوقت تعبر عن طموحات الجماعات البشرية ذوات الانتماءات الحضارية الأخرى، لأنها كانت بمثابة خليفة الأسر الإمبراطورية في العراق وإيران من البابليين إلى الساسانيين(17)، ولكن ذلك لم يمنع من وجود اجتهادات شخصية سابقة في ترجمة العلوم عند بعض الأمراء وبعض الأسر الميسورة منذ العصر الأموي.
إذن لا يجوز بأي حال من الأحوال ربط الترجمات العربية للكتب العلمية والفلسفية ببيت الحكمة، لأن هذه المؤسسة تمت أسطرتها وتضخيم دورها في زمن لاحق، فبيت الحكمة، من جهة دلالته يحيل إلى المكتبة باللغة الفارسية، وهذا يعني أنه كان عبارة عن مكتبة فحسب، وعلى رأي غوتاس ديميتري "فإن دور بيت الحكمة " كان القيام ينسخ كتب تروي حكايات التاريخ الوطني وقصص الحرب والحب الإيرانية….والفقرتان اللتان نملكهما في الفهرست حيث تمة إشارة إلى نشاط الترجمة، فإن هذه يقصد منها الترجمة من الفارسية إلى العربية لا من اليونانية"(18). ومع كل هذا يجوز القول بأنه في أول زمن الخلافة العباسية، طبعا قبل خلافة المأمون وحكاية بيت الحكمة، يصح الحديث عن مشروع للترجمة، بواعثه بالأساس إيديولوجية، تبنـته الدولة وجندت له وسائل مادية وبشرية لإنجازه، وهو مشروع تضمن كل العلوم والصنائع المعروفة في ذلك الوقت ومن بينها صناعتي الطب والخيمياء.
الهوامش:
1- حكي ابن النديم أن منام المأمون الشهير " من أوكد الأسباب في إخراج الكتب، فإن المأمون كان بينه وبين ملك الروم مرسلات، وقد استظهر عليه المأمون، فكتب إلى ملك الروم يسأله في إنقاذ ما يختار من العلوم القديمة المخزونة المدخرة ببلاد الروم، فأجاب إلى ذلك بعد امتناع، فأخرج المأمون لذلك جماعة، منهم الحجاج بن مطر، وابن البطريق، وسلما صاحب بيت الحكمة، وغيرهم" أبي الفرج، بن إسحاق، الفهرست، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط، 2، 2006.
ص. 397- 398.
2- نافعة، حسن، ليفورد، بوزرت، تراث الإسلام، ص. 128.
3- غوتاس ديمتري، الفكر اليوناني والثقافة العربية، ترجمة وتقديم، نقولا زيادة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2003. ص. 61.
4- ابن النديم، الفهرست، ص. 396.
5- ن، م، ص. 544- 545.
6- حاجي خليفة، كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د، ت.، ص. 1531.
7 - ابن خلكان، وفايات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، دار صادر، بيروت. د، ت، ص. 224.
8 - ابن خلدون، المقدمة، تحقيق عبد السلام الشدادي، ثلاثة أجزاء، بيت الفنون والعلوم والآداب، ط، 1، الدار البيضاء، 2005، ص. 165.
9 - لقد كان ابن خلدون يتصور أن العلوم الشرعية هي الأساس في المجتمع البدوي، فإذا تطور هذا الأخير تقلص دور العلوم الشرعية وانحصر في التنظيم والتهذيب وفتح المجال للعلوم العقلية لأنها المناسبة للعمران المدني.
10- ن، م، ص. 356.
11- صاعد الأندلسي، طبقات الأمم، طبقات الأمم، تح.ح. بوعلوان. دار الطليعة، بيروت، 1985، ص. 126- 128.
12- غوتاس ديمتري، الفكر اليوناني والثقافة العربية، ص. 63.
13- نافعة، حسن، ليفورد، بوزرت، تراث الإسلام، ص.128- 129.
14- محمد يحيى الهاشمي، الإمام الصادق ملهم الكيمياء، دار الأضواء، بيروت، 1986. ص. 29.
15- بول كراوس، مختار رسائل جابر بن حيان، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط2، 1994، ص. 529.
16- E. J. Holmyard, Alchemy, Dover publications, 1990. p.66.
17- غوتاس ديمتري، الفكر اليوناني والثقافة العربية، ص.71.
18- ن،م، ص. 113.
عن موقع الأوان
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |